أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثالث عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4721 - 2015 / 2 / 15 - 12:40
المحور: الادب والفن     

لم تكن المرة الأولى التي أذهب فيها إلى بيلباو، عاصمة البيسكاي، ولم أزل أحتفظ بمذاق أجبانها الباسكية وجانبونها الإيبيريكو. أنزلني أنطونيو في فندق كوندي دوكي، وبعد ساعة، أكون ارتحت قليلاً، سيمر لأخذي إلى مطعم الأسادور جيتاريا، لأكل بعض المشاوي. نظرت إلى ساعتي، وأنطونيو يرشقني:
- الناس هنا يتعشون متأخرين، والمطاعم تبقى مفتوحة إلى ساعة أبعد ما بكون من الليل.
- أعرف بيلباو وعادات أهلها، قلت، إلا أنني أفضل أن آخذ شيئًا خفيفًا في مطعم صغير من مطاعم المدينة القديمة، وأعود بسرعة إلى الفراش، فيومنا غدًا سيكون حافلاً بالمفاجئات.
- كما شئت، بروفسور! إذن إلى اللقاء خلال ساعة.
- لستَ مضطرًا لاصطحابي، فأنا أعرف المدينة جيدًا، كما قلت لك، وحاجتي كبيرة إلى التوحد من أجل أن أفحص جيدًا أغوار مهمتنا والتأمل في سبل إنجاحها.
تردد أنطونيو:
- هل أنت متأكد، بروفسور؟
- تمام التأكد.
- لن تحتاج إليّ؟
- لا تقلق، يا أنطونيو!
- من عين العقل أن أكون معك، أو أن يرافقك أحد الحراس، فنحن لا ندري ما يمكن أن يحصل والظروف الحساسة التي نعيشها...
- قلت لك ألا تقلق من أجلي، لن يحصل لي شيء: المدينة القديمة على بعد خطوتين من هنا، وفضلاً عن ذلك، لا أحد يعرفني، أو يعرف سبب وجودي في بيلباو.
- كما تشاء، بروفسور! كن حذرًا!
رماني أنطونيو بنظرة بدت لي غريبة، وغادر حجرتي. كنت بالفعل بحاجة إلى التجول على البلاط الرطب للمدينة القديمة، والإصغاء إلى أصداء خطواتي، وفي الوقت ذاته، التفكير في ردود فعل آميديه، وموقف الأميرة إيزابيل التي يصر والدها على عودتها. كانت حاجتي إذن كبيرة إلى اللقاء بنفسي في فضاء بيلباو الموريسكي، والاختلاء بها. لم يكن سعيي إلى أكل قطعة جبن أو شريحة جانبون سوى ذريعة للتخلص من ملاحقة مساعد أبي بكر، لا غير.
على باب الفندق، نظرت باتجاه متحف جوجنهايم، في الناحية الأخرى من نهر نيرفيون، لم تكن أضواؤه تستطع كما كان في الماضي، كان يسقط في ظلام دامس. بذلت عدة خطوات نحو النهر، كانت النجوم تنطفئ فيه، وكانت تعبر السماء غيوم كثيفة، والأمواج ثقيلة. التفت من حولي، كان العابرون قليلين. أحسست بقرص في قلبي، وبدلاً من أن أعود أدراجي، قطعت منتزه الكامبو فولانتين، ومنه، ساحة رازا نيوفا ذات الأعمدة الواحد والألف الشبيهة بأعمدة الإيسكوريال. ثم وجدت نفسي أمام كاتدرائية سانتياجو، في قلب المدينة القديمة. دقت أجراس الكنيسة دقات رتيبة، وأنا أدخل في أحد الأزقة ذات البيوت العالية والشرفات الحديدية. في الليل، خمنت بوجود قواوير الزهور، كانت كلها سوداء، لا يفوح شذاها كما هي عادتها. وكانت معظم البارات مغلقة، والفاتح منها نادر الرواد. ترددت على باب أحدها، تردد المتسلط على ميوله. كان مجيء آميديه وإيزابيل إلى بلاد الباسك قد طبع عميقًا سلوك الناس، وهم بين القلق والخوف، فضلوا المكوث في ديارهم. لم يكن أسلوب عيشهم، فقررت العودة إلى الفندق، عندما أحاط بي فجأة، ثلاثة رحال مسلحين. طلبوا إليّ أن أتبعهم، الشيء الذي فعلته دون أن أطرح أي سؤال. أركبوني في سيارة كانت تقف قرب الكاتدرائية، وانطلقوا بأقصى سرعة.
