أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الأول


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4724 - 2015 / 2 / 18 - 12:15
المحور: الادب والفن     

في مطار الملكة علياء، عرفت رشاد رشد الآشي أول ما وقعت عليه عيناي. كان طويل القامة، وسيم الطلعة، ولو لم يكن في ريعان الشباب، لمضى توأمًا لأبي بكر. استقبلني بذراعين رحبتين، ورحب بي كثيرًا وأهّل. أبدى لي من الصداقة والحرارة إلى درجة غاب فيها عني جو التوتر واضطراب المسافرين. شممت رائحة الدخان، وراحت ثلة من الجنود تجري صوب الناحية التي ينتشر منها. بقي رشاد رشد الآشي صامتًا، واكتفى بدعوتي إلى مغادرة المطار بسرعة.
في سيارته، عاد إلى الترحيب بي والتأهيل، ثم، وملامحه تعتم، قال إن البلاد تعيش حدثًا ستترتب عليه نتائج جسام في المستقبل. فكرت في المهمة التي جئت من أجلها: تتعقد الأمور في اللحظة التي أطأ فيها أرض العاصمة الهاشمية. لم أسأل أي حدث هو، لأسمع رشاد رشد الآشي يقول:
- لا توجد أية علاقة مباشرة بما جئت من أجله هنا، بروفسور، ولكني أخشى أن يرجئ العاهل الأردني تسويتك حتى يستتب وضع البلد.
- لم تقل لي ما يجري، قلت، منشغل البال.
- إنها ثورة الخبز.
- ماذا؟!
- ارتفعت أسعار الرغيف، والناس لم تعد قادرة على شرائه، فتحرك الفقراء في معان، وفي الكرك، وفي عمان. غدًا، بعد صلاة الجمعة، ستشق شوارع العاصمة مظاهرة كبرى، ليس بمقدور أحد تقدير عواقبها.
قلت مع ابتسامة طفيفة:
- لو أمعنا النظر في الأمر لوجدنا أن كل هذا يصب بالأحرى في صالحي.
التفت رشاد رشد الآشي إليّ، وهو يخفف من سرعته، غير مبال بنفير السيارة التي كانت من ورائه، وانتظر شروحاتي.
- إنها الفرصة الأحسن لتغيير الحكومة بأخرى تلغي القرار المجحف، وتعمل على تسكين اللعبة، وذلك بربط مصير البلد مع مصير أرخذونة الأندلس، أرض النعيم!
- ولكن صندوق النقد الدولي الذي كان من وراء رفع أسعار الخبز ليسترد قروضه لن يقبل بشيكات على شكل أحلام يسخر منها.
- تجدد الأحلام، خاصة الحلم الأندلسي، سيبقى محركًا شعبيًا ومحفزًا على التغيير. أما صندوق النقد الدولي، فسأعمل على أن تدفع له إسبانيا قسمًا مما يطالب به ليسكت، ولو مؤقتًا.
- ومن يقول بالتزام إسبانيا، والكل يعلم أن المديونيات الأردنية أكثر من كبيرة لبلد أكثر من صغير، لأن حكامه لهطوا وشفطوا الأموال في قسم كبير منها؟ أما إسبانيا، فلها من المشاكل المالية ما لا يعد ولا يحصى.
- المشاكل المالية لإسبانيا مشغلة للبال أقل بكثير من مشاكل هذا البلد، وسأقوم بالضروري ليضمن الملك حفيد ألفونس دوبوربون شخصيًا هذا الدفع.
بدأ أخو أبي بكر يخترق ضاحية عمان، وهو لا يبدو عليه الاقتناع بكلامي:
- أرجو أن يفكر الملك أبو عبد الله العوفي كما تفكر وأن تسير الأمور نحو الأفضل.
- إن لم يفكر مثلي حاولت إقناعه.
تنهد رشاد رشد:
- سنهاتف القصر لنخطره بوصولك.
وسكت.
