أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4738 - 2015 / 3 / 4 - 20:16
المحور: الادب والفن     

نزلت تحت الأرض بصحبة الرجل الغريب، فوجدت أناسًا يسيرون إلى الوراء، ويحكون عن المستقبل. كان يقودهم رجل بهي الطلعة، لم أعرفه بلا لحية.
- ها هو أبو عبد الله العوفي، قال لي الرجل الغريب، وها هم أفراد حاشيته. أرغب في البصق على وجوههم المحتقرة!
لم أعرف أحدًا، كانت وجوههم القبيحة غريبة عني. لم يتأخر الملك عن الجلوس بعيدًا، وعن النظر إلى السماء، بانتظار حمامة يعتبرها مسحورة. واصل أفراد حاشيته السير القهقرى، في ظل الكاردينال السابق ريفيرا، الشيطان منمسخًا ذي القرنين الذهبيين. كان يقهقه بلا صوت، بينما هم لا يتوقفون عن الحكي عن المستقبل، وعن التضحيات التي يقدمها غيرهم. كانوا يريدون استعادة وادي عربة بثمن هذه التضحيات، ليتقاسموا الأراضي والمياه.
دفع الشيطان الفتاة الصهباء البدر أمامه، وبضربة سيف قطع حلمتها. قدمها لرجال القصر على طبق من فضة، فخبطوا كفًا بكف.
- هذه أراضيكم ومياهكم، قال لهم.
من ثدي الفتاة الدامي، انبثق فوج من الحمائم البيضاء بمناقير حمراء، عمل نصابو البلاط كل ما بوسعهم على ألا يراها الملك. ألهوه بطائر ليس حمامًا وليس غرابًا، ادعوا أنه منبئ بالملذات، فابتسم العاهل من الهناءة. كانت فرصتي للتحدث معه، لكن الرجل الغريب قال لي إن رجاله سيمنعونني من الاقتراب منه، ورجاني تأجيل الأمر إلى ما بعد، لما يسير أفراد الحاشية كما يجدر بهم السير، في ظل ملاك الخير، ظل أبي بكر الآشي. نزل بي طابقًا ثانيًا تحت الأرض، فوجدتُني أمام بسام المنصوري، وهو يبكي.
- لماذا تبكي، سألته.
- لأني أضعت الطريق إلى مجنون رشا، همهم.
- ولكنه الطريق.
التفتُ إلى الرجل الغريب كي يؤكد كلامي لصديقي، كان قد اختفى، فقال لي المنصوري:
- أردت أن أسأله عن سر هذه الرغبة في الحبيبة التي لا يمكننا احتواءها، هل بسبب هذه الرغبة أم بسبب إرادة تدمير نفسه غدا مجنونًا؟ أين هو؟ أين حبيبتي؟
أردت أن أقول له إنها في سفر، فأضاف، وقد أصابه السُّعْر:
- عندما تجلس على ركبتيّ، تحولني الرغبة إلى كلب، فأنبح كالمسعور.
أخذ ينبح بكل قواه، وينمسخ كلبًا. خرج من جسد الكلب ذئب راح يعوي، واللعاب يسيل من شِدقيه. جمعتُ صديقي بين ذراعيّ لأهدئه، فغدا وادعًا كطفل.
- عدلت عن قصدي، قال، وهو يخرج حمامة محنطة من جيبه، لن أذهب بحثًا عن الأعمى المجنون، سأصعد لأرى أبا عبد الله العوفي، فأطلب منه هذه الحمامة العمونية بقرار ملكي، لأني أريد حصتي من الحلمة. أنا الرجل الوحيد في هذا البلد، الحاكم الذي يستأهله.
- لتنال حصتك، قلت له، عليك أن تسير القهقرى.
- سأسير القهقرى.
- ظننت أنك تهرب من السلطة.
- هربت من السلطة، كرهت السلطة، فهرب الكل مني، وكرهني الكل. إن لم تكن لك سلطة لا أحد يعتبرك. في هذا البلد، أريد أن أكون معززًا مكرمًا، أريد أن تكون لي إمكانيات من يفعل كل شيء.
أمسكني من ذراعي، وجذبني إلى ابتسامته الساخرة الفاجعة.
