أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4736 - 2015 / 3 / 2 - 11:34
المحور: الادب والفن     

أمضيت تسعة شهور في مراكش، وأنا أنتظر إنجاب زوجتي الناسكة. لم أبخل عليّ بالتقزز في عالم القصر المريح، فحياتي البحث في عوالم الكتب، بين حطام الكلمات، في أركيولوجيا النفوس، على ألحان كمان الزمن. كان الثمن الذي دفعته للتاريخ، ثمن لا بخس فيه ولا شطط، فلا أحد يجرؤ مع التاريخ على المساومة. كنت كالسجين في صندوق من الحلى، لم أكن أدري إذا ما كان الحظ إلى جانبي عندما وضعت زوجتي بنتًا، فأعتقتني زوجة الحاكم، بعد أن عَهَدَتْ إليها أختها بتربية ابنتها لتحمل في لحمها لما تكبر الوثيقة النفيسة. بمولد ابنتي، ستُحفظ وثيقة استقلال أرخذونة طوال الجيل القادم.
تركت زوجتي تتربع على أعلى مراتب الأولياء، فلا يدخل في المعقول فعلها، ولا يكون مما يُعقل. انقطعت إلى الزهد والعمل للآخرة، تحث السالكين على التوبة والصبر والشكر والرهبة والفقر والحرمان والإذعان والذوبان والتوكل. يطلون عليها بالأذى، وتطلب لهم الصفح والمغفرة، يعولون عليها بالهوى، فتعطي الهوى لمن لا يهوى. كانت مسألتها الخاصة، كالأزرق مسألة الزنبق في حديقة الكون، كما كان الشبق مسألة أختها المومس، وقلم الحمرة الأسود مسألة أختها الحاكمة. ثلاثتهن واحدة، وكل واحدة منهن واحدة.
خلال ذلك، كان أبو بكر الآشي قد ذهب إلى المشرق لمعالجة حاكم مراكش الذي مرض في القاهرة، وسقط طريح الفراش في دمشق، ومات في عمان. صارت كل الطرق مفتوحة إلى ذراعي زوجته، وكذلك كرسي الحكم. غير أن الطبيب الذائع الصيت لم يعد إلى المغرب، وأضعنا كل أثر له. تكدرت زوجة الحاكم تكدرًا شديدًا، ورجتني الذهاب بحثًا عنه. كالت لي خط رحلتي بالذهب، فاعتذرت إليها، وتعذر لي عونها. كنت أزمع العودة إلى مدريد، عند زوجتي وبناتي. لم أعتد غيابهن، ولا صبري على فراقهن. حاوَلَتِ الضغط عليّ بحرماني من ابنتي الرابعة، فلم تنجح. هددتني بحاكم أرخذونة الحالي، الكاردينال السابق ريفيرا، وكذلك بالفارس بوعمير، حاكم شذونة: لن يتردد، هذا أو ذاك، عن قتلك قتل كل كاتب معترض، وبدلاً من التقلب في النعمة، سيجعلانك تتقلب على رمضاء البؤس، ميتًا-حيًا، فلم أخضع.
قبل تركي مراكش، أذهبتني قدماي إلى ساحة جامع الفناء، فكان البعث في كل مكان: الأحياء في غليان، والأشياء في غليان. كانت الخيول تصهل على غير عادتها، والسحرة في تيهان، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون، الراقصون هم الناس، والناس هم الراقصون، المطبلون هم السياح، والسياح هم المطبلون، النساك هم رجال الدرك، ورجال الدرك هم النساك، رجال البنوك هم الفقراء، والفقراء هم رجال البنوك، اللحى للنساء، والأثداء للرجال، والقضبان للأطفال، والأنهار للقناني، والبحار لثقوب الإبر، والأسرار كورق اللعب مفروشة على طاولة الزمن. كان كل شيء يدخل في ضده، دون أن يكون ذلك بالفعل، فلا أحد يشعر باختلاف الشيء عن الشيء ولا الواحد عن الغير، ولا أحد يشعر بما يشعر غيره، لا أحد يشعر بحاجته إلى معرفة