فندق شارون الفصل الخامس


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4834 - 2015 / 6 / 11 - 20:31
المحور: الادب والفن     

كان سالومون يستلقي على الشاطئ، ويداه معقودتان خلف رقبته. منذ واقعة الغرق الذي تم تفاديه بفارق قليل، أبدى تفوقه على خصمه، الجالس على بعد عدة بشاكير منه. مال ميزان القوى إلى صالحه على نحو جليّ، ومن الآن فصاعدًا إذا أراد ازدراء يوسي، فما عليه سوى القيام، والغطس في البحر الحفيّ. لم يعد الآخر يلحقه، وميدان فعله اقتصر على الشاطئ: بعض الصفير للفتيات اللاتي يمضين أمام عينيه، بعض الكرات المتبادلة مع إسماعيل وإسحق عندما يكونان على مقربة منه، بعض أهرامات الرمل التي يسحقها مقهقهًا متبجحًا "هذه هي الأهرامات التي بنيناها" تحت قدميّ. بالاختصار، شغلات أولاد. انتفخ سالومون واختال: كان رجلاً، هو! لم يكن بحاجة إلى الصفير ليثير اهتمام الفتيات به، طاب له الخيال، ولهج على نفسه بالثناء، وهن يقعن في أحضانه وقوع النحلات على اللقاح!
كذلك، عندما لاحظ فتاة الأحلام، وهي تقترب باتجاهه، وتنظر نحو البحر، قَدَّم قدمه، وحاول إيقاعها: كانت على وشك أن تتعثر، فسارع سالومون بالوقوف ليعيد لها توازنها.
- شكرًا، هتفت المرأة الشابة، وهي تخفق رمشيها، ظننت أني سأقع!
- لا شكر على واجب، عمل سالمون بصوت معسول. أنتِ لم تعقفي عُرقوبك على الأقل؟
- لا، كل شي تمام. أنا اسمي مونيكا، وأنت، ممكن أعرف اسمك؟
- كيف هذا ممكن؟ سارع سالومون إلى الجواب مفتتنًا بانفتاح عقلية المرأة الشابة. أنا، اسمي سالومون. ماذا تفعلين؟ أنت في عطلة في تل أبيب؟
- لو شئت، قهقهت مونيكا، لو شئت.
كانت الفتاة جميلة بقدر ما هي لطيفة: ثغر نَهِم، عينان خضراوان لوزيتان، وشعر أسمر لا يصدَّق يحركه هواء البحر بِسَكينة.
رمى سالومون يوسي بنظرة: كان يستشيط غضبًا، مبحلقًا، ذقنه تتدلى. ليزدهي عليه بالغنيمة، اقترب من مونيكا أكثر، وقال لها:
- أنت تحبين الألغاز! أحب النساء الملغزات أنا، تعالي، أدعوك إلى شرب كأس على سطح المقهى هناك!
- بكل سرور، بدأتُ أحس بالحرارة!
بطبيعة الحال، للذهاب إلى سطح المقهى، كان من اللازم المرور أمام يوسي، فمشى سالومون على منشفته بقدم تقطر سعادة. سحقها عن "غفلة" منه، وهو يطمرها في الرمل. مد يدًا نحو مونيكا، وأبعد خصلة شعر تُناكد وجهها الجميل. ولسعادته الأكبر، لم يبد على الفتاة النفور إطلاقًا، بل على العكس، قدمت له وجهها، لتسهل عليه المهمة. ارتفع يوسي إلى نصفه ساخطًا:
- هيه، أنتما الاثنان! ألا تريان أنكما تدوسان منشفتي؟ اذهب لعمل قذاراتك في مكان آخر، واحد منحصر جنسيًا!
- أنت تتكلم معي؟ زمجر سالومون، وهو يكور قبضتيه.
- دعكَ، طالبت مونيكا، وهي تضع يدها على ذراعه بحركة مهدئة، هذا لا يستحق الصياح!
- لديكِ الحق، قهقه سالومون، هذا لا يستحق الصياح بالفعل.
وابتعدا، وهما يمزحان ويضحكان، وكأنهما يعرفان بعضهما منذ وقت طويل.