- أول شيء سأفعله، قال، الانتقام. سأنتقم من كل الذين أساؤوا إلينا، أنا وأنت ومجنون رشا. سأنتقم من رشا نفسها، وأذلها. سأجعلها تنفق عند قدمي مجنونها. سأنتقم من كل الذين لديهم ثلاث أربع سيارات بينما، أنا، لا توجد غير قدميّ لي. سأنتقم من كل الذين لهم ثلاث أربع نساء بينما، أنا، لا توجد غير امرأة واحدة لي. سأنفخ انتقامي ريحًا صرصرًا شمالاً وجنوبًا، غربًا وشرقًا، خاصة شرقًا، كي أقتلع الشجر من جذوره، وأهدم على العالمين الجدران. سأدك البيوت على رؤوس ساكنيها، وأدفنهم تحت أنقاضها، ثم سأعود منتصرًا، معوَّضًا نفسيًا، سيدًا لجنس جديد من الكائنات، كلها كلاب أو ذئاب!
صعد إلى أعلى بينما نزلت إلى أسفل، إلى الطابق التحت الأرضي الثالث. اخترقت ردهة واسعة نصف معتمة، تفوح منها رائحة عطنة لدباغة وبول وياسمين. سددت أنفي، وأنا أسعل بقوة قوية. أَخَذَتِ الأرض تهتز، وقطيع من الظباء يركض بسرعة سريعة. استبد بي الخوف، ولم أعد أريد رؤية أبي بكر ولا مجنون رشا ولا أحد، كان من الجنون الذهاب إلى أبعد.
اعترض الرجل الغريب طريقي.
- لقد وصلت إلى آخر طبقات الأرض، قال لي، فلنرَ الآن أبا بكر الآشي وإلا فلا!
نفخ، فأخذتُ أرفرف كالنحلة، ثم أسقط على شجرة فيها باب مفتوح انغلق من ورائي. تقدمت من شخص قابع في الظلال، فوجدتني أمام الرجل الأعمى.
- نعم، أنا أبو بكر الآشي، قال لي.
أشار إليّ بالجلوس، فجلست، وأنا أنظر إلى السبابة المقطوعة ليده اليمنى.
- أعرف أنك تنظر إلى سبابتي، تابع، فليست لي غير هذه الإصبع المقطوعة من علامة تثبت من أنا، بعد أن كنت شخصًا آخر من قبل.
ثم دمدم:
- الله ورشا على الأعداء!
انتظرت أن يبدأ قصته، لكنه صفق مرتين، فحضرت الفتاة الصهباء البدر، وهي تحمل مرآة طلب مني النظر إلى نفسي فيها. رأيت الضرير فيها، وهو ينظر إليّ منها.
- سبابتي المقطوعة حقيقتي الوحيدة، قال، لهذا أنا لا أستر ذهبي وذهابي ومذهبي، وسأحكي لك قصتي التي لا يعرفها أحد سواي.
طبع قبلة على ثغر الفتاة، وأشار إليها بالذهاب. أمر الرجل الغريب الذي حضر فجأة، أن يضيء بالكواكب والنجوم سقفًا لنا، ثم أخذ الكلام:
- كما تعرف، كنت في زماني سيدًا من أسياد شبه جزيرة إيبيريا، قربني الملك حفيد ألفونس منه، واقترح عليّ منصب طبيبه الشخصي. أحبني، وأعزني، ولم يترك شيئًا يعز عليّ. ماتت ابنته الكبرى الأميرة إيزابيل بغلطتي، ثم مات الدون آميديه، طالبك المقدام. بيد أن العاهل برأني، فكل واحد منا يكتب قدره بيده. تركني أذهب إلى حب العقل في مراكش، حب ولد ميتًا، فتهيأت للذهاب إلى حب الوَجْد في عمان، أنا العاشق الخالد، وأنا أعلم أن حياتي ستنقلب رأسًا على عقب انقلاب السماء على الأرض. ومع ذلك، وعدت الأفلاك بأن أحتفظ بالوفاء لها، بالحب كما لم يحب أحد من قبلي أو من بعدي. رأيت هذا الحب على صورة مدينة تحترق، وعشته على صورتي، على عمري، مع كل حماسة الشاب آميديه. وهذا، لأني كنت وارثه الوحيد، ولكن لأني كنت غيورًا منه كذلك. فاجعته الكبرى، كان بالإمكان أن تكون فاجعتي، كانت الشيء الوحيد الذي فاتني.