ما يشعر غيره. جاءني فتى، وأمسك بيدي، فتركت يدي في يده. جرني إلى زقاق طويل، لا أول ولا آخر له، زقاق بان لي معلقًا بين الأرض والسماء، وأدخلني من باب مفتوح لا يغلق لا في الصيف ولا في الشتاء، لا في الليل ولا في النهار، ولا عندما تهبط الآلهة من السماء إلى عبث العيش واشمئزاز الناس. دخل الفتى بي إلى رياضٍ الريحانُ يتسلق جدرانه، أسود من الحياة، والزنبق يكسو حوافه، أبيض من الموت. ومن الطابق العلوي، أشارت إلينا امرأة بالصعود، فصعدنا. تركني الفتى معها، وذهب، وابتسامته تلصق في كل مكان يلتفت إليه. جلست على الأرض، غير منتظر ما سيحدث. كنت أرغب في ترك نفسي للزمان، يلعب ما يشاء بي اللعب، فهي آخر ليلة لي في مراكش، وريما في الوجود. أحضرت المرأة نارجيلة، والحشيشُ تاجٌ ناره متأججة، فشربته جرعة جرعة، والمرأة هناك تنظر إليّ واقفة، ولا تتحرك. فجأة، سمعت صرخات مهولة، فقمت، فدرت، ورأسي من حولي يدور. أعادتني المرأة بدفعة من يدها إلى مكاني، وفتحت بابًا أمامي، فإذا بالفتى هناك عاريًا، وإذا بشيخ يغرز فيه سيخًا، فغاب الفتى عن الوعي. عند ذلك، حضر ثلاثة رجال حملوه، وذهبوا به، فأغلقت المرأة الباب، وظلت واقفة كالتمثال، تنظر إليّ، وأنا أشرب الحشيش جرعة تلو جرعة، ثم ذهبتُ غافيًا. عندما فتحت عينيّ، وجدتني ملقى في قلب ساحة الفناء، ولا أحد في ساحة الفناء. كانت الساحة ككل الساحات في العالم، ذهب عنها سحر جهنمها، ولم يبق لها سوى اسمها اللاعادي، ولا معنى لاسمها اللاعادي في نعيم المساء. لمست محفظة نقودي، وأخرجتها، كانت فيها أوراقي ونقودي كلها، فقمت، وسرت، وحدي في شارع محمد الخامس.
وأنا في قصر الحاكم، سمعت زوجته في حجرتها، وهي تتكلم مع أحدهم. عندما نظرت من الباب المفتوح، رأيتها تحكي مع كأسها، وهي تدخن سيجارة:
- الأمر لك، دون آميديه! كل ما تأمر، يا سيدي! سأذهب إليه، وهو ينام، أليس هذا ما تريد؟ سأرفضه، إذا ما أرادني، وسأريده، إذا ما رفضني. أنا لن أقتله كما قتلت زوجي، فعلت كما قلت لي، دون آميديه! السم الذي ابتلعه دون أن يعلم في القاهرة رماه طريح الفراش في دمشق وأماته في عمان. لكني...
راحت تبكي، تشرب الخمر بعصبية، وتنفخ الدخان بهستيرية، وتعود تبكي:
- لكني خسرت محبوبي، أبو بكر هو محبوبي! الأمر لك، دون آميديه! سأذهب إليه، وهو ينام، وسأخنقه. أبو بكر يستحق الموت، البروفسور، ابنته، أختي، العالم! أنا الأولى، أستحق الموت! لا، لا، لا...
ومرة أخرى، عادت تبكي. دلقت الكأس بين ثدييها، وأطفأت السيجارة في كفها، وأخذت تصرخ مستنجدة، فدخلتُ أرفعها، وهي ترفضني:
- لا، أنا لا أريدك! أنا لا أريدك!
قاءت عليّ، لوثتني كلي، وغابت عن الوعي.
صبيحة مغادرتي، أخذت طفلتي الصغيرة الموعودة بين ذراعيّ، وضممتها بقوة، قبلتها برقة، وغادرت القصر المراكشي بأقصى سرعة، ورائحة القيء تطاردني. ذرفت سيدته دموعًا حرّى: كنت الوحيد الذي يذكرها بأبي بكر، وبحبها له. لم يبق لها أحد، بعد موت زوجها واختفاء الطبيب الشهير وذهابي، حتى الظلال غادرت القصر، وخيم على الأجواء جو الفاجعة.
