العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4948 - 2015 / 10 / 7 - 13:37
المحور: الادب والفن     

مضى شهر، والأم طريحة الفراش، إلى جانب الشموع والعذراء والصلبان. تناوبت مارتا وامرأة لحسن السهر عليها، واعتنتا بأنطوان والبيت. ضاعفت مارتا ساعاتها كخادمة مياوِمة، لتساعد الأم ماليًا. وحصل معي أيضًا أن أقدم لها ما أقتصده من عدم تناولي الطعام في الكانتين، كذلك خص أنطونيو وإيزابيل الأم بمبلغ ضئيل.
كانت المفاجأة عندما أعلمنا أنطونيو أنه سيتزوج من إيزابيل! اهتاج جان على فكرة انفصاله عن أنطونيو، بعد قرض من البنك، سمح لأنطونيو بشراء شقة بحجرتين في إحدى البنايات الحديثة التي شيدوها على الرصيف المقابل. عندما لاحظ عليه جان أنه يترك الجنة إلى النار، ضحك أنطونيو في البداية، ثم أوضح أنه يحب إيزابيل، وأن الجحيم معها هو النعيم. سيعيش ككل الناس بالتقسيط، في وئام مع نفسه ومع جيبه، وسيفبرك ولدًا أو ولدين، لن يفعل أبدًا كأبيه. سيتكلم أبناؤه الفرنسية بطلاقة، وهو سيمكنه أن يعيش كل حياته في فرنسا. وشمس البرازيل؟ وشواطئها؟ وبناتها؟ بالنسبة له، ليس هناك أحد غير إيزابيل.
انتقل جان ليسكن مع عصام، هكذا سيتقاسمان الإيجار، المثقل بعد زيادته. سعدت مدام ريمون للمرة الأولى، لأنها أجرت أستوديو جان وأنطونيو لعائلة فرنسية. الأب والأم في الأربعين، والابن في الرابعة. لديهم تلفزيون، الأول في الرَّدْب. لا يفارقونه أبدًا، ولا يخالطون أحدًا. حتى السلام الذي نطرحه عليهم، لا يجيبون عليه. تجاهلونا، ولم ينظروا إلينا، لم ينظروا كذلك إلى منازلنا. لا يحبوننا، رغم أننا لم نفعل لهم شيئًا. وعلى العكس، كانوا يحيون بكثير من الأدب زبائن الطبيب البيطري، عندما يلتقونهم، ويبتسمون لهم ولكلابهم. سعوا للتعاطف مع طبيب الدواب الذي كان يجيبهم بابتسامته المختصرة، ويدخل عيادته بسرعة.
قضى عصام وجان معظم وقتهما الحر في لعب الورق، وجان يخسر دومًا، ويستدين من الآخرين، يستدين من عصام أحيانًا. كان يلعب كذلك في الرهان المثلوث، على أمل أن يربح الجائزة الكبرى، التي ستضع حدًا لهمومه. في إحدى نهايات الأسبوع، ذهب جان ليزور أمه، في مارسيليا، فجاءت أوديت، وأخذت ترتب الغرفة، بغضب، لأنها غرفة تأنف من سكنها الكلاب. خرج عصام ليشتري خبزًا، فنظر إليها أقرباء لحسن، وهي تنحني، ولمحوا فخذيها أو طرفًا من نهديها. عندما خرجت لتنشر الغسيل في الرَّدْب، ولتغري بفستانها القصير الجليد، تعمد أحدهم المرور من ورائها، التصق بها، ودفع يده بين ساقيها، قبل أن يبتعد كالطائر الغريب. أصابها الرعب، وهي تفغر فمها، غير قادرة على فعل شيء آخر. سارعت بالدخول، وانفجرت باكية، كأنها تقيء الشرر من عينيها.
أخبرت عصام بالأمر، فتمالك نفسه، وحدّث حسين. قالا نحن اثنان، ضد أربعة. فكّرا في عادل، لكنهما قالا إنه مثقف لا فائدة منه. انتظرا إذن عودة جان، الذي بقامته يساوي رجلين. أول ما حضر، ذهبوا ليطرقوا الباب على أبناء العم. أهلكوا بعضهم ضربًا، وقذف عصام صاحب الفعلة في عُرض الطريق. هدده بالقتل إن وضع قدمه في الرَّدْب ثانية ثم، دخل حجرته، أقفل الباب بالمفتاح، وأخذ يضرب أوديت، وهي تصرخ، وهو ينعتها بكل الموبقات: "قحبة! شرموطة! قذرة! عاهرة! ابنة عاهرة!" وحسين الواقف خلف النافذة يستحلفه أن يتوقف. كل الرَّدْب كان هنا، في الخارج، خِلْط مِلْط، حتى أم ماري تحاملت على نفسها، وجاءت. ما لبثت صرخات أوديت أن توقفت، فظن البعض أنها ماتت. ثم سمع الكل آهات دَنِفة، فابتسموا، وعادوا إلى عُرُنِهِم.
في المساء، جاء لحسن ليعيد الأمور إلى نصابها.
- إنهم أولاد جهلة، قال لعصام، لا يعرفون مصلحتهم. يظنون أن الحياة هنا ماخور، وأن بنات العائلات بالمجان فضلاً عن ذلك. تركوا البلاد، وليس في رؤوسهم سوى هذا: النقود والنساء وأفلام البورنو. هم لا يخافون الله في كل هذا، إلى درجة أن لأحدهم عملاً جيدًا تركه ليرضي رغباته، كما كان يعتقد، ويصبح مليونير بين عشية وضحاها. ليس ذنبهم، فهم شبان، وكل الشبان هم هكذا، خاصة إذا كان الرجل، والحالة هذه الأب أو العم، يقيم في الغربة، ويقتل نفسه من أجل لقمة العيش. ماذا باستطاعتها أن تفعل، المرأة؟ إنهم لا يخشون أمًا ولا جدةً ولا أختًا أو غيرهن، حتى أنهم لا يترددون أحيانًا عن التطاول عليهن باليد أو نعتهن بكل الموبقات. اللهم استرنا من هكذا جيل!
قدم لحسن اعتذاراته، قَبَّلَ جبين عصام، ورجاه أن يغفر لهم. جاء الأقارب، بدورهم، واعتذروا. في الغد، رأيناهم يلعبون الورق مع عصام، وهم يخسرون ويربحون، ويتكلمون عن ارتفاع الأسعار، وندرة الأعمال، إلا أنهم أكدوا حتى ولو ماتوا من الجوع، فلن يرجعوا أبدًا إلى بلدهم، لأنهم يحسون هنا بالفعل، بالحرية التي ليست لهم في بلدهم!

