التنوير3: أركان التنوير كيف؟


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4881 - 2015 / 7 / 29 - 19:23
المحور: الادب والفن     

العلم والثقافة
هل يكفي بناء المدارس والجامعات لندخل من الباب العريض للعلم والثقافة؟ هل نشعل أنوار المعرفة بالشهادات المزورة؟ هل نخرج من أنفاق الجهل والتخلف والخرافات بطلب رسمي من جلالة الملك أو سيادة الرئيس؟ هل نلهث راكضين من وراء أصحاب العلم والثقافة في الغرب راجين متوسلين أن يمنوا علينا بالقليل من تقدمهم؟ إن كنا أثرياء إلى حد التخمة، بإمكاننا أن نشتري حتى القمر، حتى زحل، حتى المريخ، فهل نشتري جامعات أكسفورد وهارفارد والسوربون، ونقول نحن ظفرنا بالعلم والثقافة، فنهنأ، وننام ملء جفنينا؟ الشرط الأول لكل علم وثقافة هو بناء المدارس والجامعات، ولكن للشرط شرط، ليس البرنامج، ليس المعلم، ليس الأداة، كل هذا شيء مفروغ منه، سيقول لي قائل –ويا ما أكثر ما يردده الكثيرون ترديد الببغاء لأبنائها- يجب أن يتم كل هذا في إطار النمو التدريجي للأمل العلمي الذي تعطش إليه مجتمعاتنا، للرجاء الثقافي الذي انعدم أو يكاد في صدورنا، فينقلنا إلى وضع من المستحيل تحقيقه في الحال، إلى مستقبل بعيد لا يضمنه أحد، وبدلاً من الدخول في "الموضوع" مباشرة، التشمير عن السواعد والبدء بالعمل، يتركنا في حالة انتظار أن يمن علينا النمو التدريجي، هذا إذا ما داوم النمو على النمو في بلداننا التي لم تعرف النمو أبدًا، بتحقيق ما نأمل في العلم، وما نرجو في الثقافة. لا يوجد نمو تدريجي في حالتنا، من العبث كل هذا، فالنمو المعرفي من النمو الاقتصادي، وعلى عكس كل ما قاله لنا أشاوسنا الاقتصاديون وكل ما دبجوه من ملايين المقالات، نمو اقتصادي في الواقع لا يوجد، نمو بمعنى النمو، يعني طفولة شباب شيخوخة فموت، وإلا ذهب بنا هذا النمو بعد طفولة فشباب فشيخوخة إلى المقبرة. هناك حالة ثبات من النمو، أدعوه بالنمو النيِّر، يمكن الدخول فيها مباشرة، اليوم قبل الغد، والتخلص من العنف السياسي والعنف الاقتصادي اللذين هما أقوى تدميرًا من العنف العسكري، أقوى هولاً من القنبلة النووية، التخلص إلى الأبد من هذين العنفين الممارسين علينا من قبل الشركات المتعددة الجنسيات. إذن حالة ثبات من النمو كيف؟ بكل بساطة سنقلب المقولة المعروفة "الغاية تبرر الوسيلة"، لتكون "الوسيلة تبرر الغاية". أولاً) العقلانية كغاية تؤدي بنا على الرغم منا إلى التنافس كوسيلة غير مشروطة، وبالتنافس نجد أنفسنا في قلب النمو النيِّر. ثانيًا) القوة المحولة للواقع كغاية، وبعد ذلك، كرد فعل طبيعي، قوة تحويل الواقع، تؤدي بنا على الرغم منا إلى التقدم التقني كوسيلة غير مستحيلة، وبالتقدم التقني نجد أنفسنا في قلب النمو النيِّر. ثالثًا) إشباع الرغبات كغاية، رغبات الفرد تحت كافة المعاني وليس فقط المعنى الاستهلاكي، يؤدي بنا على الرغم منا إلى المعرفة كوسيلة غير ضيقة وغير مغلقة على نفسها، وبالمعرفة نجد أنفسنا في قلب النمو النيِّر. رابعًا) القيم الإنسانية كغاية تؤدي بنا على الرغم منا إلى الماركتنج كوسيلة غير متوحشة، إلى قيمنا الحقيقية سواء أكانت دينية أم عرقية أم أخلاقية، وبالماركتنج نجد أنفسنا في قلب النمو النيِّر. خامسًا) مكاننا الشرعي كغاية في عالم مفتوح على الإنسانية لا مغلق، كما هو عالم العولمة، على كمشة من السوبر مليارديريين الناهبين لثروات العالم، المخضعين لنا بكل الوسائل التي تبرر غاياتهم الدينصورية في سحقنا، وخنقنا، فقط سحقنا، فقط خنقنا، يؤدي بنا على الرغم منا إلى القوة التقنية-العلمية كوسيلة غير مفروضة علينا وغير مستغِلَّة لنا، وبالقوة العلمية-التقنية نجد أنفسنا في قلب النمو النيِّر.

