مدام ميرابيل القسم الثاني3


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4797 - 2015 / 5 / 5 - 12:51
المحور: الادب والفن     

كانت جوزيان المسكينة تترنح، وهي تركض من وراء مارغريت.
- مارغريت! مارغريت! نادت، احزري قليلاً ما أحمله لك من خبر سعيد!
وقبّلت صديقتها التي نظرت إليها بقسوة، وكما لو كان ذلك بتقزز.
- دعيني وشأني، يا جوزيان، ألقت مارغريت.
تهللت الصغيرة جوزيان:
- لا تكوني حزينة، يا مارغريت، وافقت العجوز دولاكروا على أخذ آنييس، ومن الساعة الثامنة صباحًا إلى الساعة السادسة مساء. قالت لي ذلك منذ قليل، عندما جئتها بصغيري جوفريه.
لم تبتسم مارغريت كما توقعت، وبعثت نظرتها السوداء الخاوية الخوف في قلبها.
- ماذا هنالك، يا مارغريت؟ أليسه خبرًا سعيدًا؟
أعطتها مدام ميرابو ظهرها، وواصلت المشي صوب المصنع، بينما المسكينة جوزيان كانت منتفخة جدًا متكرشة جدًا، فلم تعد قادرة على اللحاق بصديقتها، كانت تتخلع في المشي على نحو محزن.
- قولي لي ما بك، مارغريت! أنت تقلقينني عليك!
وجدت الأشجار نفسها وحيدة بعد رحيل الطيور صوب الأصقاع الساخنة، ولم تعد للبحيرة سماء تتمارى فيها، وكانت الشمس شتائية وحزينة، كانت كابية، ولم يعد هناك سوى الموت.
بكت مارغريت.
- هربت آنييس، ولا أحد يعلم أين هي.
- ماذا! صاحت جوزيان الصغيرة، هر... و...
وانفجرت باكية.
وهما تدخلان المصنع، أخذت توبخ صديقتها:
- كم مرة قلت لك أن تذهبي للمجيء بها تحت كنفك، أنها كبرت، وأن الدير لم يكن مكانًا لها...؟ لكنك لم تصغي إليّ. فضلتِ أن يقع ما وقع بدلاً من إنقاذها طالما بقي هناك وقت لإنقاذها!
- ألم أطلب منك أخذها عندك؟ قالت مارغريت بصوت عال.
- طلبت مني لكن كان طلبك متأخرًا، كان عليك أن تطلبي مني قبل...
زفرت مدام ميرابو، وارتدت بِزّتها.
- اخرسي! صاحت. أنت أيضًا لا تعرفين من قول غير هذا؟
ارتدت جوزيان الصغيرة بِزّتها، وخفت إلى اللحاق بصديقتها، وهي تغطي شعرها، وتضع قناعًا على وجهها.
شغّلت مارغريت الماكينات.
- وماذا سنفعل، الآن؟ سألت جوزيان الصغيرة.
فكرت مارغريت في تذوق العسل، ولكن عاودتها الرائحة الكريهة، كان لكل عسل الأرض طعم واحد مر وكثير السكر.
- ماذا يمكنني أن أفعل؟ سألت مارغريت.
- تكلمي مع السيد هنري، نحن لا نستطيع أن نتنبأ بما ينتظرنا، هو لديه علاقات، وهو...
تنهدت أم آنييس بحزن.
- وكيف تريدينني، أنا، الذهاب لأرى السيد هنري؟
- تكلمي مع رئيس الشغيلة، وسيراه، هو، عنك.
- لا أريد التكلم مع أحد.
- وكيف تريدين أن يساعدك السيد هنري إذن؟
- الكل سيعلم عن آنييس، وإذا أراد أحدهم أن يساعدني، فليتفضل، ليس عليّ، أنا، أن أطلب منه ذلك.
- هذه طريقة لرؤية الأشياء لا تعجبني، وهذه طريقة لرؤية الأشياء لا تعجب أحدًا. أنت تعتبرين نفسك من؟ السيدة الأولى لفرنسا؟
تركت مارغريت نظرتها تميع في العسل السميك والساخن والعسل بدأ ينسكب، كانت تريد في طَوِيَّتِهَا خاصةً الانتقام من السيد هنري، الذي لم يأت إليها، ولم يرسل أحدًا للإتيان بها، في زمنٍ بدا لها بعيدًا فجأة، بعيدًا جدًا، الانتقام من غريزة الحب، فلعل الشعور بالبغض يجمعهما. كان باستطاعتها أن تكون له الفرح، اللهب، العسل، السعادة، الحرير الحار، الهناءة، الهوى، النماء، الدواء، الجمر، المخمل-
لكنه كان السيد هنري، وهي مارغريت ميرابو، مراقبة الصُّواعات الدبقة.
