أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الرابع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4712 - 2015 / 2 / 6 - 10:10
المحور: الادب والفن     

في الليلة التالية، عدت إلى المكتبة بعد أن غادرتها تحت سمع الجميع وبصرهم، وكمنت لآميديه في الظلام بين رفوف الكتب، منتظرًا بين لحظة وأخرى مجيئه. امتزجت أنفاسي بأنفاسها، وغدونا جسدًا واحدًا من الكلمات والصور التي تعانق تاريخ الإنسان، وكأن آلاف السنين من الخيال ليست سوى لحظة انتظار طويلة لا تنفد، إلا أنني كنت أنتظر آميديه، كان موعدًا ضربناه دون اتفاق، وبقيت هكذا دون حراك إلى أن وشوشني اليأس قائلاً إنه لن يأتي، فعزمت على اللجوء إلى غرفتي عندما وصلت أسماعي خطوات متسارعة.
انفتح الباب، ثم انغلق. عجل شبح في الذهاب إلى زاوية من زوايا القاعة، فأشعلت الضوء، لأكتشف الأخت كلارا. كتمت صيحة خلف يدها، فحضوري كان مفاجأة لها. طلبت منها تفسيرًا، فتلعثمت كالسر الشائع:
- سقط صليبي في مكان ما هنا، وأنت تعلم جيدًا، بروفسور، مدى أهمية أن أحمله عند إقامة شعائرنا الصباحية، وإلا عاقبتني الأم العليا أشد عقاب.
- لا، ليس هذا هو سبب إزعاجك لنفسك، يا أخت كلارا.
ارتبكت كشيطان الشعر، وراحت تبحث تحت الطاولة حيث كانت تعمل:
- انظر، ها هو، لقد وجدته!
أرتني الصليب بأصابع مرتعشة، ولتمنعني من التفكير في أنها هي التي رمت الصليب عن عمد، عجلت في الاستئذان:
- عمت مساء، يا أستاذ!
وغادرت المكتبة بخطوات متعثرة.
لم أنتظر آميديه أكثر مما انتظرت، وأنا أفكر فيما دفع الراهبة كلارا إلى العودة إلى المكتبة، دون أن أصل إلى جواب. بقي شغلها غامضًا... والحال أن آميديه امتنع عن العودة إلى قاعة المطالعة، كما كان يفعل كل الليالي السابقة، جعلني أتخيل عدة فرضيات: هل يخشى من أن يجد نفسه وجهًا لوجه معي، أم أنه الآن في مكان آخر من هذا البناء الضخم، وهو يراقب اجتماعًا رهبانيًا في الطابق التحت الأرضي؟ اتجهت إليه آليًا، كما لو كانت كل هذه الأسرار والألغاز توجب علي التصرف بهذه الطريقة، وتبرر لوجودي في الإيسكوريال.
كان الليل قائظًا، وكل شيء ساكنًا في الحديقة، الأشجار لا تتحرك، النجوم لا تنير، وصرار الليل يحجم عن الصرير. رأيت الأغصان، وهي تتباعد من الناحية المقابلة للحديقة، وظهر لي آميديه، فجأة، فضي اللون، عملاق الظل. كان يبعد بيديه الأغصان المدلاة حتى الأرض، ويفتح طريقًا باتجاهي. هذا على الأقل ما ظننته في البداية، إذ ما لبث أن راح يغذ الخطى باتجاه مدينة الأموات، تلك المقبرة الملكية المحاذية للإيسكوريال، فخبأت نفسي بين شجيرات الياسمين الأسود، تحت قبة سماوية ليلكية مرصعة بالحروف العربية. كانت الحروف العربية كالأحجار الكريمة، وهي لهذا راحت تتلألأ بجرأة العقود التي تحب صدور النساء، وعبرت عن غربة غريبة عن اللغة: الفسق ما هو إلا صفةٌ للجمال، والدنس ما هو إلا جوهرٌ للكلام.
