عساكر الفصل الأول


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4848 - 2015 / 6 / 25 - 15:04
المحور: الادب والفن     

كانت الساعة الخارجية للبيت الأبيض تشير إلى منتصف الليل، وكان الليل بالأحرى باردًا، رغم ما تشتهر به واشنطن من اعتدال الجو في شهر مارس. في داخل البناية المحسودة من كل العالم، كان حفل استقبال يدور بلا طبل ولا زمر، ولم يزل السكون يسود في الخارج.
في قاعة الاستقبال الكبرى، كان الرئيس بولوش وزوجته، رئيس الوزراء البريطاني بليرو وزوجته، الوحيدين الذين يرتدون ملابسهم المدنية. سموكن وفستان سهرة، ذقون لامعة، تسريحات بديعة، ومجوهرات. آه، يا لأناقة هذين الزوجين الرئاسيين! يا لعظمة هذين الزوجين الإنجليزيين! يا للخفخفة! يا للأصابع الجميلة المعطرة! يا لروعة الأحذية اللماعة! يا للأنف الساحر! يا للفم! يا للابتسامة الساطعة! كان من الصعب أن نحزر ماركة معجون أسنانهم، وتواتر تنظيفهم بالفرشاة. أربعة، خمسة، ثمانية، عشرة في اليوم؟
كانوا يبتسمون بكل أسنانهم، ويؤكدون أن أسنان الزوجين الرئاسيين بيضاء أكثر ما يكون، وساطعة كالبيت الأبيض، وهما يستحقان العيش فيه بالفعل، لمدة فترة انتخابية واحدة. لا، فترتان. لهذا السبب من المهم أن تكون لهم أسنان جميلة دومًا. حقًا ليست هذه بطاقتهم الوحيدة للحكم، فلنكرر: فترتان انتخابيتان. لأن في متاهات سلطة على مثل هذا التعقيد، على مثل هذه العملقة، التي هي سلطة البيت الأبيض، الابتسامة الأكثر سطوعًا وحدها لا تكفي، فنقوم بفعل كل شيء، الشر، الخير –المصطلحان المفضلان للرئيس- مع احتفاظنا بالابتسامة، والابتسامة الرئاسية تخفي عددًا من الأسرار التي يجدر اكتشافها. وهذا ما نقترح القيام به، المحاولة على الأقل.
اقترح الرئيس شرب قدح من الشمبانيا على نجاح الحرب، وهو يقف مواجهًا المدعوين من نساء ورجال غارقين حتى الرقبة في اللباس العسكري. ومع ذلك كانوا لا ينتمون كلهم إلى الجيش، وهذا هو تحديد هام.
- نخب انتصار أمريكا! قذف الرئيس.
أجابوا كلهم بصوت خفيض واحد، والنساء يقلدن الرجال ليجعلن من أصواتهن أكثر ذكورية، ورفعوا أقداحهم:
- نخب انتصار أمريكا!
- وإنجلترا، أضاف رئيس الوزراء البريطاني بصوته الصغير، دون أن يثير أقل رد فعل.
بحركة من الرئيس، شربوا الشمبانيا كلهم جرعة واحدة قبل أن يحطموا أكوابهم على الأرض، بضربة خاطفة من أقدامهم. انخدش أكثرهم رعونة، أو جَرَحَ أقدامًا أخرى، أفلت أصحابها "آي" ضئيلة. ولم ينجح آخرون في تحطيم أقداحهم من الضربة الأولى، فاستبسلوا، وهم يحاولون أن يكونوا حذرين، لكن صدرت عنهم أصوات غريبة. ابتسموا، غمزوا. ابتسامات مجمدة، ليست ساطعة تمامًا. وغمزات كبيرة، بفم ينفتح ولا ينغلق تمامًا. اكتشف الرئيس، الذي أحس بقليل من الضيق سببه أصوات الأرانب تلك، أن كوبه كذلك لم يتحطم تمامًا، فسحقه بحركة مظفرة، رافقتها صيحات القتال من أفواه المدعوين، والموسيقى الصادحة.
ثم أخذ الكل يرقص، متحاشيًا حطام الزجاج كيفما اتفق، والقيام بحركات ميكانيكية. كانت لهم هيئات الروبوت العازم على رقص الرومبا حسب البوب، بينما جنديان كهلان أو ثلاثة نصف نيام يلتقطون بمجرفاتهم ومكانسهم شظايا الزجاج، وهم يندسون بين الراقصين، ويتثاءبون ملقين مِلَحَهُم:
- هذه أمك التي تحرك إليتيها بكثير من الرعونة، جيمي؟
- لا، هذه أختك، روبي.
