فندق شارون الفصل الأول


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4826 - 2015 / 6 / 3 - 12:51
المحور: الادب والفن     


أيقظ طنين الجلاجل المعلقة على باب مدخل الفندق السيد شارون، وهو يغفو في مكتب الاستقبال. انتفض، وحملق.
- صباح الخير! هلا استلمت حجزي، باسم يوسي؟
كان الرجل الذي لفظ هذه الكلمات يرتدي بدلة، ويحمل حقيبة، وله من الهيئة ما للسائح على أكمل وجه، الباحث عن غرفة في فندق. ومع ذلك، تفرس السيد شارون فيه، فاغر الفم، بعد أن سحبه من أفظع كوابيسه، وفي الكابوس يرى نفسه عفريتًا من عفاريت الجن المغطاة بالغبار وبالدمامل، مُرْعِبَهُ الامتحان القادم ليهوه. تفحص الرجل الواقف أمامه بدقة، وكأنه رسول إلهي لن يتأخر عن الإدلاء بالحكم المهول، حكمًا ما فوق حكم.
لأنه فقد كل شيء السيد شارون، أو، بالأحرى، لم يبق له سوى فندقه، لكنه فندق فارغ، هجره الزبائن. بدأ كل شيء قبل أربع سنوات، في يوم الرماد، ومن يومها عاد يجر ذيول الخيبة والانخذال. حتى ذلك الوقت، كان فندق شارون، فندق صغير بنجمة، أقرب إلى البنسيون العائلي من فندق كما يعني الفندق، كان يعيش على إيقاع الفصول السياحية. بعض الزبائن في الشتاء، وأكثرهم في الصيف. وفي هذه الفترة، كان أكثر ما يجنيه من فوائد. من مزايا الفندق أنه كان يقع على بعد مائة متر من الشاطئ، وكان يجذب من يريد التنعم بعطلة الصيف بحرًا وشمسًا. في ذلك الوقت، كان السيد شارون وزوجته يعيشان كما يليق بهم العيش، الطبخ وتنظيف الغرف من مهام السيدة شارون، والباقي على السيد شارون.
ثم، حطت مصيبة المصائب الرحال. جارهما عموس، عدوهما اللدود الذي كان دومًا، باع أرضه لكبار المستثمرين الذين بنوا عليها فندق شيراتون، مركّب سياحي ضخم بخمس نجوم وعشرات الطوابق، مع مطعم يؤكل فيه أحسن الأكل، وبركة يعام فيها أحسن العوم، وقاعات محاضرات يحاضر فيها أحسن المحاضرين، وكل ما يتبع. في البداية، ظن الشارونان أن زبائنهما الذين اعتادوا عليهما واعتادا عليهم لن ينكثوا عهدهم معهم، وأن زبائن الشيراتون لن يكونوا بالأحرى غير رجال الأعمال وسائحي اللوكس، ولكن لا شيء من هذا، وكأن ناطحة سحاب شيراتون طمرت كل ما يحيطها تحتَ جذعٍ كثيفِ الظل، وكأن فندق شارون غدا فندقًا شبحيًا لا العين تراه ولا الأذن تسمع به.
كانت السنة الأولى أفظعها، والسيد والسيدة شارون يشاهدان اندحارهما عاجزين. كانا يترصدان طنين الجلاجل المعلقة على باب المدخل، ينتفضان على رنين الهاتف، يتأخران في السهر ليلاً، يأملان في التقاط المسافرين التائهين، لكن لا شيء من هذا، فقد هرب الزبائن من الفندق بشكل نهائي.
لم يكن السيد والسيدة شارون من نوع الذين ينوخون كالجواد، وأجدادهما صاروا مَضْرِبَ مثل لهم، فهم نجوا من المعتقلات، وجاؤوا ليقيموا هنا على الأرض الموعودة. أعدا إستراتيجية للمقاومة، وذلك عندما دعيا الحاخام ليتلو من التوراة ما تيسر خلال كل السنة التالية. عندما جاء الصيف، وقف السيد والسيدة شارون أمام باب الفندق، وهما يبتسمان، وانتظرا دون أن يأتي أحد، حتى ولا زبون واحد.