في مدريد، كنت أشم رائحة القيء في كل مكان، لم يخفف منها عطر زوجتي، لم تمحها رائحة بناتي. حديقتهن، للزنبق فيها رائحة القيء. حجرتهن، للطفولة فيها رائحة القيء. أحلامهن، للفنتزي فيها قوة الخنق. لم تكن الأوضاع قد استقرت بعد، افتُضحت حيلة الديمقراطية الشكلية، واستُنكرت محاولة العساكر التخفي في أردية المدنيين ورجال الدين. ليحوّل الكاردينال ريفيرا انتباه الإسبانيين هدد باحتلال الأردن كله، البلد الأصل للقبائل الأولى التي هاجرت إلى أرخذونة. كشف لأول مرة، أن وادي عربة، وادي كل الحضارات القديمة، تابع للسلطة الإسبانية، منذ عهد أرخذونة. هز النبأ الرأي العام، فهذه الزنبقة السوداء من تاريخ الأردن، والتي طُمست حقيقتها منذ زمن طويل، قسمت الأردنيين فيما بينهم. كادت الحرب الأهلية تشتعل حربًا تودي بالأخضر واليابس، بالفستقي والسكني، بالدميم والدميم، لولا أن أبا عبد الله العوفي، ملك البلاد، بحنكته المعهودة، راح يتكلم عن استعادة وادي عربة من الإسبانيين، مقابل تأجيره لهم، وتوقيع معاهدة سلام معهم... ورائحة القيء التي لا تنتهي، رائحة القيء، رائحة القيء، رائحة القيء.
كانت كل الظروف موائمة لتشكيل حكومة جديدة، حكومة ائتلاف وطني، تنقذ البلاد من ورطة وادي عربة ومن ثورة للخبز جديدة لوح الأئمة بها. رائحة القيء. لم تكن ثورة الأفواه الجائعة باتفاق مسبق، كما هو دأبهم مع الدهاليز، لأن التذمر تجاوز الاحتواء، والمنابر، ونبتت للزنبق المخالب. رائحة القيء، رائحة القيء. وُلِدَت أوهامي من رمادها، فكرت في الأرملة، وفي لياليها. في ياسمينها، وفي قبلاتها. رائحة القيء، رائحة القيء، رائحة القيء. امتزجت بأفكاري رائحة القيء، فكتبت لجلالته أقترح أبا الحكم القاسم، رئيس ديوانه الحالي، رئيسًا للوزراء، متذرعًا بحصافته ورزانته وحبه لوادي عربة كأرخذونة. وكتبت لأبي الحكم القاسم، أطلب منه، إن تم تعيينه رئيسًا للحكومة، أن يَكِلَ إليّ وزارة الثقافة، فقد كرهت السياسة، وأردت أن أقدم للبلد معارفي. انتظرت الجواب حتى كللت، فتمنيت القيء. حاولت، فلم أفلح. جاءني نبأ سيء يقول بإبعاد أبي الحكم القاسم عن كل وظيفة، وتعيين آخر، شاب لا خبرة له، يغذيه الحقد على أرخذونة، رئيسًا للحكومة. فهل كنت أنا المسؤول، دون أن أشاء، عن هدم حصن رئيس الديوان الملكي؟ يبدو أن حاله كحال كل الآخرين الذين يرفعهم أبو عبد الله العوفي إلى أعلى المناصب، وبين عشية وضحاها، يلقي بهم في المزابل. بعضهم يبقى فيها إلى الأبد، وبعضهم يلمعه، كما نلمع الأثاث القديم، قبل أن يرفعه من جديد لهدف معين ما أن إصابته تتم حتى يعيد إلقاءه كأية نفاية. إنه ثمن قتل البلد، الأرملة، الحب، القيء، ثمن القيء، القيء الذي لا يجيء.
ترددت عدة أيام، وأنا أغرق في رائحة القيء، قبل أن أهاتف رشاد رشد لأسأله ما العمل بعد كل ما حصل، ولآخذ برأيه. ودون أن أتوقع وجود أخيه الأكبر أبي بكر في عمان بعد وفاة حاكم مراكش، قال إنه أمضى فيها سنة جامعية بوصفه أستاذًا، مبعدًا نفسه عن كل دور سياسي. ثم اختفى لا يدري أين، ولم يره البتة أو يسمع عنه. بعد ذلك، حدثني عن عدم الاستقرار الحكومي، ونصحني بالمجيء إلى الأردن لو كنت أزمع الاتصال شخصيًا بأبي عبد الله العوفي. الرسائل لا تنفع، وكما يقول المثل "بعيد عن العين بعيد عن القلب"، الحساد من حوله بعدد النحل في خلية متهتكة، يجب مواجهتهم كلهم. سيأخذ هذا وقتًا، وبشكل متوازٍ، اقترح عليّ العمل في إحدى الجامعات الخاصة.
بعد يومين، هبطت في مطار الملكة علياء، في عمان، وخوفي من انتظار اللقاء بالعاهل الأردني خوفان، خوف الغد وخوف البارحة. المتنبي انتظر كثيرًا عظامَ زمانه، رَدَّ الاعتبار له، إجلالَهُم لأعمالِ حياته. أما أنا، فرائحة القيء ستطاردني في كل مكان. رائحة القيء، رائحة القيء، رائحة القيء...


انتهى القسم الثاني
يتبع الفصل الأول من القسم الثالث