تبعهما يوسي طويلاً بنظرة شَكِسة معترفًا بسالومون، وقد ضرب ضربة كبيرة، و، على أي حال، بدد له نهاره. ابتهاجه طار! لكنه لن يبقى في مكانه ساكنًا! ألقى نظرة دائرية بحثًا عن امرأة تعادل في جمالها جمال مونيكا، وفي الواقع، وقع على بعضهن، لكنهن كن كلهن بصحبة أبوللوهات مفتولي العضلات، ولا يهمهن أحلى الرجال حتى.
النظرة الأنثوية الوحيدة التي استجابت لنظرته كانت لامرأة شابة، وحدها، لكنها بشعة بشكل رهيب. أبدت عن أسنانها، أسنان ناتئة، فاستنتج أنها تبتسم له. وبسرعة، أبعد عينيه، فزعًا من ابتعادها أكثر فيما ترمي إليه، وأن يرمي بنفسه بين أسنان البحر بكثيرٍ أفضل. جمع حوائجه بسرعة الدبابات، وابتعد بحثًا عن شاطئ ترتاده الحوريات.
حملته خطواته، وراحت به، دون أن يطلب منها ذلك، إلى سطح المقهى، حيث توقف سالومون وغنيمته الجديدة. عندما أدرك يوسي أين هو، توقف كمن يصطدم بجدار، وعزم على الرجوع، والذهاب في الاتجاه المعارض، لما لفتت انتباهه حركة، كان سالومون محورها. وفي الحال، فهم يوسي ما يجري: مع سحنة العربي التي لسالومون، أثار الحذر في صدور المكلفين بالأمن، الذين فتشوه ظنًا منهم أنه إرهابي. مما أسعد يوسي، فها هو يجد من يثأر له، وبقي هناك، يتابع المشهد من بعيد، ويراقب ردود فعل الفتاة.
كانت الفتاة في حديث مقلقل مع أحد "المعتدين" على الحريات العامة، وكان يبدو عليها الاستياء والاحتجاج. ولبعده، لم يكن يوسي يسمع ما تقول، وربما كان عليها، هي أيضًا، تبرير كونها مع الآخر. ابتهج يوسي أكثر فأكثر، وكأنه يقول لسالومون: سيعلمك هذا ألا ترتمي بين ذراعي أول امرأة! وعن "أول امرأة" هذه، فكر أنه ربما كان عليه التدخل والذهاب إليها مقترحًا عونه. ستكون له شاكرة إلى الأبد لتخليصها من هذه الورطة، وبلا شك ستوافق على اصطحابها حتى بيتها، لتستردّ أنفاسها!
إلا أنه ما لبث أن خفف من غلوائه، في اللحظة التي رأى فيها المسئول عن الأمن، وهو يرفع ذراعيه علامة الاعتذار، وسالومون، وهو ينفض تيشيرته كمن يزيل كل أثر للتفتيش الشنيع. أمسكته المرأة الشابة من ذراعه، بهيئة مظفرة، جرّته نحو طاولة، وانتهى الأمر بجلوسهما، ليسا مما جرى لا بقليل ولا بكثير.
قذف يوسي شتيمة، فالأحداث عادت تدور في صالح الآخر! وهو لسخطه، قرر مغادرة الشاطئ دون رجعة، لافظًا أفظع اللعنات، طاحنًا بذراعيه الهواء، والناس يستديرون مع عبوره ضاحكين، أو على العكس مبتعدين منه خوفًا. ظنوه مجنونًا، فها هو سالومون يُفقده عقله. لقد وجد الحل: سينتقم، مع احتمال أن يغري ابنة الحاخام الأكبر لو يلزم!
ما كان يجهله يوسي، وما كان يفسر الكثير من الأشياء، أن الجميلة مونيكا كانت في حملة انتخابية. هذا ما أعلمته لسالومون أول ما ذهب التأثر الذي أثاره الحادث اللامشرف.
- معلم المقهى يعرفني جيدًا، لأني عضوة في حزب العمل، وهذا الحي جزء من دائرتي.
- جميلة وذكية فوق ذلك! هتف سالومون. آه! أحب النساء الرَّجُلات!
- وعلى العكس، أصحاب الأمن يجهلون ذلك، تابعت مونيكا، وهي تتظاهر بتجاهلها للإطراء، وإلا لما جرؤوا على استجواب عربي بصحبتي.
- كيف هذا؟ لأنك تعتقدين أنني عربي، أنت كذلك؟
- ولكن هذا واضح! زد على ذلك، لأنك عربي وافقتُ على المجيء لشرب شيء معك!