الرأي العام
يتراوح الرأي العام في درجة حرارته بين بارد وحام، وفي كلتا الحالتين هو يائس، قانط، محبط، موهن، خريان تحته، فالمجتمع العربي انحط من مقامه، ورياح الربيع العربي التي أنعشته، وأبدت عن وجهه الفتان، سرعان ما أُسكنت بل سُحقت تحت طواحين الدكتاتورية أو بساطير العسكرية، والأهم من هذا وذاك النهش الفتاك اليومي الذي لا يشبع ولا يكل لماكينة القمع الإيديولوجي: تحقير الذات دون هوادة، خلط الأوراق دون ذمة، التلاعب بالمشاعر بسبب أو بدون سبب، التعتيم، التيئيس، التضريب، مهاجمة الوعي تحت كافة أشكاله، وخاصة ترسيخ الشعور بالدونية في اللاوعي، بالهزيمة الأبدية، بالقطيعة مع تاريخنا، تلويث هذا التاريخ ببراز الكذب، بالتكذيب، بالتهديد، بالتلويح بكل ما ينزع من الإنسان إنسانيته، بنقلنا، خاصة بنقلنا، إلى زمن غير زمننا، زمن انتهى ولن يعود إلى الأبد، لكنه يعود بالسفاهة، بالقذارة، بالحقارة، وعلى أيدي السحرة من إرهابيي الكلمة، يعود بالبذاءة، ليعوّدونا على حقارة لم نعتدها، ويلهون بنا عن مسائلنا الجوهرية، مسائلنا الحياتية اليوم، ملقين بنا في مسائل الماضي، مسائل عمرها آلاف السنين أحيانًا: إنه عالم العهر في البنية الفوقية على أكمل وجه. فكرة النمو النيِّر والحال هذه فكرة مستحيلة، تلاشت في الوعي، هذا صحيح، ولكن قبل ذلك في السِّلَّم الاجتماعي، وبالتالي أية فكرة تحت فكرة النمو النيِّر لم تعد مطروحة على مستوى التقدم الاجتماعي لا الآن ولا الغد، في الغروب الحضاري كما نحياه، وإن شئت بكلمة أخرى تصدمك، في الانحطاط. في وضع كهذا نحن مرضى بالفعل، ومع ذلك، الغريب في ذلك، لا تتسلط علينا فكرة الانتحار! ليس هذا لأننا انتحرنا منذ وقت بعيد، لا سمح الله، وليس هذا لأننا انتهينا ولا فائدة ترجى منا، وهذا ما يدفعني إلى الأمل فينا، أقوى أمل، لأن في العهر صفة لوضعنا، من قلب العهر يولد الشرفاء، من قلب العهر ينهض الرجل الجديد في كل واحد منا، من قلب العهر –لا بد من العهر مرحلة- نفتح أعيننا على أنفسنا وعلى العالم. لا وسيلة تبرر الغاية هنا، ولا غاية تبرر الوسيلة، وإنما الكيفية التي نبدل فيها رؤيتنا إلى الأشياء: أولاً) بناء وعي ثقافي يقوم على نقد فكرة التخلف، وليس فكرة التخلف فقط بل وفكرة التقدم، وذلك عن طريق تقاسم زوال الوهم ما بيننا. ثانيًا) لداعش ما هو إيجابي أعظم ما يكون، ما هو أكثر من إيجابي، ربما كان شيئًا خلاقًا علينا، ألا وهو أنها وجهت ضربة قاضية إلى كل ما هو متخلف في الدين أو باسم الدين، وأبتعد أكثر حينما أقول إلى كل ما يمكن