تبعت آميديه بين القبور، ومررت أمام كوخ حفاريها. كانوا ثلاثة من مشوهي الخلقة، حليقي الجمجمة، يعبون النبيذ، ويقهقهون، ولم يكونوا سكارى تمامًا. خرج أحدهم فاحصًا الظلام في الاتجاه الذي أخذه آميديه، لكنه ما لبث أن عاد إلى كأسه: حقًا يحق التساؤل عن القليل مما هو في هذا السلوك! استغللت فرصة انغماسهم في اللهو، ورحت أجري صوب الباب الواطئ لدهليز تحت أرضي دخل منه آميديه. انتظرت عدة دقائق قبل أن أضع قدمي في الدهليز، وآخذ طريقي إلى الوقوف على سره. كان كل شيء من حولي لا يبعث على الراحة، وأخذت أجراس الكنيسة تقرع، فاختلج قلبي. قررت أخيرًا أن أدفع باب الدهليز، واندفعت دون أن أبالي بشيء.
لم ألبث أن توقفت بخشية وحذر على عتبة باب آخر، يتسلل منه ضوء أصفر. دخلت بثبات وَرِباطة جأش، لأجد نفسي وسط أهرامات من مئات الكتب والمخطوطات، و، هناك، من زاوية يضيئها شمعدان، وصلني صوت آميديه:
- أهذه أنت، يا زارا؟ لماذا تأخرت كثيرًا؟
عندما غادر آميديه زاويته ليتأكد إذا ما كانت القادمة بالفعل زارا، كاد ينصعق على مرآي، وأنا أنبثق على بعد خطوتين منه.
- أعتقد أن عليك أن تقول لي كل شيء الآن، ألقيت باتجاهه.
أجلسني حيث كان يجلس قرب مدفئة قديمة في جدار، وأشار بإصبعه إلى ملف كبير من الوثائق المصفرة الشبه البالية:
- أنا أبحث فيها عن اتفاق تم في عهد قديم قبل الريكونكيستا بكثير.
لم أفهم أي اتفاق يقصد، فأشار إلى أهرامات الكتب والمخطوطات والرفوف الملأى بها، وقال لأتواطأ معه، وربما ليحتوي غضبًا كان يتوقعه:
- هذه المخطوطات وهذه الكتب تهمك حتمًا، يا أستاذ، فنحن في الحجرة المحرمة، وهنا كان يرمي جلاوزة التفتيش بنسخة من كل كتاب يحظرون مطالعته، هذا الفهرس يؤكد ذلك.
سحب من رف على علو رأسه مجلدًا أسود ضخمًا، ووضعه أمامي، قبل أن يفتحه مضيفًا:
- لم أعلم بهذا الفهرس الهام إلا مؤخرًا، وكان ذلك محض صدفة.
ألقيت نظرة خاطفة على الفهرس، وقمت. ذهبت مباشرة باتجاه الباب الداخلي الموصد الفاصل بين المكتبة وهذا المكان الذي دعاه آميديه "بالحجرة المحرمة"، فتابع صوته من ورائي:
- الراهب دومينيك يعرف أن ما تبحث عنه من أدب مدنس ربما كان موجودًا هنا، ومع ذلك أخفاه عنك بسبب وجود كل الوثائق الرسمية للبلد هنا كذلك، والتي بعضها أهميته كبيرة جدًا، فالإيسكوريال، في الواقع، مركز لدراسة أفضل الطرق من الرد على الحركات الإصلاحية، وذلك منذ أيام فيليب الثاني في القرن السادس عشر، إلى يومنا هذا، ولقمع حركات الاستقلال التي ستجتاح ذات يوم كل شعوب إسبانيا، على شاكلة ما يجري في بلاد البشكنش، بلاد الباسك.
- هل أنت باسك، يا آميديه؟
- لا، بروفسور، أنا من أرخذونة، أردني الأصل، واسمي الحقيقي أحمد.
- ماذا؟
- جاء أهل الأردن من بين أول من جاء إلى أرخذونة، واستقروا فيها، مثلما جاء أهل فلسطين إلى شذونة من بين أول من جاء، وعرب حمص إلى اشبيلية، شرح آميديه بلباقة. بعد الريكونكيستا، كنا مضطرين إلى التنصر، خوفًا من التدمير أو التهجير، فأظهرنا غير ما أبطنا، وبقينا نحفظ العروبة والإسلام في صدورنا أبًا عن جد إلى اليوم الذي سنستعيد فيه حريتنا واستقلالنا.