دون أن أرميني ريشةً في الريح، شددت رحالي، وجئت عمان كما أجيء إحدى بناتي. مثلك ليس لي غير البنات، ومثلك لي ثلاث. بفضلهن، كما يقول الحديث، الجنة في السماء جنتنا بعد جهنم الغبراء. غير أن هذه المدينة المحترقة التي أردت إنقاذها لم تُرِدْ إنقاذي، فأحظى بما يرضيني. مات حاكم مراكش، والتهمت النار المدينة الهاشمية. بدافع حبي لها، عزمت على البقاء فيها، مهما كان حجم الدخان في سمائها، لأني، على عكس أخي رشاد رشد، كنت أحب عمان كمن يحب قبيلته.
بانتظار وعدي المشؤوم للأفلاك، كانت دروس العلوم أُلْهِيَة لإزجاء الوقت. غدوت أستاذًا في الجامعة، وأخذت أعمل ليل نهار لعمان، بكثير من التفاني.
جاءت زوجتي وبناتي لِيَرَيْنَنِي، إلا أنهن ما لبثن أن عدن إلى مدريد. لم تشأ زوجتي السماع بعمان، فهي تجد المدينة كريهة، والمدينة بالفعل كريهة. حظيرة خنازير مريبة، ومع ذلك، كنت أحب عمان. مستنقع تماسيح رهيبة، ومع ذلك، كنت أحب عمان. امرأة عاشرها كل الرجال، ومع ذلك، كنت أحب عمان.
قاومت عمان بالبقاء فيها، بعيدًا عن زوجتي وبناتي. أعدت طباعة كتبي العلمية، رواياتي، ودواوين شعري. حي بن يقظان لم يكن بينها، كنت أزمع على إعادة كتابته حسب صورتي اليوم، بعيدًا عن الحكاية الهندية أو الموريسكية. تحدثنا في ذلك، أتذكر؟ لم يكن من قرائي أحد غير طلابي وأصدقائي القليلين، ولم يكن من مطالعاتي شيء غير قراءاتي ومن تأملاتي إلا نجماتي. كنت أقضي الساعات الطوال، وأنا أتأمل حركة النجوم، وأفكر أن الكواكب تتابع طريقها أيضًا في مدارات الكتب، خاصة "المدنسة" منها، الروائع التي كُتبت، والتي لم تعثر عليها، أو الروائع التي ستكتب، ولن تعثر عليها. كانت السياسة تقوم كالطود في وجهي، هربت منها في مدريد، في مراكش، في عمان، وكان الساسة، في انحطاطهم، يبسطون عند قدميّ كل أصول التقزز والنفور.
تعب جسدي كثيرًا، وتعبت روحي. كان عليّ أن أنقد أحدهما، الروح أو الجسد. في شبه جزيرة إيبيريا، كنت الجسد الذي لا يكل، الروح التي للانفصال ليست قابلة. لم تكن هناك مشكلة للحل، كنت أعلم بتأثير الأفلاك على البشر، وعلى النمل، ولكن هنا، في عمان، كيّفت الأفلاك على هواي، وابتكرت الصدفة. لم يكن كل شيء لا إراديًا. صنعت الصدفة التي أريد، وبشكل من الأشكال، حققت إرادتي على الأفلاك. كنت أقوم بالخطوة الأولى، ثم أتركني أتورط. أتساقط كالتفاح. هذا هو ما يدعى بالورطة. ومع ذلك، كانت أجمل ورطة وقعت فيها طوال حياتي، هاوية ألقيتني فيها، وأضعتني بِلّذَّة.
هل تعتقد أنني نادم على ما جرى بيني وبين رشا؟ المحبون لا يندمون على شيء، حتى أتعس لحظاتهم. أنا أحقد عليّ فقط لأني لم أعرف كيف أحبها كما عرف آميديه كيف يحب إيزابيل. هذا أيضًا جزء من سحر تعاستي.