- أنا لا أفهم، تلعثم سالومون، دَهِشًا. وأنا من فكر أنك وقعت في حبائل سحري اللايقاوَم!
- أنت لا تتوقف عن المزاح!
- استني شوي! من اللازم أن تشرحي لي ما يجري. لماذا تهتمين بالعرب إلى هذه الدرجة؟ ولماذا تريدين أن أكون عربيًا؟
- سأجيبك على أسئلتك "واحد واحد". على سؤالك الأول الجواب هو أن حزب العمل بحاجة إلى مساندة العرب الإسرائيليين، حتى وإن كانت الانتخابات لم تزل بعيدة –ومن ناحية أخرى نحن لا يمكننا أبدًا أن نحلف أنه لن يجري تسبيقها، في هذا البلد لا شيء أكيد! هل تتذكر تلك المرة التي انقلب فيها الكنيست من أغلبية إلى أقلية بسبب لون أبواب المستوطنات؟ لقد وجد المتدينون انتهاكًا للحرمات صبغها باللون الأخضر، لأنه اللون الذي يرمز إليه الإسلام. وتلك المرة التي كانت فيها المناقشة حول الكهرباء التي تنتجها المفاعلات النووية: لقد ناقش المتدينون الموضوع طوال الليل، واعتبر بعضهم أن باستطاعتنا إشعال الكهرباء خلال أيام السبت إذا ما تزودنا بالكهرباء من هذه المفاعلات النووية! و... وتلك المرة التي أثار فيها المتدينون مسألة الخرفان القادمة من "الأراضي"، والتي مع ذلك كانت مذبوحة على الطريقة اليهودية-، ها أنا أتيهُ، فيمكنني الكلام عن هذا كل النهار... لكن، لأنهي ما بدأت عن السبب الذي أتى بي إلى هنا، أقول: أنا مكلفة بإيجاد منتخبين عرب يساندوننا.
استمع سالومون إلى هذا الخطاب الطويل بلا اعتراض: وجد مونيكا أكثر جمالاً عندما تحتدم غيظًا، مع تلك الشعلة التي تلتهب في أعماق بؤبؤيها الأخضرين، بينما تعرض حملتها الانتخابية. واحدة مشبوبة العاطفة! امرأة مليئة بالحُمَيّا واليقين!
- واصلي، عمل سالومون بهيئة مهتمة، والعلاقة بي؟
- أنا جاي: بالنسبة لي، مع الرأس الذي لك، من البديهي أنك عربي! لهذا استغللت النعمة اللامتوقعة لأكلمك عن كل هذا!
- تريدين القول إنك تتنزهين على "البيتش" في هذا اللباس لتجندي العرب الذين سيصوتون لكم في الانتخابات القادمة؟ والحال هذه، يمكننا قول إن حزب العمال يستعمل حججًا صِدامية! عَمَلَ، وهو يزلق بعينيه على طول الجسد العاري للفتاة.
- ما أشطرك! تدلعتْ، وهي تعي تمامًا سلطة إغرائها. أهم ما في الأمر أن حزب العمل يهتم بمصير العرب، ألا تجد؟ ألا يغيظك، أنت، أن ترى إلى أية درجة العرب محتقَرين ومهانين؟
- بالطبع يغيظني هذا! احتج سالومون. لكن ما يغيظني أكثر أن يكون محور الاهتمام فقط قبل الانتخابات، حزب العمال كالأحزاب الأخرى. دعيني أُنهي، أضاف على منظر مونيكا المعتدى عليها. أعيد، حتى حزب العمل يعمل هكذا. يُنَعِّم عينيه للطائفة العربية خلال عدة أسابيع و، ما أن تمضي الانتخابات حتى يتركها في خراها من جديد.
- أنت تبالغ! هل تظن أنك عندما تتلفظ بكذبات كهذه بلا تفكير ستخرجون من قراكم القديمة، كما هي عليه في القرون الوسطى، ومن أكواخكم القذرة؟ لا يوجد غير حزب العمل الذي يهتم بكم!
- بنا؟ مَنْ بنا؟ طلب سالومون أخيرًا. وإذا ما قلتُ لكِ إنني لست عربيًا؟
نظرت مونيكا إليه بعينين كبيرتين دَهِشَتين، فمن الواضح أنها كانت تعتقد بكونها وقعت على الناخب العربي المثالي.