- أختي، جيمي؟
- من تريد أن تكون، روبي؟ شارون ستون؟
- إن لم تكن شارون ستون، فهي حسبك أختي، جيمي؟
- ليست شارون ستون، وليست أختك، إنها شارون إليتيّ، فلا تزعل، روبي.
- هل أنت متأكد أنها شارون إليتيك، جيمي؟
- أنا متأكد، روبي.
- لكن كأختي، لم تعد لك إليتان، جيمي.
اقترب ثالث، وهو يرقص مع مكنسته، على نحو محزن.
- هو، لم تعد له إليتان، ومع ذلك...
- لم يجد سوى مكنسة المراحيض كمراقصة.
قلده بابتسامة مجمدة وحركات ميكانيكية، بينما ناح الثالث:
- لم أعد أحتمل! هذا مرهِق لسنواتي العشرين!
- هذا لأن ليست لك إليتا شارون ستون، سامّي!
- نعم، انتهت الحرب لنا، روبي.
- انتهينا بلا حرب، سامّي. آه! انتهينا، أليس كذلك، جيمي؟
- يُبرع الآخرون في الرقص كما سيبرعون في الحرب، التي على الأبواب، روبي.
- لماذا، هم يتدربون في البيت الأبيض، جيمي؟
- لن تكون أكثر من رقصة هذه الحرب المعلنة في بلاد ما بين النهرين. أن تعرف كيف تحرك إليتيك، قال جيمي مقلدًا، فتكسبها، هذه الحرب المعلنة في بلاد ما بين النهرين.
- في العراق، جيمي، صحح سامّي.
- في ماذا؟
- في العراق، جيمي.
- نعم، في... قلتَ أين، سامّي؟
- قال لك في العراق، تدخل روبي. هناك حيث يرقصون مع العقارب بلا حاجة إلى إليتين كإليتي شارون ستون، جيمي. في العراق.
- في بلاد ما بين النهرين.
في حين أن حديثًا جادًا كان يدور تحت ثريا الكريستال الأعظم في البيت الأبيض. ليسمعوا بعضهمم البعض رغم الموسيقى الصاخبة، كان الرئيس ورئيس الوزراء الإنجليزي وكذلك زوجتاهما مضطرين إلى رفع أصواتهم مثل أي لحام وأي سمكري أو أي بائع بالمزاد العلني عندما يتكلمون ما بينهم في ملعب أصابه الهوس.
- العراق مستعمرة بريطانية قديمة، سيدي الرئيس، قال رئيس الوزراء الإنجليزي، لهذا سنتقاسم بتروله نص-نص.
- سيكون العراق مستعمرة أمريكية، أجاب الرئيس الأمريكي، سيكون بنروله لنا، لن نتقاسمه مع أحد.
- ولكن، سيدي الرئيس، إنجلترا حليفتكم الوحيدة في حرب "الدخول والخروج" هذه.
- حليفتنا الوحيدة، أنتم من أردتم ذلك.
- امرأتي من أرادت ذلك، سيدي الرئيس.
- نعم، أنا، تدخلت زوجة رئيس الوزراء.
- ولأي سبب من فضلك؟ سألت زوجة الرئيس مهتمة.
- لرهان قبلته من زوجة صد-صد.
- رهان! ومع زوجة صد-صد!
- كانت تريد أن يشتري زوجها بيجبن، لأنها الساعة الوحيدة التي تمشي جيدًا في العالم.
- صحيح! هنا، في البيت الأبيض، تشير الساعات دومًا إلى منتصف الليل، أكدت مشيرة إلى ميناء ساعة فوق المدفأة. حتى في قلب النهار، منتصف الليل. نحن لا نتبع الساعة، الساعة تتبعنا.
- هذا شيء مستحق الإعجاب!
- أليس كذلك؟ هكذا لا هَمّ ولا ارتباك. نحن نعيش بأمر عصا سحرية ، دون أن نُكَسِّر رأسنا لنعلم أية ساعة هي.
- وبعد منتصف الليل؟
- ليس هناك بعد منتصف الليل. نحن سعداء هكذا.
- كما تشائين، سيدتي الرئيسة.