سألت خاطِفِيّ عن وجهتنا، وإن كان آميديه وراء كل هذا، فاختاروا الصمت. قلت لهم إن تأخري عن العودة إلى الفندق لسوف يدفع كل عساكر المنطقة إلى البحث عني في كل مكان، فأنا في مهمة رسمية، سيقتفون آثاري، الشيء الذي يعني حصول متاعب كبيرة لهم، إلا أنهم لم يهتموا بتهديداتي المبطنة. كنت كمن يمخر عباب البحر، أسعى عبثًا. لم تكن عبقرية اللغة تنفع في شيء، ولم أجد جوابًا لوضعي، وأنا مَنْ عندي لكل حال عتاد. على أبواب مدينة سان-سيباستيان، كانت سيارة أخرى بانتظاري. وضعوا قناعًا على وجهي، وجعلوني أدخل فيها. بعد قليل من الوقت، بدأنا نصعد جبال البرنة الغربية. كجسد المرأة كانت جبال البرنة، بيضاء في الليل، بضة، تشجع على الاغتصاب. تساءلت ما الفرق بين مغتصب الحق ومغتصب السلطة، وغفوت. في الصباح، صحوت على سرير يُطوى، في خيمة.
خرجت أنظر أين أوجد، كانت إحدى هضاب السحلبيات، وهناك ليس ببعيد ثلاث خيمات، ورجل يغلي إبريق قهوة على بعض الجمر. أول ما رآني، خف إلى الدخول في إحدى الخيمات الثلاث، ليخرج، بعد قليل، بصحبة آميديه والأميرة إيزابيل. رأيت أول ما رأيت منها قدمها اليمنى التي خنق بنصرها خاتم الزواج، وطوق عرقوبها سوار، حسب العادة الأندلسية. عرفت، عندئذ، ألا فائدة ترجى من مهمتي.
سلما عليّ بحرارة، واعتذر آميديه. كان مضطرًا "لاختطافي"، بالتأكيد لدواعي أمنية. لم أسأله كيف علم بوجودي في بيلباو، فرفاقه الباسك منتشرون في كل مكان في البلد. ونحن نأخذ القهوة، جاء الرجال الذين كانوا في الخيمتين الأخريين للسلام عليّ. سألوني إذا ما ارتحت من عناء السفر، واعتذروا، بدورهم، عن الطريقة التي جرؤوا فيها على اختطافي. تركونا، آميديه وإيزابيل وأنا، وحدنا، وعادوا إلى الخيمتين: كانت لهم ذقون خشنة كلهم، اغتصابية.
أحضر من قدم لنا القهوة كرسيًا، فرجاني آميديه الجلوس، بينما جلس والأميرة على حجر. رشفت قهوتي، ثم نظرت في عيني آميديه، وهو يلف كتف الأميرة بذراعه.
- سأدخل في صميم الموضع، قلت لآميديه. يعتبر جلالة الملك وجود الأميرة إيزابيل هنا كاختطاف، لزعزعة أركان الأسرة المالكة، وتدمير الديمقراطية. وهو يوجب عودة صاحبة السمو معي، دون شرط مسبق، وترك أمرك، يا آميديه، بين أيدي السلطات السياسية. بخصوص أبي بكر الآشي، قطع على نفسه عهدًا بالعمل على عفو الملك عنك، وقبوله بتزويجك من المرأة التي تحب، والحال هذه سمو الأميرة إيزابيل، فنحل المسألة، ونتحاشى إهراق الدماء، لأن جلالته مصمم، إن فشلتُ في مهمتي قربكما، ذَبَحَ أهل الباسك وأهل أرخذونة.
من الجلي أنني لم أتكلم عن اشتراط جلالته على آميديه تسليم نفسه، وعلى العكس، اقترحت حلاً سلميًا بينه وبين السلطات الحكومية. ومع ذلك، انفجر طالبي ضاحكًا، وكذلك الأميرة إيزابيل.
- انظر من حولك، بروفسور، قالت سموها لي، هذه السحلبيات أميرات مثلي، الفرق بيني وبينها، أنها ولدت في المنفى. نعم، لقد اخترت هذه الطريق من تلقاء نفسي، لأني أحب آميديه. لم يختطفني بالقوة، كما يعتقد أبي، اقتنعت بقضيته العادلة، وقدرت النتائج الوخيمة التي تترتب عن ذلك. أنا امرأة مسؤولة تعرف ما تفعل، أنا ابنة الملك الكبرى.