- تريد القول إنك لست عربيًا؟ تلعثمتْ. حاول أن تكون جادًا مرة واحدة في حياتك!
كجواب، أخذ سالومون يبحث في جيب تيشيرته، وسحب منها بطاقة هويته. مدها إلى مونيكا، التي جرفها الشك، ولم تشأ أن تحرجه بالنظر إليها، بينما سالومون يلح شاكرًا إياها على ما أبدته من لياقة.
- لكن، لأجلِ عينيكِ الجميلتين، كم أود أن أكون عربيًا، إذا ما أردت، خَتَمَ مستعيدًا لهجة الهزل.
كان يعلم أنه سدد هدفًا، لو كانت الفتاة مترابطة في أفكارها الجميلة والكريمة، لما جرؤت على أن تدير له ظهرها تحت حجة أنه لم يكن عربيًا. "العالم بالمقلوب، قال لنفسه مفكرًا بالاستنطاق الذي كان "بطله" في فندق شارون. في ذلك اليوم، طلبوا مني إثبات أني يهودي، واليوم يطلبون مني إثبات أني عربي. أكيد أننا نعيش في بلد مجانين تستبد بهم هويتهم!"
- ما رأيك لو نسبح قليلاً؟ اقترح ليطرّي الجو.
وافقت مونيكا بكل سرور، كانت تشعر بالارتباك لارتكابها غلطة شنيعة كهذه، وأرادت التعويض عن ذلك بسلوك موائم. لكنها لم تُضِعْ نهارها باطلاً، فالميول السياسية لسالومون، كما فهمت، تذهب بالأحرى ذهاب ميولها، يعني إلى حزب العمل. إذا ما كان هو نفسه يشاركها الرأي بخصوص الوضع الدرامي للعرب، فهذا لأن من بين معارفه عددًا من الناخبين المحتملين الذين يهمها أمرهم، وبالتالي كان لها سالومون ممن يجدر معاشرتهم.
كان الوقت الذي قضياه في الماء معًا لطيفًا من ألطف ما يكون، فهما ما أن وصلا إلى الشاطئ حتى أخذ سالومون مونيكا فجأة بين ذراعيه و، متجاهلاً ابتهالاتها، اندفع نحو البحر، والفتاة تتعلق بعنقه. ضربت بقدميها في كل النواحي، لكن سالومون رأى في هذا شكليات لا غير. عندما ألقاها في الماء، كانت تقهقه، وما لبثت أن نهضت لتنتقم دافعة رأس سالومون تحت الماء، حتى فقد أنفاسه. عاما بعد ذلك مدة طويلة، وهما يمسكان القدم أو الذراع سعيدين كالأطفال.
عندما تراميا على الرمل، لاهثين، كان سالومون يشع، كان فخورًا بعرض نفسه في عيون الكل، وهو بصحبة امرأة فائقة الجمال. هكذا تخيل عطلته في تل أبيب، وبعض الساعات تلك التي قضاها مع مونيكا، جعلته يتصالح مع المدينة التي استقبلته استقبال المطرودين من الجحيم.
- تعرفين ماذا؟ قال لمونيكا التي أغمضت عينيها، وَعَرَّضت نفسها لمداعبات الشمس.
- ماذا؟ همهمت.
- أود لو أقدمك لبعض أصدقائي الذين يعيشون في غزة.
فتحت مونيكا عينيها على التو، ونظرت إليه بانتباه: إذن كان حسابها صحيحًا. كان سالومون يتعاطف بالفعل مع القضية الفلسطينية، وسيمكنه عونها في اصطياد الأصوات العربية. أجابت، دون أن تبدي مع ذلك الكثير من الحماس:
- فكرة جيدة! ومتى تنوي تقديمي لهم؟ قبل أو بعد الانتخابات؟ قالت مازحة.
- اليوم، إذا أردت. يلزمنى المرور على الفندق حيث أنزل لأبدل ملابسي، ثم يعد ذلك، يمكننا الذهاب! هل تصحبينني؟
- طيب!