لا بأس! عند ذاك، قررا تخفيض أسعارهما، إلى النصف، يعني تنزيلات! تنزيلات كل السنة، إضافة إلى ترتيلات الحاخام، كانا مع كل هذا قويين كالمدرعات المصفحة. حتى قبل حلول موجات الحرارة الأولى، كانا على أُهْبَةِ الحرب، على استعداد لمواجهة الفصل الجديد. كان قلبهما يختنق خشية، إلا أنهما أخذا مكانهما، هو وراء منصة الاستقبال، وهي أمام الباب. رأيا الكثير من السياح، وهم يعبرون أمام الفندق، ومن الباصات، وهي تصب حمولتها الثمينة على بعد عشرة أمتار أمام فندق شيراتون. أمريكيون، بولونيون، روس، فرنسيون، كان العالم كله يمضي أمام فندقهما، لكنه يقف عشرة أمتار غير بعيد.
في تلك السنة، بدأت أعصاب نجا –السيدة شارون- تطرطق. وهي لهذا، بينما كان الباص الخامس يتوقف أمام الشيراتون، انطلقت نحو المطبخ، وما لبثت أن عادت مسلحة بدلو ماء. كان السيد شارون ينظر إليها منذهلاً، لكنه لم يفهم في الحال ما كان وراء رأسها. لما أطل الباص السادس من قرنة الشارع، سارعت نجا إلى الرصيف، وانتظرت أن يمر الباص تحت أنفها لترشقه بالماء، وهي تطلق ضحكات الانتصار الهستيرية، تحت العيون المذعورة للركاب. كانوا قد عظموا لهم حسن الضيافة الإسرائيلية، وها هم يمتحون منها ما طاب لهم!
لحق السيد شارون بزوجته على الرصيف، وهو أبعد ما يكون عن معاتبتها أقل عتاب! على العكس، تفجر بالضحك المجلجل، فهو وحده من يفهم اليأس الأصم الذي يسحقها. في الغد، هو أيضًا راقب الباصات، وبيده دلو ماء. ومع مرور الأيام، جربا من تقنيات الرشق جديدها، مرة على الزجاج الأمامي، ومرة على الزجاج الجانبي، وكانا يصهلان من الضحك على رؤية السياح، وهم يتراجعون داخل الباصات، خلف الزجاج المحكم الإغلاق. كانا يرافقان رشق الماء بزركشة من السباب والحركات المخلة بالحياء، ولسخطهم بضرب الرصيف برجليهما كالسعادين المحبة للخصام. وسرعان ما أخذ سائقو الباصات يموضعون المجنونين اللذين يرشقانهم بالماء، ويجيبونهما بتشغيل مَسَّاحاتهم، فتبدو الباصات من بعيد أشبه بحيتان ضخمة تنفخ الماء من مناخيرها، وهي تجيء لتجنح دومًا أمام الشيراتون.
مع قدوم المساء، كان السيد والسيدة شارون يجلسان في قاعة المطعم الخالية، ويعلقان دونما نهاية على ردود الفعل التي أثارتها مناوراتهما البخسة. لم يكن ليخدعهما ذلك، كانا يفضلان الضحك، وإلا ما كانا ليجدا من الدموع ما فيه الكفاية ليذرفاها على حظهما العاثر. وشيئًا فشيئًا أرهقهما ما كانا يفعلان، وليكونا على راحتهما أكثر، وضعا في الخزانة الفساتين والبدلات، ليجدا نفسهما عند نهاية الصيف أقرب إلى بدايته: لم تكن نجا ترتدي شيئًا آخر أكثر من مايو بقطعتين صغيرتين، ولم يكن المتسكعون يريدون شيئًا آخر أقل من التمتع بالنظر إليها. أما السيد شارون، فكان يحتفل بقداس البيكيني بجذع عار، وهو يجهل أنه كان موضوع رهانات دائمة: أعطاه رواد المقهى المجاور لا أكثر من عدة أسابيع قبل أن يكشف عن محاسنه هو أيضًا في مايو السباحة. كان الصيف كثير الضجيج والعجيج، وفندق شارون كثير السكوت والسكون.