* * *

رفضت الإدارة التفاوض مع النقابات، وبدأ عمال الشهوة يغلون غضبًا. اتفقوا على أن يُمَارَس الضغط بخصوص كل عمال مصانع النسيج، وبشكل متوازٍ تحاول النقابات العمل على قبول المفاوضات، وإلغاء قرار رب العمل. أرادوا بالمناسبة ذاتها تخفيض وقت العمل، لتذوق القليل من ملذات الحياة. بقي احتلال المصنع الإمكانية الوحيدة في حالة الفشل، ولا يعني الاحتلال وقف الإنتاج. غير أن مواصلة الإنتاج يفرض منطقيًا استخدام محروقات ومواد أولية بين يدي الإدارة. وإذا لم تسمح باستخدامها؟ كل شيء يتوقف على مخرج المفاوضات.
قلت لبيير أن يعيرني "الحُلم"، فسألني إن كان لدي اشتراك فيها، أجبت لا.
- لماذا لا تشترك فيها؟ قال لي.
- سأرى، أجبت.
كان يفضل شراءها كل صباح ليقرأ أخبارًا طازجة، بدلاً من استلامها متأخرًا في المساء. جاء رونيه، وحكى لنا أنه استلم تهديدًا بالحجز على متاعه وبالطرد. لم يدفع فواتير الكهرباء، لم يستطع الدفع. اقترح بيير أن يلجأ إلى إعانات الدولة، قال هذه الأجهزة، في الواقع، هي الدولة، في المجتمع الحديث، أوجدها التطور، والتطور انوجد بها على أكتافنا، وبه يحل التفاعل محل الصراع.
- نحن لا مشكل لنا مع رب العمل في وضع طبيعي للعمل، أضاف بيير، مشكلنا ليس أدوات العمل، مشكلنا العمل، فها هي أدوات العمل في ثوبها الجديد، والتي لم يزل بعضها في ورقه، يُلقى بها في مخازن الخردة. عند فقدان العمل، تصبح أدوات العمل بلا قيمة. إذن، العمل قبل أدوات العمل. خذوا أدوات العمل، يقول رب العمل، وأعطوني عملكم. عملكم أهم من أدوات العمل. أدوات العمل، لو عدنا إلى الحقيقة، مِلكية للعمال، والعمل مِلكية لرب العمل. لامتلاك العمل، يعمل رب العمل كل ما يقدر عليه: "رَوْبَتَة" أدوات العمل، الانتقال بأدوات العمل إلى أي مكان في العالم يسيطر فيه على العمل بشكل أفضل، بشكل يقتسم فيه الربح مع العمال بشكل أوفر: عن طريق البورصة، عن طريق الأسهم، عن طريق القروض، وعدم التساوي في الاقتسام، الكثير له والقليل لنا، غير مهم طالما أن هذه الطرق السابقة توفر لنا العيش أحسن من آبائنا، وبشكل أفضل، بشكل متفاعل مع زمننا لا متصارع بيننا، والتصارع، لو كان، كما هو وضعنا اليوم، التصارع حول العمل، ليكون التفاعل سمة للعصر، سمة للتطور، سمة للورود في الحدائق بعد ذوبان الجليد.
بعد الكانتين، ذهبنا كعادتنا لنشرب القهوة في الحانة الصغيرة، لم يتوقف رونيه عن الشكوى، وكلنا نقول له نحن هنا، لن نتركك وحدك، اعتمد علينا، أنت أحسن واحد فينا، ورونيه عند سماعه لكلماتنا يشرق ككوكب لم يهتم أو يًعنى به أحد منذ وقت بعيد. نسي نفسه، فحل ضحكه محل عبوسه، ونسي العالم، فوجد عالمه بعد أن أضاعه. استعاد الثقة بنفسه، وبدا مغترًا بكونِهِ، بالكون الذي له، وكنا نحن بعواطفنا نحوه هذا الكون. عندما أراد كل واحد منا أن يدفع حسابه، قفز رونيه مانعًا إيانا، كان يصيح كالحيوان الشرس الذي حطم قضبان قفصه، وقال إن فاتورة الجميع عليه. أخرج من جيبه ظرفًا مليئًا بالأوراق النقدية تحت نظراتنا المتباينة كآرائنا، وألقى:
- أين الثريا من يد الراغب!


يتبع القسم الأول الفصل الرابع عشر