بعد غيبة عن عمان، طالت ثلاثين عامًا، أخذت أتأمل بفضول الشوارع الجديدة لهذه المدينة، هذه الشوارع الغريبة بأبنيتها الحجرية الحمراء والسوداء والبيضاء. لم ترحني الألوان الثلاثة، فالأسود العدم، والأبيض الفراغ، والأحمر الدم. لاحظت ما لم ألاحظه في المطار: التوتر الطاغي على وجوه العابرين والخوف أمام كل هذا الانتشار للعساكر. ككل مدينة تخرج من رأس حاكمها كانت عمان، جديدُ شوارعِها كقديمِها كان في معظمها يحمل أسماء الأسرة الملكية، وهي كمدينة ملكية تخلو من كل ما هو ملكيّ، مسارح روما وتماثيل باريس وأساطير مدريد، بينما تنبعث من كل زاوية من زواياها رائحة الفلافل والشاورما والمازوت. سكت بدوري، ولم أفه طوال باقي الطريق بكلمة. غرقت في أفكاري، وأنا أقول لنفسي لست أدري لأضلها أم لأهديها: ستجعل مني الظروف الحرجة التي يمر بها هذا البلد المنقذ القادم من وراء البحار! ستغدو أرخذونة بمثابة القلب للأردن، وبفضلها، سيعود الأمل إلى ناس هذا البلد كما إلى ناس تلك المدينة الأندلسية القديمة، والسلطات إلى العاهلين الإسباني والأردني، وسيرى السلام النور والديمقراطية.
أول ما وصلنا منزله، تلفن المحامي الشاب للقصر، وطلب أبا الحسن الفزاع، الذي يعرفه مضيفي معرفة غامضة. لم يكن في مكتبه، فتركنا له خبرًا. انتظرنا ساعة، وأعدنا الاتصال به، دون أن يكون دومًا هناك. تركنا له خبرًا ثانيًا، وأشرنا إلى أن الأمر ملح. ومع ذلك، انتظرنا حتى هبط الليل، لنتصل به للمرة الثالثة، فقيل لنا إنه غادر القصر. في نشرة المساء التلفزية، علمنا أن الجيش قد أطلق النار على المتظاهرين في معان، وتكلم المذيع عن مؤامرة تستهدف شخص أبي عبد الله العوفي، فقرأت اليأس على وجه رشاد رشد.
- كل نقود إسبانيا لن ترضي حكام هذا البلد طالما لم يتم القضاء على ثورة الخبز، همهم أخو أبي بكر.
- هل أبو عبد الله العوفي موافق؟ سألت مع أمل سماعي ل "لا".
- أنا لا أعرف موقفه، فالعسكر هم أرباب هذا البلد، والديمقراطية ما هي سوى غطاء لذر الرماد في العيون. أية معارضة سياسية أو شعبية تقمع بقبضة حديدية.
- ولكني، سأغير كل شيء، قلت بتفاؤل، والعاهل الأردني سيوافق على مشروع للحياة جديد بما أنه قبل الاقتراحات الإسبانية بخصوصي.
- التغيير غير جائز إلا إذا تغير النظام ذاته، وهذا ليس على جدول الأعمال، لأنه نظام السي آي إيه، المتغلغلة في البلد.
- إذن الصلاة والسلام على المهمة التي جئت من أجلها هنا.
- لا أظن أن الباب قد أغلق تمامًا في وجهك، فالعاهل الأردني يهمه بالفعل تقديم مساعدة لصديقه العاهل الإسباني، وتسميتك كرئيس للحكومة مرتبطة بهذه الناحية ولا شيء غيرها. أما أمور الأردن الداخلية، فالجيش هو دبابتها الوحيدة. سننتظر أن تهدأ الأمور، بروفسور، يومين أو ثلاثة، ونعيد الاتصال بالقصر. لقد تركنا خبرًا عدة مرات لأبي الحسن الفزاع نعلمه فيه بوجودك في عمان، وسأتصل في الحال برئيس الديوان الملكي وكذلك برئيس التشريفات، اللذين لن يكونا في مكتبهما، ليس بسبب الأحداث وإنما التطنيش الأسطوري لرجال القصر.
- على أي حال، هذه الأحداث مشغلة للبال بالفعل.
- أحداث خطيرة أم لا أنت لن تجد لا الواحد ولا الآخر.
- البلاط الإسباني شيء آخر.
- وإذا تركت خبرًا للواحد أو للآخر فلن يتفضل لا الواحد ولا الآخر بالرد عليك.
- هذا لأن البلاط الإسباني يعيش في زمن ما بعد فرانكو بالفعل.
- لكنك أنت، بروفسور، حالة خاصة، حضورك هنا تم بأمر من صاحب الجلالة، سيخبرونه على الأقل بوصولك، الشيء الذي أتمناه. إذا لم يتصل بك أحد، خلال يومين أو ثلاثة، فكسسنا لجلالته، وفكرنا بطريقة توصلك إليه في أقرب وقت.