إلا أن الشارونين لم يكونا لتنقصهما الأفكار! في السنة التالية، قررا القيام بحملة إعلامية يشهران بها مُنْشَأَتَهُما. وجها دعواتهما إلى كل من هب ودب، إلى ممثلي غرف السياحة، إلى ضباط، إلى نواب، إلى رؤساء بلديات، وإلى صحفيين... في الواقع، جاء الصحفيون وحدهم للتحقق مما يقوم به الشارونان من تومئة وتشوير على الرصيف. وجد أحدهم فيما يفعلون غريبًا وطريفًا و، بين دلوي ماء، طرح على نجا بعض أسئلة تمكنه من كتابة طرفة مختصرة لباب التسالي. تناقلت الصحف النادرة و، ما لبث كل واحد أن أراد إعادة المعلومة بتزويقها من بنات أفكاره. في ذلك الصيف، لم يمض يوم دون أن يكون على الأقل صحفي واحد موجود على مأدبة الشارونين، وبقدرة غرائب الصحافة وعجائبها، غدت تعاسات فندق شارون موضوع الساعة. حتى الصحفيون الأجانب العابرون كانوا يأتون لحضور جلسات سقي الباصات، غير مبالين بما يصيبهم من الماء المرشوق. ثم كان الراديو، وحتى التلفزيون، وما لبث العالم أجمع أن علم بخيبة الأمل التي لحقت فندق شارون. نيويورك تايمز فضلت التعامل مع الموضوع بفكاهة، فقد اكتشف صحفيُّها أن تسعين بالمائة من أسهم فندق شيراتون يملكها المستثمرون الأمريكيون. كان الشيراتون يرفل بالنعمة، والحال هذه لن ينشر الغصن الذي يقعد عليه مواطنوه! وطالما بقي الأمر بين إسرائيليين، لم تر المجلة من الضروري تعميق التحليل الاقتصادي أو الاجتماعي لفندق شارون.
أمير سعودي لم يقتعد الأرض متربعًا، جاءته فكرة أن يشتري من الشارونين فندقهما، من أجل بناء مُجَمّع فندقي جديد عشر مرات أكبر حجمًا وعشر مرات أكثر فخامة من الشيراتون، فصاح الشارونان صياحًا جمد أجنحة الطير: ماذا؟ نبيع لعرب؟ ولافتة الاستقبال تقول بكل وضوح إن الفندق ممنوع على العرب وعلى الكلاب؟ ولِمَ لا بيع روحهما؟ لم يجدا بدًا بالتفضل بالرد على الفاكس، ودفنا المشروع في الرمل. أطلق المستثمرون الأمريكيون نفسًا عميقًا، فالتنافس أزاح نفسه بنفسه، من السعوديين رأوا أحمرهم، ولكن لأول مرة سعودي لا يرسل الكلام على عواهنه.
علم ياسر عرفات بالعرض الذي تم رفضه، وكان يجهل من الأسباب أيها. كانت فرصته التي قفز عليها، فهو يحلم بتقديمِ عطلٍ على شاطئ البحر لأهالي غزة والضفة. قدم ملفًا كاملاً لأصدقائه الأوروبيين، على طريقة العطلة المدفوعة الأجر عام 1936، وتخيل مواكب الباصات الفلسطينية، وهي تقبل وتدبر بين الأراضي المحتلة وتل أبيب. وبما أن فندق شارون كان صغيرًا، من اللازم البدء بالإقبال والإدبار قبل أن يبدأ فصل الصيف، بشكل يمكن فيه تأمين أسبوع إقامة لأكبر عدد ممكن.
عندما سمع الشارونان باقتراح عرفات، ظنا في البداية أن الأمر لا أكثر من مزحة سمجة، لكن للأختام كانت هيئة رسمية، وللميزانيات روابط محكمة. دون أن يتشاورا، وقف السيد والسيدة شارون وقفة رجل واحد، ليختلسا النظر من الباب، فهل الباصات الفلسطينية صارت هنا، وهنا لا شيء من هنا؟ رمت نجا الملف في المزبلة و، منذ صباح الغد الباكر، ذهبت للحصول على صمغ الصبر.
عندما عادت إلى الفندق، وجدت زوجها جالسًا أمام المروحة. كان عاري الجذع، كما لو كان ينتظر العودة إلى جلسات رشق الماء اليومية، لكنه لم يرفع حتى عينيه عند وصولها. كان ملف عرفات، كما يبدو، قد لوحه تلويحًا، وكان يبدو عليه كمن سقط فريسة ما يجتره من أفكار ليس أكثر منها هولاً. عشية أمس، وهما يتمددان في سريرهما بحثًا عن النوم بيأس الغافي عن كل شيء إلاه، تصديا لأول مرة للحل النهائي: بيع الفندق بسعر جيد، لكن أبدًا لعربي.
