عساكر الفصل الخامس عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4864 - 2015 / 7 / 12 - 13:35
المحور: الادب والفن     

انطلقت مظاهرات الاحتجاج ضد الحرب في العالم أجمع، فالأقاقيا تريد النوم في العراق، وأصوات القذائف تزعجها. لكن أسماك دجلة لم تبالِ بها، وانتظرت كعادتها شِباك الصيادين. أدانت ألمانيا وروسيا الاعتداء، وفي الوقت ذاته تمنتا أن تكون الحرب أطول ما يمكن، مما سيسمح للرجلين القويين لهذين البلدين بأن يحلا مشاكلهما الداخلية. لم يُلق الصيادون شِباكهم، فتمنت فرنسا، لأجل الأسماك، أن تكون الحرب قصيرة. لم يدن قصر الإليزيه حليفه دائمًا وعلى الدوام، لم يوجب وقف القتال في الحال، فالتاريخ هو تاريخ الأسماك بالأحرى، ولا بأس لو ماتت من الظمأ. أوشكت المظاهرات اليومية أن تتحول إلى احتجاج شعبي ضد ندرة العمل، العرضية، غلاء المعيشة، برج إيفل، قدمه الخانقة لأسماك نهر السين، احتجاج لن يقدر عليه رافارين ولا سوبر شرطيه. لهذا على الأمريكان أن يعجلوا في شغلهم، ولا بأس إذا ما ضُحي بكل الشعب العراقي. هكذا ستنام الأقاقيا كما كانت تنام على عهدها في الهدوء، وسيعود للزمن كل ما اعتادت عليه الأقاقيا من عادي في حدائق الدكتاتورية. صفع الحكام العرب أنفسهم، فالشعوب العربية المقموعة، المسحوقة، المخطومة، حتى هي أبدت غضبها. كانت لكل شعب حديقة للدكتاتورية، لهذا كانت للورود أشواكٌ كالسكاكين، عند قطفها تُدمى الأصابع، وما أمتع أن تُدمى الأصابع! هؤلاء الحكام الدمى المتحركة الذين أدانوا كلهم التدخل الأمريكي ما عدا الملك المغربي، أصابهم الهلع، لما لم تعد الأصابع الدامية متعة للورود. هُددوا بعروشهم، بينا كان الملك المغربي الصغير/الكبير الشجاع الوحيد بينهم. كان بطلاً للورود! لن يتردد عن عقر كل شعبه عند الضرورة، في حديقته الكبيرة/الصغيرة التي هي المغرب، وسترضى نفسه بالمُلك على نفسه، فالجوهري للورود أن يبقى ملكًا! شوشو، فيما يخصه، تقوى بالبحر وتشجع، حديقته البحر هو: احتلال العراق جاء ليبرر احتلال الأراضي التي سبق له احتلالها، وقمع الحيتان، كل الحيتان، تحت حجة طرد الناشطين، الناشطين، الناشطين... الاسطوانة ليست مجروحة، إنها أسطوانة الحديقة الإسرائيلية. المهمة التي لا يستطيع عر-عر القيام بها، لأجل أقاقياه التي لا تنام في الليل، فيترك للأسماك العناية بإكمالها. والأسماك لشوشو خانت البحر، لهذا، في الوقت الحاضر، لم يعد يريد إخلاصه. أراد تبديله بعب-عب، أقل فسادًا لكن أكثر انصياعًا، مستعد للهجوم إذا طلب منه شوشو ذلك، ولا بأس أن يشن حربًا أهلية، فالتاريخ قارب محطم على ساحل الإخلاص، والأسماك تكرهنا، لهذا خانت البحر الأسماك. فلسطين ليست أحسن من العراق. بعر-عر أو بلا عر-عر، الفاسدون من كل نوع سيبقون في أماكنهم، لأن فلسطين ملكهم، هم وشوشو.
كان المحبون لوطنهم من كل الاتجاهات والنزعات يقفون في جهة، مع الأسماك التي تكرهنا، والأسماك التي تحبنا، وفي الجهة المقابلة يبقى الجيش القوة الوحيدة. في كل أنحاء العالم، عسكر الحقد في القلوب ضد العساكر. في المستقبل لتاريخ بلا مستقبل، هؤلاء الأمريكيون الذين حلوا محل هيئة الأمم سيتدخلون في كل مكان: لقمع مظاهرة في باريس، من ساحة الجمهورية إلى ساحة الأمة، أو إضراب عن الطعام في قرية هندية، دونما مراعاة لقدسية البقر، ولا لأية قدسية.