حدثني صديق عن كتاب يمكن أن يثير اهتمامي، إلا أنه أعاره لسكرتيرة نائب رئيس الجامعة المكلف بالمعلوماتية. كلمني عنها، وكأني كنت أعرفها، ومع ذلك، كنت أعلّم منذ عدة شهور، ولم أنتبه إليها. مضت الأيام، ونسيت الكتاب تمامًا، وقارئة الطابق الأول أيضًا، حتى اليوم الذي مات فيه كاتبه، وبدأ الناس كعادتهم يحكون عنه. ركّبت رقم هاتف الفتاة، وسمعت صوتها لأول مرة. تغلغل صوتها في دماغي، وانتشر. حاولت أن أتذكر وجهها، فلم أفلح. استجرت بالنسيان، وطلبت الكتاب.
- لم أنته بعد من قراءته، أجابت.
- ليس الأمر ملحًا، سآخذه عندما تنهينه.
أقفلت لأستقبل طالبًا، وبعد عدة لحظات، كانت هناك، في مكتبي. كيف دخلت؟ كيف وصلت بتلك السرعة؟ كيف أضاءت جسدها في الفضاء؟ لم أكن أرى ابتسامتها. كانت تبتسم بعينيها. لم أستطع تحديد لونهما الجارح كالشفرة. جَرَحَ لونهما لي الذاكرة، وأهرق دم الصور التي كنت أكدسها فيها.
تذكرتها، بعد ذلك، وهي تبتسم لي من وراء الحاسوب، وهي تحييني في الممر، وهي تختطف مني الانتباه في دغل عدم الانتباه، حتى أنني تذكرتها لما رأيتها لأول مرة: كان البرد قد دق عمان كالسكين في قلبها، أشرت إلى نافذة مكتبها، وقلت لها: "حل البرد دفعة واحدة!" نظرت إلى النافذة، ونظرت إليّ، لفت صدرها بذراعيها، وابتسمت لي.
- ما كان عليك أن تُحضري الكتاب في الحال، قلت لها، أنت لم تكملي بعد قراءته.
- لم تبق لي سوى عدة صفحات، قالت وهي تمر بإصبعها على الصفحات الأخيرة، أتركه لك.
وذهبت.
بعد ذهابها، سقط المكتب في الظلام.
في الليل، قرأت عشر صفحات من الكتاب، فلم يعجبني. كان الكاتب يكتب مذكراته بعضلاته! كان يريد أن يثبت للقارئ أنه قوي الذاكرة رغم كبر سنه، سن ينط عن الثمانين.
في اليوم التالي، تلفنت لها:
- أعيد لك الكتاب، كارثة هو!
أبديت لها ملاحظتي حول الأسلوب. كان لها رأي مخالف، مما فعل أثرًا غير متوقع فيّ. زيادة على ذلك، صوتها الذي كان ينتشر في دماغي. قالت لي فجأة إنها تقرأ إحدى رواياتي، وتجدها صعبة. عارضتني مرة أخرى. ربما لم أكن أكتب إلا لها دون أن أعرف، وها هي تجعلني أشك في ريشتي، في فلسفتي، في اختياري الحياتي. كان من واجبي إقناعها، أو، بكل بساطة، تبديل طريقتي في الكتابة.
- هي كالنجوم المتمردة، قلت لها، علينا التعمق فيها لنتذوق جمالها. تقدمي في قراءتك قليلاً، وستشدك الحبكة.
أكدت لي محاولاتها العديدة، بلا جدوى.
جرى كل شيء في لحظة واحدة، قبل أن تدق الساعة دقاتها الاثنتي عشرة لمنتصف النهار. في لحظة واحدة، أحببتها بقدر خمسين عامًا. هل تعرف لماذا؟ لابتسامتها. ولخيط الشمس الخجول الذي كان يتسلل من نافذة الممر. ربما أيضًا لحقل أخضر في شتاء عينيها، أخضر أو أزرق، حقل أزرق في شتاء أبيض.