مرت من أمامه بهيئة غامضة، ومع ذلك لم يلحظ من الغموض أَيَّهُ. كان يغرق في تأمل بعض الأشياء التي يزوق بها مكتب الاستقبال من طرف إلى طرف، ميداليات الجندي المقدام الذي كانه، "المزوزة" المعلقة على الباب المؤدي إلى المطبخ، بعض صوره عندما كان عسكريًا، عندما كان شابًا، أو مع زوجته عند زواجهما أمام الكنيس، مع زوجته كذلك وهما يُبَكْنِكَان في الجبل، وكأنه يقوم بجرد من يئب إلى أوابده ودوائره: أهذا ما تلخصه حياته؟
عند ذاك، شم رائحة غريبة، رائحة حامزة جعلته يقرص أنفه. لم تتأخر زوجته عن الظهور ثانية في مايو القطعتين، وبيدها مِبخرة. دارت في القاعة، وهي تحرك المِبخرة في كل الاتجاهات.
- ما هي هذه الرائحة الكريهة؟ سأل زوجته.
- هذه الرائحة الكريهة هي صمغ الصبر، أجابت نجا بابتسامة واسعة.
- صمغ الصبر! لكن هذا يفوح فوحًا فظيعًا! نحن نشم رائحة العرب في كل مكان!
- على العكس، يا حبيبي، هذا لطرد كل الأرواح العربية التي لم تزل في الفندق. هذه الأرواح الشريرة هي التي تجلب لنا النحس، فلم يحصل لنا منذ قرن ألا نحصل على زبون واحد في عز الصيف!
- منذ قرن؟ لكننا لا نملك هذا الفندق إلا منذ عشر سنين فقط!
- إذا قلت منذ قرن يعني منذ قرن، نحن في بيتنا الآن في إسرائيل، ونحن أحرار في فعل أو قول ما نريد، حتى الكذب.
- آآآه! تتكلمين عن آبائنا وأجدادنا الذين ولدوا في بولونيا! أنا متفق معك.
- أوطئ صوتك، صموئيل، يلعن د... ستسمعك.
- مَن هذه؟
- الأرواح العربية التي تجلب لنا النحس، قلت لك.
- لكن فندق الخراء هذا تم بناؤه منذ عشرين، ثلاثين، أو أربعين عامًا بعد قيام دولة إسرائيل! لا دخل للعرب في الأمر!
- بلى.
- بلى؟ أنا لا أفهم.
- أرواح النحس العربية هذه لا تريد الرحيل، تتسلل إلى كل مكان لتزرع التعاسة عندنا. وإلا لماذا عرفات اقترح علينا ما اقترح من خبل وسعار؟ لديها الحق عندما لا تريد الرحيل.
- كيف هذا لديها الحق؟
- لو كنت روحًا مطرودة من بيتها، لعملت الشيء نفسه، لبقيت في مكاني، ولصرت شريرة. لكن ما علينا. نحن اليهود نبقى الأقوى حتى في مادة الأرواح. لدينا وسائل فعالة لمحاربتها، ورائحة صمغ الصبر هذه واحدة منها. ماذا تعرف، أنت، في مادة الأرواح؟
طرحت سؤالها، وعادت إلى تحريك المِبخرة في كل الاتجاهات.
- لا شيء على الإطلاق.
- إذن اتركني أقوم باللازم، صموئيل. وسترى، لن يتأخر كل زبائن الفندق المجاور عن المجيء عندنا. سيكون النزال بين الشارون والشيراتون، والشارون من سيغلب.
- بفضل رائحتك الكريهة؟
- هذا لطرد الأرواح العربية، قلت لك، وليكون الطقس جميلاً في إسرائيلنا الغالية خلال كل السنة.
- ماذا؟! ليكون الطقس جميلاً في إسرائيلنا الغالية خلال كل السنة؟ أنا لا أفهم.
- شغّل مخك، يا صموئيلي النَّنْنُوني، وبسرعة! قبل أن ينتهي الصيف، وقبل أن ينزل ولا أي زبون في "فندق الخراء" الذي لنا، كما تقول حق القول.
- تريدين القول ليكون الطقس جميلاً في إسرائيلك الغا... أريد القول في بلدنا الغالي طوال السنة بفضل رائحتك المقيتة؟ هل تستغبينني أم ماذا؟
- أنا لا أستغبيك، أنا لا أستغبيك، لا، أنا لا أستغبيك.