وفي حديقة البيت الأبيض، تنام الأقاقيا ملء جفنيها، وفريق رئيس الولايات المتحدة يعمل كل ما في وسعه للتلاعب بالرأي العام، احتقر "حلفاءه الصغار"، شيشي ومواطنيه، ودعم مقاطعة منتجاتهم. دفع وسائل الإعلام إلى الندم على مجيء الجي آي لتحرير فرنسا في الماضي كما هم يحررون العراق في الحاضر. قال الفريق لأسماكه، وفي الواقع لبتروله لا لشيء آخر. لتبديل دكتاتور بآخر يُسَبِّحُ لحذاء ساندريللا. لنهب ثروات هذا البلد، الاستراتيجي، التاريخي، الاستراتيجية، التاريخ، عندما تتفتح الاستراتيجية في الصباح، ويذبل التاريخ في المساء، كالورود في كل حدائق الدكتاتورية. لكن الشعب العراقي قاوم لأنه لا يحب الورود، لا يحب الأقاقيا، لا يحب الأسماك، لا يحب الحيتان، لا يحب أي شيء. حارب العراقيون المحتل، لم يدافعوا عن صد-صد، أرادوا أن يكونوا أحرارًا بالفعل، ليكرهوا بالفعل. والحرية غالية الثمن، بالدمع والدم، والأمهات يبكين.
سيذهب العراق كما ذهبت من قبله فلسطين، كما ستذهب من بعده سوريا، كقافلة من القصائد عن الورود في حدائق الدكتاتورية، كجنازة من الأقاقيا، كشوارع من الأسماك. سيدمَّر العراق كما دُمر من قبله شرف العالم العربي. كرامته، فهل كان للعالم العربي شرف؟ كرامة؟ سألت عاهرة، وبكت. وهذا الشعب الذي يكره الحرب، يحارب بعزم. تركز الاهتمام على أم قصر، ميناء صغير لم يسمع به أحد، غدا في قلب الحدث، بسبب مقاومة مقاتليه، القوارب، الأمواج، زمج الماء. هذه الحرب لم تكن لعبة، نزهة، علمًا أبيض. كانت مسألة شرف لعاهرة بلا شرف، للمقاتلين الذين يرفضون الاحتلال رفضهم لأثداء أمهاتهم، ويفضلون إطعام أسماك دجلة لتربو في النعمة قبل صيدها. والأمهات يبكين في الناصرية، في البصرة، في النجف. الأمهات يعرفن أن كل هؤلاء المقاتلين سيُرخى عِِنانهم، بعد أن اشترى الأمريكان استسلام صهيلهم. طلب رافارين من مواطنيه ألا يخطئوا في العدو، فالعدو ليس شارع الشانزلزيه، ليس متحف اللوفر، ليس شارع بيغال، بينما كان بولوش وبليرو يستخدمون كل أنواع الأسلحة الجهنمية التي استطاع الإنسان اختراعها ضد النساء والأطفال والشيوخ! ضد الأقاقيا! كان يأمل في الحصول على قطعة صغيرة، جِد صغيرة، من "التورتة"، المرشح القادم لرئاسة الجمهورية، بين آخرين، لن تصوت لهم أسماك السين. كان العساكر الأمريكيون والبريطانيون والحكومة الفرنسية مستائين من أن يروا الحرب لا تدور بالسهولة التي تصوروها، فالحرب لهم ستربتيز السلم. وعن شرومير، تمنى أن تدوم، مسألة إصلاحات وشعبية، فيبقى الألمان طائعين لإشارات المرور. نفس الشيء مع بوت-بوت، الذي أراد أن يُبعد أطول وقت ممكن الشياطين الشيشان من التجول في الساحة الحمراء بحرية. لم يعد شيشي يستطيع أن يبلع الفاصوليا البيضاء، ولم يعد بولوش وبليرو يقومان بفعل الهوى مع مس رز. إذا لم يدخل الأمريكان بغداد حالاً، تأكد أن غنائم هذه الحرب القذرة كلها باطلة. وداعًا يا عقود لشركات الرئيس الأب، وداعًا يا تمور للشركات الإنجليزية. لهذا، غدا من الملح التفاوض مع صد-صد.
- آلو، صد-صد! قال الرئيس بولوش على التلفون. تتركني أدخل بغداد، فأترك حياتك سالمة!
- كنت أعتقد أنك تمزح، بولوش، أجاب الآخر. تعمل الحرب ضدي، لكني لم أكن أبدًا ضدك.
- إذن ماذا تقول في اقتراحي؟
- ماذا أقول؟ كان يمكنني أن أنسف الجسور، وأوقف التقدم الأمريكي، لكني لم أفعل. كان يمكنني أن أفلت مياه دجلة والفرات، وأطوي في جوفها كل جنودك، لكني لم أفعل. كان يمكنني أن أُسَلِّح مليون مقاتل، لكني لم أفعل.
- إذن، أنت موافق؟
- ومع ذلك، أن أقدم لك بغداد هكذا دون قتال، هذا يوجع قلبي.
- ليس إلى وقت طويل، صد-صد، ليس إلى وقت طويل.
وصد-صد الذي وعد بالنصر شعبه، ووزع بعض الكلاشينكوفات على المدنيين، وأعلن عن تلقين درس للملحدين لن ينسوه، قدّم بغداد للأمريكان على طبق من ذهب، وتبخر. لم يكتشف العساكر الأمريكان أي أثر لسلاح كيماوي أو تدمير شامل، بل على العكس، هم الذين دمروا البلد. بعد شهر، تم كسب الحرب، فغرقت الأقاقيا في النوم، والأمهات العراقيات لم يتوقفن عن ذرف الدمع.


يتبع الفصل السادس عشر والأخير