ثم، نسيتها. انشغلت عنها بأشياء أخرى، أشياء كثيرة. حماسة أنهكتها الحماسة. بدأت أكره عمان بالفعل. شتاؤها لم يكن شتاء. كان مأساة. جوها، على العموم، كان كارثة. نسيت حب حبيبتي بكرهِ كلِّ شيء. هل كان ذلك لأحبها، فيما بعد، أعظم حب؟ كنت أكره كل مكان أذهب إليه، كل وجه أصادفه، حتى ولو كان جميلاً. فكرت في ترك العاصمة الهاشمية والعودة إلى بلدي، هناك حيث وُلدت، وحيث كبرت مع النجوم التي لم تتوقف عن الكبر منذ ملايين السنين. إسبانيا بلدي، وستبقى، رغم جوها الساخن جدًا في الصيف، إنها المكان الألطف في الكون، لأني فيه أستلذ بوجودي. في عمان، كان لدي إحساس بعدم وجودي. كنت تعبًا. كان جسدي يشكو الهزال، وكنت كنيزك خارج مداره بين المريخ وزحل. زيادة على ذلك، لم تعد روحي تعاشر النجوم. كانت النجوم تهرب منها، وكان يُتْعِبُ روحي البحث عنها خلف الغمام. ورشا، أينها في كل هذا؟
كان باستطاعة جسدي الاستراحة، الاستلقاء على أي جسد آخر، فهل سترتاح روحي؟ هذا لا يعني أنني لم أشته جسد رشا. ما كان لي إلا أن أحبه. تمنيت لو يسمح لي هذا الجسد بالاتحاد اتحاد الأجساد السماوية، عندما تكفهر الغيوم أو تحرد النجوم على سمائي.
أثارت اهتمامي حين اهتمامها بكتبي، وأيقظت كل ما كان نائمًا فيّ. استثارت كل فضول شبابي، وولّدت فيّ شعورًا لذيذًا غريبًا: شعور البراءة المذنبة.
ترددت، يا أخي، في البداية كثيرًا! كنت خائفًا من البراءة، فعزمت على أن أكون مذنبًا. أردتُ أن تكونَ المتعةَ وراحةَ جسدٍ متعب. لم أكن أعلم أنها قررت شيئًا آخر بلا علمي. كتبي التي كنت أزمع تقديمها لها بقيت خلال أسبوعين أو ثلاثة بعيدًا عن ملامساتها، عن نظراتها. ثم، قدمتها لأخرى. بفعلي ذاك، كنت على وشك أن أدفن قصة حب مبرحة، أن أوفر العذاب على جيل بأكمله، أن أعارض خضوع النساء. الخضوع مشتهى، والخنوع مبتغى، وخنق التفاح على خدود هذه المخلوقات الناعمة أجمل من كل القبلات.
سالت الدموع على خدي أبي بكر، فرفرف الرجل الغريب بجناحي الملاك، وجاء يمسح له عينيه.
- لست أنا الذي يبكي، قال، ولكن التي في عينيّ.
لم أفهم مدلول جملته، وتركته يتابع قصته:
- في ظلال الممر الخفيفة، وأنا غارق في أفكاري، رأيت شيئًا حسبته طائر الروح-الضياء. كان ابتسامتها. خَفَقَتِ الفكرة التالية بقوةِ خفقِ قلبي: هذه المرأة ستكون سر حياتي.
ذهبت باتجاهها، وكل حواسي يقظة. كآميديه، كانت بداية سقوطي. سقوط متصاعد، بداية النهاية، النهاية المتناهية. بدأتُ التحليق في العلياء، وعزمت على الذهاب إلى أبعد الآفاق.
كما طلبتُ منها، حاولتِ التقدم في قراءة روايتي، دون أن تصل إلى ذلك، ولم تفهم سببًا.
- كل شيء يبدأ بعدم الفهم، قلت لها.
لم أكن أفهم شيئًا، أنا أيضًا، من قصتها التي بدأتُ قراءتها. كانت هي الكتاب، الذي تحت ناظري، وعلى عكسها، أردت أن أقرأه، وأن أعيد قراءته، حتى أفهمه، أستوعبه، أليس الكتاب جسدًا يقضم كتفاحة؟
وبينما كانت تواصل الابتسام لي في الظلال الخفيفة، لم تكن لي سوى رغبة واحدة، اجتياح العالم. بسبب الظلال أم شفتيها؟ في القصر المدريدي، لم يكن هناك أقل ظل. لم تكن النساء تضن عليّ بابتساماتهن، ولكنهن نادرًا ما كن بهذا السخاء. لم أكن أنظر إليهن بشوق نظرتي إليها، لأنني لم أكن نفسي، لم يكن وقت لي، لم أكن أستعد للموت، لأن نيزكي سقط في مكان آخر، ووجودي لم يبدأ بعد.