- وكيف ستعملين حسابك حتى يكون الطقس جميلاً في بلدنا الغالي خلال كل السنة؟
- لن أقول لك.
- هيا، نجا!
- هذا سر بيني وبين الأرواح اليهودية.
بناء على ذلك، قضت نجا الأسبوع التالي في تبخير الفندق، وبشكل منهجي، غرفة غرفة، فرشة فرشة، خزانة خزانة، مع عناية خاصة في إغلاق الأبواب والنوافذ جيدًا من ورائها كي يكون مفعول البخور أكثر تأثيرًا. نسيت باصات السياح، والدعوات إلى الغداء. والصحفيون الذين لم يخربشوا بعد مقالاتهم عن الشارونين الرشاشين انتهى كل شيء على حسابهم: ليس فقط لم تعد هناك مشاهد لرشق الماء، ولكن أيضًا لم يعد الفندق يقدم وجباته. ومن ناحية أخرى، من يغامر من الصحفيين في الذهاب حتى منصة الاستقبال كان يتراجع قبل أن يطلب أقل توضيح مختنقًا من رائحة صمغ الصبر.
ترك صموئيل زوجته تفعل ما تفعل، ليس بدافع ما من ترحة إلا وبعدها فرحة. من ناحية، كان مشغولاً جدًا بمسألة بيع الفندق، ولا يعير أفعالها سوى قليل الاهتمام. كان يدير المسألة في رأسه ويدير بحثًا بين معارفه عن مشتر جدير بشراء إرثه بأحسن سعر. وكان وجهه يضيء من وقت إلى آخر، ويلفظ بصوت عال اسمًا، وهو يضرب جبينه. غير أنه كان يتذكر بسرعة أن هذا فتح دكانًا، أو أن ذاك هاجر إلى الولايات المتحدة بعد هجرته من الولايات المتحدة، فتتراخى كتفاه، ويعود إلى الغوص في تأملاته المرهقة.
من ناحية أخرى، منذ زمن طويل لم ير نجا بمزاج مرح كما كانت عليه و، مما لا ريب فيه كان يسعده ذلك. حقًا لم ترتد دومًا لباس الفندقية المحتشمة، وتصر على التنقل بالبكيني في الفندق، لكنها عادت إلى نشاطها "العادي". ثم، كانت تضيف من الحيوية الشيء الكثير إلى طقوس التطهير ما لا يطيعه قلبه للحد من حماسها.
على الرغم من صمغ الصبر، كان ذلك الأسبوع الأسبوع الفارغ الأكثر يأسًا في كل الصيف، حتى ذلك اليوم المشهود الذي أيقظ فيه صموئيل من ظنه ملاك الرب يهوه.

* * *

- اسمي يوسي، ألح السائح ممتعضًا بعض الشيء.
كالصور البطيئة الحركة، أقفل صموئيل فمه الذي أبقاه مفتوحًا على سعته، من الاندهاش والذهول. بلع ريقه، وفحص طويلاً الرجل الواقف أمامه. مد يده، لا ليسلم، وإنما ليتأكد من أن ما يجري ليس هلوسة، وهو يلعن بصوت منخفض زوجته التي أثرت فيه هذياناتها.
على ذكرها، بدت نجا من باب المطبخ، بيديها المليئتين بالطحين. لم تبد عليها الدهشة، وهي ترى الزبون في قسم الاستقبال، فزلق يوسي ببراعم ذوقه على جسد نجا العاري، والتهم بعينيه قطعتي البيكيني.
- ادخل، فلتدخل، عجلت نجا إلى مخاطبة يوسي بابتسامة واسعة، وهي تمسح يديها بقطعة مايوهها اللاقطعة.
وضع يوسي حقيبته على الأرض، ورمى ما حوله بنظرة دائرية. وقعت عيناه على اللافته إياها "الفندق ممنوع للعرب وللكلاب"، فحملها، وهو يبتسم، وهتف:
- هذا جيد، جيد كل هذا، أحييكم لوطنيتكم!
- أهلاً وسهلاً، يا سيدي، أجاب السيد شارون أخيرًا، وهو يتجه نحو الحقيبة الكبيرة مستعيدًا ردود فعله الحفية الحاسمة للفندقي الذي كانه.