قام سالومون بقفزة واحدة، ومد يده إلى مونيكا ليساعدها على النهوض، وفي الحركة، تدبر أمره ليجذبها إليه قليلاً أكثر مما هو ضروري. لم تبعده عنها، بل على العكس، ضربته ضربة خفيفة على جذعه. لم يكن يلزم لسالومون أكثر كي يشعر بكونه أسعد الرجال، ولم يكن يتمنى أكثر من أن يكون خطم خنزير ينفخ قرب خدها. ارتدت مونيكا فستانها الخفيف القصير الذي تحمله في حقيبتها، قبل أن يسوقها سالومون إلى فندق شارون. كان على استعجال ليرى بوز نجا وصموئيل وكذلك كل الآخرين، بنيامين أولهم. كانت مونيكا بجمال ميريام، وزيادة عليها أكثر لطافة!
دخل فندق شارون دخول الفاتحين، وهو يتعلق على ذراع المرأة الشابة، حتى ولو كان من المشاهدين أقل مما توقع. والحالة هذه، لم يكن حاضرًا غير أسرة أبراهام. تصلب أبراهام عند رؤيته مونيكا، ولم يبد عليه أنه يستسيغ هذا النوع من النساء، وَقِحَات أكثر مما يجب في رأيه. ابتسمت لها سارة، إلا أنها حافظت على تحفظها. تركها سالومون بصحبتهم، وعجل بالصعود ليبدل ثيابه.
لم تُقلق مونيكا برودة الاستقبال، بوصفها امرأة سياسية، كانت معتادة على المواجهات الأكثر عدائية. وعلى العكس، ذهبت بتمدنها إلى أبعد مدى مادحةً الزوجين لما لهم من أولاد جميلين. بمثابة شكر، أجابها أبراهام:
- "لا يبصر الأزلي ما يبصر الإنسان، يرى الإنسان ما يسترعي الانتباه، لكن الأزلي يرى ما في القلب." هل تقرأين الكتب المقدسة أحيانًا، يا آنسة؟
فهمت مونيكا الإلماح بالتأكيد، وبدأت تتضايق من ثياب الفضيلة التي يرتديها. وصل سالومون في اللحظة المناسبة، وجرها بمرح نحو باب الخروج. عندما وجدت نفسها على الرصيف، أمسكته من ذراعه موقفة، وهي تشعر كمن صحت من سُكرها، دُفعة واحدة، مُفْرَغة من طاقتها الجميلة. الآخر بوعظه جعلها تشك في صدق نواياها، فأشارت إليها:
- تعرف، فكرت في اقتراحك، لا أدري إذا كانت الفكرة جيدة للذهاب إلى غزة هكذا، أظن أن من اللازم الرجوع إلى زملائي في الحزب لأعرف رأيهم في ذلك.
- لكني كنت أعتقد أنك تسعين إلى الالتقاء بعرب! وين المشكل، لم أعد أفهمك! رد سالومون. في المادة الانتخابية، وخاصة عندما تكون الأصوات العربية هي المقصود، حزبك لا يقول لا أبدًا. لهذا السبب لم يتم تطبيق اتفاقيات أوسلو على الإطلاق. يقول الليكود إن "الأراضي" لهم، والعماليون إن الأصوات الانتخابية لهذه الأراضي لن تكون لهم إلا عندما يضم الليكود هذه الأراضي. هذه هي السياسة التي لاثنين: لرأسين، لجسدين، لأربع أقدام، المطبقة حرفيًا في هذا البلد. إنها السياسة نفسهًا دومًا.
- اسمع، لا تسئ الفهم، لكني قطعت قراري: سأتكلم مع الآخرين في الحزب، وسأتصل بك فيما بعد. الآن وأنا أعرف أين تنزل، سيكون الأمر سهلاً، أضافت بابتسامة مليئة بالمضمرات.
تركها سالومون تذهب على مضض منه، غير أنه كان يعرف مع هذا النوع من النساء من الأفضل عدم الإلحاح. وفوق ذلك، إذا كانت تبحث بالفعل عن كسب أصوات لحزبها، فقد كان واثقًا من أنها لن تفلته بسهولة، وأنه كَبّلها بوعد الذهاب بها إلى غزة لمقابلة العرب.