تخيلتها ترتعش كجناح طائر لا رأس ولا جسد له، جناح فقط معلق على خيط، وهو يبتسم لي بلا توقف. فجأة، غدت ابتسامتها رغبة. لم تكن بريئة، ولم تكن مذنبة. كانت رغبتي أكثر من رغبتها، منعكسة عن شفتيها، وأنا على وشك أن يخونني الطبيب الذائع الصيت الذي كنته، ثقل هيبتي، نور فلسفتي. كان العاشق الذي باستطاعتي أن أكونه يحميني من كل حقيقة أخرى. كان الوهم الحقيقي الوحيد الذي أردته عندما قلت لها:
- سأشرح لك كل شيء.
وافقت.
- سآتيك بآخر، كتابي الأخير، عنوانه "مدريد".
رحبت.
- للنجوم البارقة على شفتيك، سأكون الليل!
عندما عادت إلى مكتبها، أرخى الليل سدوله في وضح النهار.
مضت لحظة. استعدت ابتسامتها، صورتها. كنت مشغوفًا بالصور. كانت الصور حياتي. بلا صور، لم يكن لحياتي معنى. ذكرتني صورتها بصورة أخرى تركتها في مدريد. صورة فتاة تحمل الاسم نفسه، جعلت منها بطلة روايتي. كانت مآل الصورة. كانت أيضًا الملهمة، المهلكة. يعني شيئًا آخر غير المرأة، غير الصورة. كانت خارقة، ولكن امرأة بأتم معنى الكلمة، لتغدو عادية. كانت طريقها معارضة للطريق التي استعارها بطلي "الحي". هل تكون طريق رشا هي نفسها؟ ذابت صورتها في صورة مدريد. شابة، مدريد كانت حبي الوحيد. ولأجلها، كنت على وشك أن أقطع الوريد! كان مصيري التمرد على مصير "الحي". رشا. تلك الفتاة ذات ثغر التوت وعيني اليشب اللازوردي: توت، يشب، وحزن. كل ذلك الجمال كان حزينًا بطبيعته. غدوت حزينًا. هل كانت حزني؟ كل ذلك الجمال كان يعلم بمأساتي قبلي. غدت حزينة. هل كنت حزنها؟ كنت أجهل أن للتوت قلبًا، لليشب عاطفة، للحزن عقلاً.
في اليوم التالي، ناديتها لأعطيها "مدريد"، فجاءت إلى مكتبي، وبقيت واقفة في الضوء. انعكس الضوء في مرايا اليشب، أنضَجَ توتَ ثغرِهَا الأحمر، وأججَ حزنَ بشرتِهَا البيضاء. كانت تلك صورة أخرى، أجمل من الأولى. غير أني كنت قد تعلقت بالأولى، بصورة مدريد، المدينة-العاشقة، بالتوت، باليشب، وبالحزن. حزن ابتسامة مذنبة، وَشَى بها الضوء. لهذا السبب، عزمت على الاحتفاظ بالصورة الأولى. كانت طريقتي في التعلق بها: أردت اكتشاف دلالة ابتسامتها، معرفة سرها، أسرارها. تخيلت أني شاطرٌ في معرفة مدارات الأجرام، وأشطرُ في سماءِ كونِ العيون. اعتقدت أني تجاوزت السن كثيرًا لأقطع دغل المالنخوليا الذي عبرته منذ عقود. اشترطت على نفسي ألا أكبر بعد اليوم في العينين اللتين لا تنامان في الليل وهما تحلمان. وبعد ذلك، بعد ذلك، اكتشفت دلالة الدموع أقوى اكتشاف، فقد أسالت ابتسامة رشا، بعد ذلك، من عينيّ، أمرّ الدموع، وغدوت أعمى، أرمل الوقت، بعد أن كنت الزوج الوفيّ لفضاءات الكون.


يتبع الفصل الثالث من القسم الثالث