لم تقل إذن شيئًا لرئيس العمال، حقًا كانت فرصة مؤاتية لإنعاش بنات نعش بينها وبين السيد هنري، لكنها لم تقل شيئًا، فلم تكن تعلم إذا ما كانت ترغب في ذلك. اللهم إلا إذا أتى إليها، هو... لم يفعل المساء شيئًا آخر غير تضخيم ما تنوء به من عبء هرب ابنتها، مساء غائطي في أرض برصاء لا يرمي إلى شيء آخر غير إظهار هيئتها البرمة. لم يكن الليل أزرق، كان يتلألأ بالنجوم السوداء، وكان الشتاء يرتدي معطفًا لا تباين للون الكامد فيه. إلى الجحيم! جمعت أطراف شجاعتها، وخرجت للبحث عن الملتحي على ساحة المنحدر. كانت تريد أن تعبر عن رفضها للطبيعة، وألا تعتبر هرب ابنتها كواقعة أكيدة. اعشوشبت بالبرد، فالبرد كان شديدًا، كان ينمو على جسدها أخضر. لم يكن الملتحي هناك، والشحاذون انقرضوا عن آخرهم. فجأة، عرفت صوته، كان يصلها من مقهى كأس الجعة: لا شيء، تعرفين جيدًا، الوقت يمضي... دفعت باب المقهى، ودخلت. كان محاطًا بشبان في قرنة، لما فجأة، من قلب الضوضاء، بدا لها أنها تعرف ضحكة ابنتها، آنييس. بحثت بعينيها بحث الطماع الجشع عنها: كانت بين ذراعي فتى يحاول تقبيلها.
عندما برزت أمها واقفة أمامها، اعترى آنييس الخوف، ودفعت الولد بعيدًا عنها.
- جئتُ هنا لأراكِ، ماما.
أمسكتها مارغريت من ذراعها، وغادرت المقهى. تبعهما الشاب في شارع موفتار، وآنييس تلتفت عدة مرات. كانت لمارغريت نظرة قاتمة، نظرة القامع لغرائزه. جعلتها تصعد أمامها على الدرج القديم، لتقاوم ميولها. فتحت الباب، ودفعتها إلى الداخل.
- يمكنك أن تفعلي كل ما تريدين، صاحت آنييس رافعة ذراعيها في وجه أمها، الدير، لن أعود إليه.
أرادت مارغريت كسر عنقها، غير أنها أخذتها بين ذراعيها بحنان.
- لماذا فعلت كل هذا، يا بنيتي؟ لماذا لم تقولي لي شيئًا؟
تخلصت آنييس منها.
- وأين أنت كي أقول لك؟ أنت لم تأتي أبدًا لرؤيتي.
حاولت مارغريت أن تمسك يديها، أن تلمس أصابعها.
- أنا هنا، الآن، وكنت أريد الإتيان بك، لما...
سحبت آنييس يديها.
- لم أكن أريد إشراكك في همومي، تابعت أمها، لم أكن أريد أن تجدي نفسك بيني وبين أبيك.
- وذلك بتركي في السجن كنتِ تريدين توفير كل هذا عني؟
- لكن الدير...
- أكثر سوءًا من السجن!
عندئذ جلست مارغريت حزينة على كرسي.
- لم أنقطع أبدًا عن التفكير فيك، كنت أفكر فيك طوال الوقت، في المصنع، في المقهى، في الشارع، في النهار وفي الليل، وكأني أحملك معي، في دماغي.
- أما أنا، فلم أفكر فيك على الإطلاق. في البداية، فكرت قليلاً فيك وفي بابا، لكن فيما بعد، نسيتكما تمامًا.
صفعتها مارغريت، فأخذت آنييس تبكي، وتصيح بأقصى ما تقدر عليه.
- عندما كنتُ أُعاني من وراء قضباني، هناك، انفجرتْ، مُجْبَرَةً على العيش كراهبة، وكنتُ أُضِيعُ نصف عمري، لم تكوني هناك، أنتِ، ولم تتساءلي أبدًا إذا ما كان إحساسي إحساسَ من يرى الدنيا بشكل حسن أم رديء. ولو لم يكن جيروم، ذاك –أشارت إلى النافذة-، لما أملت يومًا في الخروج مما كنت فيه. وعما قريب، سأغدو عجوزًا مثلك، وسأموت من القهر.
فتحت النافذة، ونادت:
- جيروم، اصعد!
- آنييس، ماذا تفعلين؟ أنت لن تُدخلي هذا الولد هنا.
- كان يأتي كل ليلة، على الرصيف، مقابل نافذتي، وكنا نتكلم حتى ساعة متأخرة، حتى لا تبقى نجومٌ هناك، حتى يبكي الليل علينا.
- حتى يبكي الليل عليّ، همهمت مارغريت.
طرق جيروم الباب، فخفت آنييس إلى فتحه. أدخلته، وجرته من يده نحو غرفة نوم أمها.
- آنييس...!
- ماذا؟!
- اسمعي، أتوسل إليك، كوني عاقلة، هاه؟ لا ترتكبي حماقات تندمين عليها!... ألستِ جائعة؟ هل تريدين أن أع...
- أنا عاقلة، جِدّ عاقلة.
خبطت باب غرفة نوم أمها، وأمها بقيت هناك، منذهلة. بعد قليل، سمعت ابنتها، وهي تئن، ثم وهي تصرخ، فانفجرت باكية.


يتبع القسم الثاني4