وهو يدخل الفندق من جديد، وقع على نجا التي سألت بلا تعمد تقريبًا:
- ويوسي؟ يوسي ليس معك؟
معي؟ إلا هادا! منذ فشله التام، لو استطاع الهرب إلى المريخ، وأكثر ما يكون بعدًا عن سالومون، لفعل يوسي دون تردد. بعد أن ترك خصمه وغنيمته على سطح المقهى، تسكع في الشوارع أينما نقلته قدماه، محاولاً تهدئة نفسه. بعد أن مضى من الوقت أكثر مما ظن، غدا كيس حوائجه في يده ثقيلاً، فزلق به داخل قميصه، وعاد إلى تسكعه، وهو يجتر كالجَمَلِ "مأساته": ماذا يمكن لسالومون أن يملك ما لا يملك ليقدر على إيقاع بنات بجمال مونيكا؟ الحق أنه لم يفهم، مما زعزعه تمامًا. أخذ يراقب نظرات الفتيات اللواتي يمضين به، بعضهن لم يكنّ يرينه، وبعضهن كنّ يزلقن بنظرات خاوية على وجهه، لكنه لم يقرأ ولا في أية لحظة أقل شعاع اهتمام فيها. ربما كنّ يسارعن بالمشي كثيرًا ليرينه كما يلزم؟ لاحظ إحداهن، وهي تنتظر الباص. كان لهذه كل الوقت لتتأمله، ولتقيّم سحره بالقدر الذي يستحقه. وقف إلى جانبها، وانتظر. عندما دارت برأسها نحوه، فغر فمه عن ابتسامة عريضة. وفي الحال، دارت بعينيها بعيدًا عنه. فتاة خجولة على التأكيد، واحدة من تلك اللواتي لا يتفتحن إلا عندما يكنّ نافعات للغير. أخذ يسعل كأنه على وشك الاختناق، فدارت برأسها نحوه من جديد، قبل أن تبتعد بعجلة. رآها، وكله حيرة، تتجه نحو رجل من الناحية الأخرى لوقاء المحطة، وهي تشير إلى يوسي، في الوقت الذي تكلمه فيه. أخذ الرجل يراقبه بدوره، فأحس يوسي إحساس المغلوب على أمره، فالنظرة التي يرميه بها لم يكن فيها شيء من الدماثة. عندما رآه يبتعد، أطلق نفسًا مرتاحًا، ثم ابتسم للفتاة لكونها تخلصت من ذلك الشخص المشئوم الذي له كل ما للإرهابي من هيئة.
وصل الباص، فتدبر يوسي أمره بالصعود خلف الفتاة التي "تَعَرَّفَ" عليها. كلما أدارت رأسها، ابتسم لها، دون أن يفهم مع ذلك لماذا لها شكلٌ قَلِقٌ أكثر فأكثر. فجأة، أخذت تصيح:
- النجدة! انتحاري!
- وييينوووه؟ صاح يوسي بدوره محاولاً الوقوع على الرجل الذي تخلصت منه، فقد كان واثقًا من أنها تتكلم عنه.
مع بالغ دهشته، أمسك سائق الباص والركاب الآخرون به، وفي لحظة واحدة، وجد نفسه ملقى، أنفه على الأرض، ويداه مربوطتان على ظهره. نصح السائق جميع الركاب بالتراجع أقصى ما يقدرون عليه بعيدًا عنه، ولأقل حركة يفعلها يوسي، كان يصرخ:
- لا تمس هذا! لا تمس قنبلتك اللعينة!
لم يعد يوسي يفهم شيئًا، وكأنه في الضباب. انتهى رجال الشرطة بالحضور، عشرة منهم مدججون بشتى أنواع الأسلحة، جاء بهم الرجل الذي حسبه يوسي إرهابيًا. ذلك الذي ذهبت الفتاة لتراه، الفتاة التي وقع اختياره عليها لِيُطَمْئِنَ كرامةَ الذكرِ الجريح. حَسِبَتْهُ انتحاريًا، وأبلغت عنه.
في مركز الشرطة، خلصه الفريق الخاص الضد-الإرهابي من كيس البلاستيك الذي حشاه تحت قميصه ليشعر بالحرية في حركاته، وقام شرطي بجرد لمحتوباته تحت العيون الدَّهِشة للآخرين، وهم في ثياب القتال: مايو مبتل، بشكير، مشط، أنبوب كريم شمسي، نظارات شمسية. تلك كانت القنبلة التي تحتوي عليها أغراضه.
لكنهم لم يخرجوا ليلعبوا الطابات السبع أولئك العمالقة الذين لا يُقهرون كي يتركوا فريستهم تغادر على مثل تلك السهولة، كان عليهم التأكد من أنه لن يصبح انتحاريًا في الغد.
- اسمك؟ بصق المفتش المكلف بالاستجواب.
- اسمي يوسف، وأنا عربي.


يتبع الفصل السادس