جاءت زوجة رشاد رشد وابنته تسلمان عليّ، وما لبثت الصغيرة أن تسلقت ذراعي أبيها الذي عاد يهاتف القصر. عبّرت الزوجة عن عميق أسفها بخصوص الوضع الحالي للبلاد، واعتذرت عندما قالت أن لا حل هناك. عندما انتهى أخو الطبيب النطاسي من ترك رسائله الهاتفية، رن جرس الباب.
- هذه مدام سونيا، قالت رحمة، زوجة رشاد رشد.
وذهبت لتفتح.
- مدام سونيا جارتنا، أوضح المحامي الشاب، امرأة غنية وذات نفوذ تدعى "الأرملة". تزوجت عدة مرات، وكل أزواجها ماتوا، من هنا لقبها. دعوناها إلى العشاء لتتعرف عليها في حالة ما كنت بحاجة إليها، زد على ذلك أنها قرأت كتبك، وحالما عرفت أنك ستكون هنا، أعربت عن رغبتها في رؤيتك والتحدث إليك.
لم تتأخر رحمة عن العودة مع امرأة طويلة شقراء بعينين زرقاوين مُغْرِقَتَيْن وابتسامة بيضاء ألقة. قدمتها لي بينما الصغيرة تسارع إلى الارتماء بين ذراعي الضيفة التي قبلتها وهي تشخص ببصرها إليّ. وضعت الأرملة الطفلة، وعجلت الاقتراب مني ناقلة يدي بين يديها قائلة لي:
- أنا سعيدة جدًا جدًا للتعرف عليك، بروفسور! إنه لشرف عظيم لي! لن تتصور كم أنا فخورة بالسلام عليك!
- كل الشرف لي، سنيوريتا! قلت، والطريقة الساخنة لهذه المرأة الساحرة التي تُنعم بها عليّ تجذبني إليها.
- مدام سونيا واحدة من معجباتك الأكثر تحمسًا، رشق رشاد رشد وهو يدعوها إلى الجلوس إلى جانبي.
- كلي افتتان!
- وأنا كذلك!
- ...
- لست أدري ما أقول.
- ...
- إنه لشرف عظيم لي!
لم ترفع معجبتي نظرتها الزرقاء عني لحظة واحدة، ولم تنقطع عن الابتسام لي مرددة أنه لشرف عظيم لها أن تتعرف عليّ. لم أعرف ما يفتنها إلى هذا القدر كتاباتي أم شخصي، وأنا، على أي حال، شعرت بي متدلهًا بنظرتها، نظرة تدغدغ لك المحار دون سابق إنذار. كنت مرتاحًا قربها، كما لو كنت أحد عشاقها. نسيت الوضع الحرج للبلد، وضعي، مهمتي! أبعدني حضور الأرملة عن كل لحطة فاجعة.
بعد غياب قصير، رجتنا رحمة القيام إلى الطعام.
- العشاء جاهز، قالت.
كانت بانتظارنا أطباق لا تعد ولا تحصى من المحاشي: باذنجان، كوسا، بندورة، خيار، جزر، ورق عنب، ورق خس، ورق شف... محاشٍ، وأيضًا محاشٍ. أكلت قليلاً، الأرملة لا شيء تقريبًا. تكلمت عني، عن إسبانيا. زارت مدريد عدة مرات. تكلمت عن دكاكينها الجميلة، نافوراتها الجميلة، ساحاتها الجميلة، بناتها الجميلات، وأولادها الجميلين. قالت وهي تنفجر ضاحكة. ضحكة طازجة، خالصة، ترن بسرور، بسرها. جعلتني رقتها الحليفة لأناقتها حالمًا. فضلت النظر إليها، مَلْءَ عينيّ بجمالها. وأنا أنظر إليها، أردت استدراك كل أيامي الضائعة في الإيسكوريال. كانت امرأة تطالب المرء بتكريس كل وقته لها. دعتني إلى بيتها في اليوم التالي، فحزرت أنها تريدني أن أكون كلي لها، لمساءٍ على الأقل. سَرَّ رشاد رشد وزوجته ألا تدعو غيري، وعاملاني معاملة أكبر محظوظ في الوجود.
- هذه المرأة ستفعل كل شيء كي تفرضك على الملك، بروفسور! همس المحامي الشاب في أذني.
لم أقم بأي تعليق، واكتفيت بالابتسام... لها.

يتبع الفصل الثاني من القسم الثاني