دعوته بالتعصب كدين، بالبربرية كدين، بالسلطة كدين، بكل شيء مذل ومهين كدين، ومن هذه الناحية رؤيتنا إلى الأشياء تبدلت، ولكن ليس بما فيه الكفاية، إذ علينا نقد فكرتي التخلف والتقدم على أساس التفاؤل الذي بعثته في نفوسنا داعش رغمًا عنها. ثالثًا) تحررنا من البعبع الدماري التدميري المتمثل بداعش سيحررنا من البعبع اللي قبله واللي نسيناه، ألا وهو البعبع الدماري التدميري المتمثل بإسرائيل، إسرائيل نتنياهو، إسرائيل مفاعلها النووي، بعشرات القنابل النووية التي ترقد هناك تحت مخداتنا، إسرائيل القوة الاقتصادية والعلمية وبطلة النانوتكنولوجيا عما قريب، إسرائيل التي أفرغت شعبها من إنسانيته، إسرائيل التي لا تريد أن تكون معنا لتكون، سيحررنا من البعبع الثالث إيران التي وقّع معها الغرب اتفاق نووي سلمي باتجاههم وحربي قهري ابن ابن عهري باتجاهنا، لكن تحريرنا يبقى على المستوى الفكري للرأي العام، بانتظار أن يكون التحرير الفعلي للإنسان فينا وللوطن العربي وطننا الحبيب الذي نعيش فيه.

الاقتصاد
إنه اقتصاد السوق، ولكن تحت شرط اقتصاد سوق إنساني، ليبرالية إنسانية، تجارة إنسانية، نعم حتى في التجارة، معاملات إنسانية، تعاملات إنسانية، تبادلات إنسانية... إلى آخره إلى آخره، تحت شرط سيبدو لكم غريبًا لما عودونا عليه من قطع بنيوي حاسم بين الشرق والغرب، لا يا سادتي، الشرق غرب والغرب شرق كلاهما يلتقيان! لن أدخل في تفاصيل عقيمة استُهلكت عن اقتصاد سوق ونظام ليبرالي أو نظام اشتراكي أيهما نختار؟ أنا سأختار النظام الإنساني وبس، والذي أراه من خمس نواحٍ:
أولاً) على عكس ما يجري وسيجري في الغرب، لا يوجد أي مشكل فيما يتعلق بإحصاء الشعوب العربية (الناحية الديمغرافية)، فالنسبة الشابة بين السكان تبقى عالية، وبالتالي ستكون ضمانًا للاقتصاد لا ينضب حتى بعد خمسين عامًا أي بحدود 2060، بينما ستهبط النسبة الشابة في الغرب مقابل النسبة الشيخة إلى نسبة 26 بالمئة عن تقرير للمعهد الدولي، مما يجعله –أي الغرب- بحاجة إلى مهاجرين يتعوض بهم في الإنتاج لدعم اقتصاده، نحن لن نرى معيقًا اقتصاديًا كهذا، النسبة الشابة في الجزائر وحدها تعادل نصف السكان.
ثانيًا) النسبة الشابة وبالتالي النشطة وبتالي التالي الشغيلَة، بينها وبين كل السكان لن تكون مشكل المشاكل كما هي في الغرب، فهو –أي الغرب- سيجد انخفاضًا بمعدل 5 بالمئة بين سكانه ما فوق السن الخامسة عشرة، خلال الخمسين سنة القادمة، كما ينبه إليه الاقتصاديون في منظمة التعاون والتطور الاقتصاديين، نحن لا شيء عندنا من هذا.