نظرت إلى وجهها الشاحب الذي يشبه إلى حد كبير سحلبيات الجبل، ورجوتها:
- لهذا السبب، يا صاحبة السمو! لأنك الابنة الكبرى لجلالة الملك، ولية عهد تاج إسبانيا، أهيب بك إلى العودة معي إلى مدريد، وأبتهل إليك تصديق كامل فهمي لمشاعرك، وإلا تحول حبك لآميديه وحب آميديه لك إلى فاجعة الفواجع!
تدخل آميديه كشجرة سنديان تنبت في الرماد:
- على العكس، حبنا سيعتق شعبي وكل شعوب إسبانيا وسيسمح لبلدنا استعادة مجده الغابر.
- أنت، طالبي اللامع، تقول هذا دون أن تدرك مدى أبعاد التهديدات الملكية الوخيمة العاقبة!
- من أجل حبي، سأقاتل الدنيا بأكملها، لو يلزم!
جذب الأميرة، وقبلها، ثم قال:
- من أجل إيزابيل، سأحرر أرخذونة، لتكون مليكة عليها في حياة أبيها!
- ستدفع الثمن غاليًا، يا آميديه!
- دمي ودم شعبي يرخصان في سبيلها.
لم أيأس من إعادته إلى طريق الصواب، وطريق الصواب كان إبقاء باب المفاوضات مفتوحًا:
- اسمع، يا آميديه، لقد وصلت رسالتك إلى جلالة الملك التي تطالبه فيها باستقلال أرخذونة، وأنا في القصر، وهذه مبادرة سلمية، بإمكاني وأبي بكر الآشي أن نعمل على تحقيقها، وذلك باقتراح التفاوض معك، فقط إن وعدت بعودة الأميرة إيزابيل إلى مدريد معي عند لقائنا القادم.
غضبت صاحبة السمو:
- ولكني أنا لا أريد العودة، بروفسور! هنا قصري، وهؤلاء هم أهلي، ووجودي هنا لا يعارض أي حل سلمي!
وفي اللحظة ذاتها، انبثقت من وراء قمم البرنة طائرة هيلوكبتر، انقضت على المعسكر، وراحت به قصفًا. بحثنا، أنا وآميديه والأميرة إيزابيل، وكذلك كل من كان معنا، عن مخبأ خلف الصخور. أخذت سموها تبكي بين ذراعي آميديه، وتتساءل بحقد جعل من أزرق عينيها أسود:
- هل هذا هو الرد على مبادرة آميديه السلمية؟ هل هذه هي أوامر أب يريد من ابنته العودة إليه، وهو لا يهتم حية أم ميتة؟ حتى أنه لا يشغل باله وجود مبعوثه الشخصي ونجاح مسعاه!
ولت الهيلوكبتر الأدبار، مع أولى الطلقات، ونشب حريق في إحدى الخيام.
قلت لابنة الملك:
- ليست هذه أوامر جلالة أبيك على التأكيد، إنهم عساكر المنطقة، نوستالجيو فرانكو، الذين يحاولون نسف دعائم الديمقراطية، وجر البلاد إلى حرب أهلية.
توجهت بالكلام إلى آميديه وفي عينيه نسر يحترق:
- هناك من بين من جاء بي إلى هنا عميل للعساكر، فحاذر من كل من هم معك، يا آميديه! لا تجعلهم يورطونك، لا هم ولا الجنرالات، وليكن الله عونًا لك! لقد قمت بواجبي، وبذلت جهد طاقتي، ولم أحصل على شيء، وبهذا تكون مهمتي قد انتهت، وعليّ العودة إلى بيلباو.
أحضرت الأميرة إيزابيل من الخيمة التي شبت النار فيها مخطوطًا محترقًا، نقلته بإصبعين قبل أن تلقيه أرضًا.
- في هذا المخطوط، قالت، وجدنا، أنا وآميديه، الحكاية الموريسكية التي كان يبحث عنها سنيور أبو بكر، "الصنم والملك والابنة"، وهي إحدى الأساطير التي قيلت في الاسكندر الأكبر. مع الأسف، أحرق رجال أبي هذا المخطوط الثمين. حافظ على مكانته، وتصرف في حق ابنته كالصنم لا كالملك! عَبِّرْ لسنيور أبي بكر عن عميق حزني، واطلب إليه، بالأحرى، أن يقرأ في قصص الناس الذين هم حوله ما أراد من القصص الغابرة... ستكفي قصصهم ما ينتظر الحكواتي في ثوبه، هو خير من يعلم أن النجوم هي النجوم، ونحن أشباهها.


ينبع الفصل الرابع عشر من القسم الأول