- كما يشاء الاعتبار للمصلحة العامة.
- الاعتبار للمصلحة العامة أنا، قال الرئيس. بالتالي كما أشاء أنا!
- في مادة المصلحة العامة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاعتبار، أنا جاهلة، قالت زوجة رئيس الوزراء الإنجليزي. لنعد إلى زوجة صد-صد، هذا أسهل بكثير لي. إذن، لأحول دون أن تبلغ أَرَبَها، نصحتُ زوجي بالتحالف معكم.
- وكذلك لنعمل فيفتي-فيفتي في البترول، أضاف بليرو.
- في التجهيزات العسكرية طيب، لا في البترول، قال بولوش.
- إذن الربع.
- لِمَ العمل؟ ألا يكفيكم بترول بحر الشمال؟
- مائة ألف برميل في اليوم.
- هذا قليل بالمقارنة مع ما قررته لنفسها شركة بترول والدي، لكن آسف، لا أستطيع.
- لماذا؟ ناح رئيس الوزراء.
- لأن صد-صد استسلم لزوجته، واشترى تمثال الحرية، بثمن غال جدًا. سيساعدنا البترول العراقي على تسديده، واستعادة ملكيتنا للتمثال.
- غبية! قذف بليرو باتجاه زوجته. بيجبن أقل غلاء من تمثال الحرية، لكن هذا البيع كان سيسمح لنا بتعويض الفلاحين الذين أصيبت خِرافهم بالحمى القُلاعية في الصيف الماضي.
- جاد بلس أميريكا! زعق الرئيس الأمريكي فجأة موزعًا الشمبانيا.
- وإنجلترا، قال رئيس الوزراء البريطاني بحياء.
رقص المدعوون على إيقاع واحد، وكرروا كلهم نفس الحركات الميكانيكية. مالوا يمينًا، وفي الحال يسارًا، أو يسارًا، وفي الحال يمينًا. ابتساماتهم مجمدة. جاءت الناطقة الرسمية السوداء الرئيس، مس رز، في اللباس العسكري هي كذلك، لتهمس في أذنه. فجأة، صاح الرئيس:
- يقطع لي خُصياتي!
ثارت زوجته:
- وماذا سيبقى لي بعد هذا؟
- التي لزوجي... اقترحت مدام بليرو.
وهي ترى الغضب يجتاح أمارات سيدة البيت الأبيض، سارعت إلى تصحيح خطأها:
- أوه! ليس ذلك كما تظنين. أنا أعني التي لزوجي ليست مقطوعة، ومع ذلك...
- بلا إفشاء الأسرار، سوزان.
- كل إنجلترا تعرف، يا حبيبي. لا ضرر هناك بما أنني...
- سوزان، أنا أمنعك.
- وكيف فعلتِ بابنكِ الأخير؟ سألت مدام بولوش بفضول.
- الحق أني حسب نصيحة زوجة صد-صد...
- أقسم برأس أمي أنك إذا...
- لكن أمك، عملته قبلي، يا حبيبي.
- أمي كذلك، تصوروا، ألقى الرئيس الذي لم يتابع الحديث.
- أمي عملته قبلك، سوزان؟ متى؟ ومع من؟ ومن هو هذا الطفل النغل؟ نحن أربعة أخوة وأخوات. عائلة كبيرة، نعم. للإعانات العائلية، سيدي الرئيس.
- لم تكن لأبيك شركة بترول؟ سأل بولوش.
- لا، سيدي الرئيس. كان عاملاً.
- في مِصفاة بترول؟
- لا، سيدي الرئيس. كان عاملاً في... كان فقط عاملاً.
استغرب بولوش أن يكون لرئيس وزراء إنجليزي أب عامل، إنجلترا إذن ليست تلك الجزيرة الرأسمالية المليئة بالبنوك والكنائس والقصور ذات القرميد الأحمر التي وصفوها له في مدرسة الراهبات ثم في الكلية الكاثوليكية.
- ماذا أقول له، سيدي الرئيس؟ سألت مس رز وقد عيل صبرها.
- لمن؟
- صد-صد.
- لم يزل ينتظر على الهاتف؟ قولي له إنني أنا من سيتفضى له.
- أن تقطع خُصياته؟! ستشن زوجته الحرب العالمية الثالثة.
- وأنا حرب النجوم، تدخلت زوجة الرئيس.
- انتظري، أنا آتٍ.


يتبع الفصل الثاني.