مدام ميرابيل القسم الأول5


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4783 - 2015 / 4 / 21 - 08:09
المحور: الادب والفن     

ثمانية عشر عامًا من قبل، كان لها من العمر ستة عشر، عندما أخفقت في أول حب لها، وهزئت بها أمها. قهقهت، وهي ترى ابنتها مبلبلة الفكر، منفوخة الوجه، مبقعة الصدر، لأن صديقها الأمرد، بشعره الأشعث على طريقة بتهوفن، تركها لأجل واحدة غريبة الأطوار ذات شعر ملون، وقالت لها: - بيأفوخٍ كهذا، تستطيعين أن تتنافسي معها، الآن! التهمها السخط على أمها، وليأسها أمام البديهة القائلة بأن كل النساء متنافسات في أعين الرجال، أغلقت مارغريت عليها غرفتها، لتمزق صور السيد هنري. السيد هنري الذي لم تكن له يد في هذا، بدا لها جد بريء، جد غريب عن هذا الحب القبيح الذي يمارسه مجتمع الرجال بلا عاقبة، والذي تهرب منه مقسمةً ألا تُحِب أكثر مما تُحَب، هي، وألا تضحك أمها منها. ركضت لتتبع نصيحةَ تماثيلِهَا في حديقة اللكسمبورغ، كما كانت تهوى، وتجعلها شاهدة على قَسَمِهَا. لم يكن هناك أحد على التقريب، في ذلك اليوم. كان هناك النادر من العشاق الفتيان، والذين على ما يبدو يخاتلهم الشعور الجليّ، وهم يتعانقون في الظل، وكان نبع الفتوة المتدفق يذوب في أزرق الليل المتساقط. لم تكن هناك مراكب، ولا أطفال. انطلقت صفارة الحارس من الناحية الأخرى للحديقة، كالكلاكسون، منذ لحظة، وامتلأ الخلاء بالعزلة. لم تزل في ذهنها ذكرى الغد، فألقى عليها، من بين أوراق الأشجار، تمثال هيبوليت الأسود، النافخ في الناي أعذب الألحان، نظرة عاشقة. اقتربت منه و، في الوقت الذي كانت تفحص فيه ألا أحد من حولها، تدفعها رغبة مضطرمة في التمرد يعرفها أبناء الاستثناء وحدهم، في اللحظات التي يشعرون أن حياتهم ملكهم، ذهبت لتمس الفخذ القوية لفتاها الجميل المتواطئ والأخرس. جاءت النجوم حتى أطراف أصابعها، نَوْرَةً، وفجأة، كما بدا لها، اختلجت الفخذ كالقلب. ومن خلف جذع حَرِش، تقدم منها رجل كان يراقبها بلا شك، له لحية كثة وطلعة ملتبسة، وكانت كالمُدَوَّخَة، خجلة، متحجرة، يصلها كل شيء من بعيد كما في حلم. مجرد نظرة كانت كافية ليتركها، فلم تفعل. جذبها إليه دون كلمة، وغدا بربريًا، ليفضي به المساق إلى اغتصابها. دوختها أكثر رائحة كحوله وتبغه الحِرِّيفَة ونرفزة حركاته المرتبكة، ولولا صفارة الحارس القريبة لأغمي عليها. ارتعد الآخر، ودفعها، فاستبقته، وقبست النار من رجلها الغريب. نظر إلى كل مكان من حوله، وهرب راكضًا، لتتعلم كيف تضمر الحقد له. التذت بالنذالة، والحارس يمر على دراجته، وينظر إليها بإلحاح.
- ستغلق الحديقة، مدموزيل، الرجاء التوجه نحو باب الخروج.
جهدت في الابتسام، وعادت إلى البيت نصف معيبة، نصف مهيبة، وهي تركض، وهي تبكي بجنون.
نصف معيبة، نصف مهيبة.
بحثت مارغريت بعينيها عن تمثال هيبوليت الأسود، ولمحته. كان عشيقها الغريب يرسل دومًا ألحان الحب نحو السموات، وكان زوجان من العشاق يلتصقان بالحاجز، ويتبادلان معها ابتسامة فيها ما فيها من رغبة في البكاء.