- هنا الشيراتون، أليس كذلك؟ ألقى يوسي في ظهره.
كان لسؤال صغير كهذا أثر القنبلة، بل أكثر، فلكل يوم ما يكفيه من العناء، واليوم هو غير اليوم. جمد السيد والسيدة شارون، وقد أصمهما السؤال. كيف! الزبون الوحيد الذي ينتظرانه منذ أسابيع يجيئهما عن طريق الخطأ؟ في سالف الأوقات، كانا يعتبران ذلك تحريضًا، لكن اليوم، لم يكن لديهما قلب ليضحكا.
- شارون، تذمر صموئيل تاركًا الحقيبة الثقيلة تسقط من يده. هنا فندق شارون!
- كل اعتذاراتي، لقد أخطأت العنوان، عمل يوسي متظاهرًا بأخذ الحقيبة الكبيرة ليغادر المكان.
- لكن، يا سيدي، بين شارون وشيراتون، تدخلت مدام شارون، وهي تسحب الحقيبة الضخمة، وتجحر زوجها مؤنبة، لا فرق هناك: هذا يبدأ بشا وينتهي برون، شا...رون.
رماها صموئيل بنظرة معجبة، لكم تقاتل، رجا التي له! أسدة بالفعل! لا تعترف أبدًا بالإخفاق، مع احتمال أن تلجأ إلى حجج معوجة كهذه! وهو يفكر فيها، كان من الكدر خطوتين، لأنه لم يكن أول من فكر في هذا التشابه الصوتي الغريب. وكان بإمكانه كذريعة جرجرة الشيراتون في المحاكم الذي جعلهما يفقدان زبائنهما، غير أن عجلته تنفست عندما سمع يوسي يقهقه:
- بلى! بلللللى! حتى أن هناك فرقًا كبيرًا! هذا يبدأ بشي وينتهي بتون، شي...را...تون. ثم، كل هذا، أضاف مشيرًا إلى الأشياء المهترئة أو القديمة في مكتب الاستقبال، كل هذا لم يعد على الموضة. وفوق هذا، أشم رائحة غريبة هنا.
أخذ ينشق، وهو يقرص منخريه بهيئة قرفة، قبل أن يحدق، مستفظعًا:
- ولكن لهذا رائحة العرب! لديكم من الزبائن عرب؟
كانت النبرة تحمل اتهامًا صريحًا، ويوسي ينظر إلى الواحد والآخر كأنه ينتظر منهما اعترافًا، فاقترب السيد والسيدة شارون من بعضهما بعفوية ليعملا جبهة واحدة.
- لا، ولا واحد! احتجا معًا.
- إضافة إلى ذلك لا عرب ولا... قال السيد شارون، وزوجته تضربه بكوعها في خاصرته.
- وهذه الرائحة... تابع يوسي مشمشمًا.
- إنه صمغ الصبر، شرح السيد شارون.
- صمغ الصبر؟ أنا أعرف رائحة صمغ الصبر، كانت أمي تضع منه في الشاي، وكان لذيذًا.
- زوجتي تحرقه...
- لطرد الأرواح العربية، يا سيدي العزيز، أكملت السيدة شارون، وهي تتباهى بابتسامتها، مستعيدة صوتها المعسول للفظ "يا سيدي العزيز".
- أما إذا كنتِ، يا سيدتي الطيبة، تعملين حسابك على طرد الأرواح العربية بحرق صمغ الصبر، فأنت تنهجين نهجًا خاطئًا. هل تعرفين على الأقل من أين تأتي هذه المادة الصمغية؟
- من الجليل.
- من الجليل! أرى أنهم ضحكوا عليك، قال يوسي، وهو يلتهم بعينيه السيدة الجميلة ذات مايو البيكيني.
- قلت لكِ إن هذه الرائحة الكريهة ليست كما يلزم، تدخل السيد شارون.
- ضحكوا عليّ! كيف هذا ضحكوا عليّ؟
- مادة صمغية من إنتاج العرب في جزيرة العرب لم تُصنع لطرد الأرواح العربية، صُنعت لطرد الأرواح اليهودية! وكما أرى، مفعولها ناجع، إذا ما فهمت جيدًا.