ثالثًا) تكديس رأس المال الإنساني سيكون مفتاح النمو النيِّر، تحت شرط نوعية العمل لا كميته، وما قاله كارل ماركس صحيح: المستقبل للعقل. كمية العمل غير مهمة في النمو النيِّر وإنما نوعية العمل، لذلك الشغل في اليوم كم، كثير قليل، ليس شيئًا هامًا، ما هو هام نوعية النشاط الخلاق الذي نقوم به.
رابعًا) محرك النمو النيِّر ليس زيادة الأموال، عندي فلوس إذن أنا جدع (كما هو الحال في السعودية مثلاً) محرك النمو النيِّر هو الجهود التي نبذلها في الإنتاج: الصناعة الثقيلة خلاص فات وقتها، خلال الخمسين سنة القادمة لن تكون كوسيلة للنمو، والأرباح ستكون هي النابض الأساسي للنمو، وكل هذا يعتمد –حسب منظمة التعاون والتطور الاقتصاديين- على الانفتاح على التبادلات وقوة التنافس في داخل الأسواق العربية.
خامسًا) دعم البلدان العربية الغنية للبلدان العربية الفقيرة سيقوى، خلال نصف القرن القادم سيكون الاقتصاد العالمي العام في نموه بحدود 3 بالمئة كل سنة، بفضل تحسين الإنتاجية وتراكم رأس المال البشري، ومن هذه الناحية سنكون في مقدمة كل بلدان العالم، هذه البلدان التي ستكون في حاجة إلى عون الصين مثلاً أو الهند، بينما نحن، ونحن نقف تحت المظلة السعودية ودول الخليج، لن نحتاج إلى أي عون، وربما صرنا، خلال الخمسين سنة القادمة قوة عظمى نعين غيرنا.

الحرية
الحرية الفردية في التفكير وفي القرار هي شرط كل حرية، وبالتالي هي شرط كل ممارسة للديمقراطية. الإسلاميون أنكروها، لأنها تحد من حريتهم، ولأنها في رأيهم ذات حدود، والحدود في مفهومهم، عندما يتعلق الأمر بعقدة القضيب لديهم، حدود لحريتهم، فنظروا إلى المرأة بنصف عين، وإلى الرجل بعين واحدة، وإلى أنفسهم بعينين، وكل هذا تحت ذريعة المُقدر والمُنزل، فربطوها بالعوارض الجسدية (حجاب/المرأة نصف الرجل/إرضاع الكبير/معاشرة الوداع/جهاد النكاح/تنابل السلطان... إلى آخره إلى آخره) ولم يجعلوا من الحرية مشخصات إنسانية للدلالة على سمو الله على المخلوقات ومفارقته لها، كما هو دأب عظام القدريين. لكني أنا ما يهمني، أكثر ما يهمني، الشعور بالحرية، الناجم عن العقل السليم، الفردي، الذي ينحو نحو جمع ما لا نشعر به من تبعية في شخصيتنا أو في هوية كل واحد منا، وما أكبر اهتمامي بحرية الفعل.
بعض مقولات في الحرية والديمقراطية (ترجمة):
1) الديمقراطية وديمقراطية الحكم اللتان تُبنيان حسب مفهوم الشعب تجدان نفسيها مضطرتين إلى التوقف عند مفهوم الفرد والاعتراف له بقدرته على الاختيار الحر وإلا كان من المتعذر تحديدهما ومن المستحيل عملهما.
2) الحرية الديناميكية هي الحرية التي نكتسبها بنسبة ملائمة بين سلطتها وسلطة من يحكم غصبًا.
3) مبدأ الديمقراطية ليس له أي معنى إذا ما اتَّخذ الشعب تداولاته من طرف مواطنين مخضَعين أو مجبَرين في اختياراتهم.
4) تنتج الحرية من امتلاك أكثر ما أمكن من السلطات وليس فقط الحقوق.
5) الرؤية الديناميكية للحرية تَفرض منطقيًا أن يعطي المجتمع حق الأولوية للضعفاء والمحرومين والمهيمن عليهم أو المخدوعين كل السلطات التي تنقصهم.

يتبع التنوير4