عادت تأخذ شارع سان-ميشيل، وتفكر، كما لو كانت ترتعد، بتأثير الهوى، في كل هذا الماضي الذي عاد ينبثق، لعدة ساعات ربما، كمصل الحقيقة، بعد سنوات من الأكثر عجينية. لم تكن قد تبدلت: في داخلها، تهزأ بها أمها قليلاً أكثر كل يوم، واثقة، معروكة، واعية لأخطاء وعيوب العالم. وهي، مارغريت، لم تزل تهرب بين حياتين، دون تفكير، تتحاشى التفكير. عما قريب، ستنطفئ بِصَمْتٍ حاملةً حقيقتها الصغيرة كَسِرّ، كعار، كحماقة. عندئذ، عرفت أن باستطاعتها أن تشتري لنفسها ما تقدر عليه من العمارات، من الثياب، أو من الأحذية، ما تريد، أن تتسكع في أحسن علب ليل أوروبا، أن تقضي ليلتين كاملتين دون نوم لتدفع وجودها بشكل أفضل إلى نهايته، أو أن تنزوي في بيتها دون أن تخرج منه، ودون أن تفعل أي شيء. سيزيد كل هذا من تعبها، لتغدو أكثر عجينية وأكثر سكونية، وليخدم كل هذا، في النهاية، شيخوختها بسرعة أضعاف ما هي عليه في طبيعتها. والحال هذه، كانت طبيعتها تغلي في داخلها، ذاك المساء، و، لن تكون إلا لهذه اللحظة، لن تكون إلا هذه الحميا أبدية.
مقذوفة خارج الزمن فجأة، وهي تمزج فيما بينها انحرافات المزاج والأحلام والقرف من وجودها، كانت الأوراق الميتة تتساقط خلفها، وكانت أضواء المصابيح القديمة تعمل بقعًا واضحة في المساء، فتتنادى الظلال العارية سرًا وراء الفترينات المنطفئة في الأعماق السوداء للدكاكين. كانت تمضي دون أن ترى شيئًا...
على ساحة السوربون، كانت أرصفة المقاهي مزدحمة بالناس، مغمورة بالمتعة الجماعية لليلة من ليالي الخريف، وكان العشاق يهمسون ويقبلون. جلست على طاولة قربي –حيث سبقتها. شاعر، لا، رسام... عاينتني بلا تردد، بصراحة، وبإلحاح، وبدأتُ أتساءل إذا ما كانت في صدد معرفتي، إذا ما لاحظتني عندما مررت تحت نافذتها، أو حتى بعد ذلك. حاولتْ أن تستلفت انتباهي، ويا لسعادة قلبي الذي بدأ يخفق بقوة قوية، وعندما جاء النادل ليأخذ طلبها، نهضت، وذهبت.
انسلختْ بقوة خفية لا تثبت على رأي، وهي تنطلق في شارع شامبوليون الضيق، حيث كل شيء يصرخ بِصَمْتٍ كالعادة. كانت البنايات الهيروغليفية العالية تكاد تسقط على الدوام، يكفي أن تمضي مرة واحدة في أحد هذه الشوارع التي يبدو كل شيء فيها قديمًا قدم آلاف السنين، لتفهم هذه الفكرة الجغرافية والأركيولوجية لشارع شامبوليون، والشارع نفسه لا يتكون إلا من بِلاطه ورصيفه. ارفعوا أعينكم، فيغدو الشارع فضاء ضيقًا بين جدارين هائلين ورماديين، ويبدو اللون الكئيب قادمًا مما وراء القبر، وهو يناديكم من عالم آخر. وصلتها خطوات من نهاية الشارع، اختلط صداها بالريح. كان الهواء ساخنًا، وكانت له الرائحة الحادة والداكنة للقبور الفرعونية. تقدمتِ الخطوات منها بالعناد المتعالي والمتفاخر لإمبراطور روماني، ففكرتْ في الهرب، في البداية، ثم في طرد الرجل المحير بكل جسارة. لم يكن في هذا شيء من الشجاعة: ستوقف الرجل، وستغريه، أيًا كان، من النظرة الأولى. لأنها لم تكن امرأة بسيطة في الليل، كانت النار والهوى، القوة العاصفة للخريف!... إلا أن الرجل ما كاد يرفع عليها عينيه، فأحست بنفسها مضحكة. نظر إلى ساعته، وبدا عليه التفكير. كانت زوجته بانتظاره، وولده الصغير يعمل واجباته، وهو لن يتأخر عن العودة قبل الساعة التاسعة... كان العالم أجمع يتابع سيره المعتاد المتضح دون أن يعير كل مارغريت ميرابيل اهتمامًا، ولم تكن سوى نقطة مثيرة للسخرية لا شأن لها في باريس وفي كل العالم.
عادت تصعد شارع شامبوليون بعناء، بوجهها المسخ، وهي تنفخ، وكأن على روحها المثول أمام قاضي يوم القيامة. خرجت من فم مثلث ماسوني برأس النسر، وعادت تقطع ساحة السوربون. كانت نشوانة بشكل ما، فمن ذا الذي لا تأخذه النشوة أو الجنون، الرغبة في العته أو التخلي، الشهوات التي لا أساس لها، المجردة، الحادة، وهو يفهم وجوده كما نفهم نملة في منملة –ثمنه بقيمة ركلة أو يكاد؟ أَخَذَتْ شارع كوجاس، ثم شارع سان-جاك، في الليل المائج، وأوقفت سيارة. هذا المساء، ستكون النجوم في باريس...


يتبع القسم الأول6