وهو قد فهم جيدًا بالفعل، بعد أن لاحظ المفاتيح التي لا ينقص منها واحد على اللوحة المعلقة خلف المنصة. استدار نحو قاعة الأكل الفارغة، وأرخى سمعه، فلم تصله أدنى حركة من الفندق كله. تأكد حدسه، كان الفندق هادئًا بشكل غريب.
- صمغ الصبر مادة من جزيرة العرب!!! صاحت السيدة شارون.
- قلتُ لكِ هذه الرائحة الكريهة رائحة العرب، فلم تسمعيني، قال السيد شارون متوجهًا بالكلام إلى زوجته. وها هي النتيجة! لقد طردتِ كل الأرواح اليهودية، وها هي الأرواح العربية التي لم تضع القدم عندنا منذ قرون تأتي جماعات...
- أو واحدة واحدة، قاطعه يوسي مشيرًا بإصبعه إلى نفسه.
- أو واحدة واحدة... أعاد السيد شارون آليًا.
فجأة، فهم ما يعنيه، فعتم وجهه، وألقى بصوت جاف:
- أنت على الأقل لست عربيًا؟
- عربي أنا، لا...
- إذن يهودي.
كان السيد شارون يتشعوذ عند مخاطبته إياه متنقلاً بين لهجة الاحترام ولهجة الاحتقار: أنت العربي، حضرتك اليهودي، هكذا كان يمارس عبريته. لم يكن ذلك يغيظ يوسي أقله غيظ، فهو يفهم تمام الفهم حذر السيد شارون، عكس هذا سيدفعه إلى التفكير أن محدثه ساذجًا تمامًا.
- وها هو البرهان، ألقى بمرح.
فتح يوسي حقيبته الضخمة، وأخرج منها قلنسوة وضعها على قمة جمجمته، كما لو كانت تاجًا. هز السيد والسيدة شارون رأسهما علامة الموافقة، فلم يكن يلزمهما كبرهان أكثر من هذا ليقتنعا تمامًا. أضف إلى ذلك، أن يبدأ يوسي بإخراج حوائجه كان لهما فألاً حسنًا، وكأنه صار يقيم تحت سقفهما.
- تعال، يا سيدي العزيز، همهمت السيدة شارون بصوت معسول قبل أن يبدل الآخر رأيه، روح يهودية من الممكن أن تخطئ الطريق.
- روح يهودية من الممكن أن تحب صمغ جزيرة العرب، ألقى يوسي راميًا إلى الحكمة.
- صمغ الصبر؟ صمغ الخراء هذا؟ أبدًا! نبر السيد شارون بلهجة مغتمة.
- سيجيء كل هذا، فلا تقلق، يكفي أن تهوّي المؤسسة كما يجب، قال يوسي بلهجةٍ يرمي من ورائها تطمينه.
- وفي الحال!
- تعال، يا سيدي العزيز، انتبه إلى قلنسوتك، فلا تقع عن رأسك، ستكون لك أحسن غُرَف، كما تقول، المؤسسة.
- بنصف السعر، كما أرجو!
جمدت قبضة السيد شارون على قبضة النافذة عند سماعه ما طلبه يوسي، وبسرعة أدارت السيدة شارون بطاقة الأسعار، لكن ليوسي مِنَ الوقتِ كانَ ما يكفيه لمعرفة أسعار الغرف.
- وإلا ذهبتُ جانبًا.
- لا، لا، لا، ستبقى، يا سيدي العزيز، وستكون لك أحس غرفة بأحسن سعر، ألحت السيدة شارون.
- إذا كان الأمر كذلك اتفقنا.
- تعال، يا صموئيل، احمل حقيبة السيد إلى الغرفة 48، إنها أحسن غرف الفندق. أضافت ليوسي: مع منظر على الشاطئ وعلى كل ساحل بلدنا الغالي.
في تلك الليلة، لم ينم الشارونان أفضل من الليلة السابقة، ولكن لأسباب أخرى. لم يصدقا ما هم فيه من سعادة، وهما يراقبان أقل حس، خائفين من سماع باب غرفة يوسي، وهو يطرقه، أو جرس الاستقبال، وهو يقرعه، مما يعني أن زبونهما بدل رأيه، وفضل الذهاب للنوم في الشيراتون. أخيرًا، ناما نومًا مضطربًا، وصموئيل يحلم برتل من الناس المنتظرين على عتبة الاستقبال، إلا أنه أضاع مفاتيح كل الغرف المقفولة من الداخل.


يتبع الفصل الثاني