حيرني كلام آميديه حيرة القمر من أمحق وجوهه، فلم أتخيل أن طالبًا لامعًا مثله في الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين قد فعلت السياسة فيه إلى هذا الحد فعلها.
- لقد مهرت وعدًا بدمي، أن أعيد مجد أجدادي، وأن أنتقم لموتاي!
لم أفه بكلمة واحدة، كنت من الذهول أنظر إليه دون أن أحيد النظر عنه، ومنه إلى كل هذا الماضي الذي ظننته قد مات، فإذا به يمور في سواد عيني "أحمد" الكبيرتين.
- لهذا السبب بالذات تجدني هنا، يا أستاذ، ومعذرة إليك، فما تبحث عنه من شعر لا يهمني لا من بعيد ولا من قريب، لم يكن ذلك سوى غطاء، لسببين، أحدهما لا يقل أهمية عن الآخر. الأول: معرفة ما يحاك ضد حركة استقلال الباسك. الثاني: استرداد معاهدة وقعتها مقاطعة الرية التي كانت عاصمتها أرخذونة، زمن محمد الأول، عام 873، أقر لها فيها بالاستقلال لأول مرة، أو أية وثيقة أخرى تتعلق بهذه المعاهدة. سنحاول، عن طريق هذه الوثائق، الحصول على استقلالنا سلميًا، أما لو فشلنا، فرفاقنا الباسك، سيتكفلون بتعليمنا خير طرق المقاومة والقتال حتى النصر. لهذا تجدني أخاطر بحياتي من أجل تقديم هذه الخدمة لهم، ولكن عما قريب سيكون عملنا المشترك حاسمًا.
سمعنا وقع أقدام خلفنا، فنهض آميديه، وهو يقول بالعربية إنها "زهرة"، وبالفعل، كانت زارا التي تفاجأت قليلاً بحضوري.
- لقد اعترفت للأستاذ بكل شيء، قال آميديه، لأنه أولاً أستاذي، ثم لأنه شخص يوثق به.
قالت زارا:
- دون آميديه يضيع وقته، بروفسور، في البحث عن وثائق لا طائل من الوقوع عليها.
أوضح آميديه:
- زهرة مع الكفاح المسلح، وهي لا ترى أية فائدة من الحوار معهم.
- معهم؟
- الإسبان.
علقت زارا:
- سنفعل تمامًا كما فعلوا أيام الدولة الإسلامية، أظهروا إسلامهم، وأبطنوا نصرانيتهم، ودارت الأيام إلى أن سنحت لهم الفرصة في قلب الأوضاع، فقاموا بالثورات، أولئك هم أنفسهم المولدون والمستعربون الذين تبحث عن شعرهم المدنس، يا أستاذ! ولكن، أين شعرنا نحن ضد الريكونكيستا ومحاكم التفتيش وملوك قشتالة؟ تساءلت بِحُمَيًّا. هذا هو الشعر الجدير باهتمامك، بروفسور! شعرنا الثوري، شعرنا الشعبي، شعرنا المقدس، والذي لن تجد منه إلا الفتات لضراوة الردع الذي كابدناه.
قلت:
- من العادي جدًا ألا أجد من هذا الشعر شيئًا أو يكاد لهول الحملة التفتيشية التي كانت ضد كل ما هو "مورسكي": لغة، أدب، عادات، تقاليد، قصور، مساجد، ولم تبق من الآثار غير تلك التي استطاعت الصمود بصعوبة أمام همجية الإنسان ومخالب الزمان! لذلك، أنا لن أبحث عن هذا الأدب هنا، سأجده ربما في مكتبات المغرب القديمة، أما هنا، في هذه الحجرة المحرمة على الخصوص، فسأجد، هذا إن وجدت، نتفًا من الأدب المكتوب ضد نظامنا الإسلامي، فكل الأنظمة الظالمة واحدة، وهي تخشى كل شيء، حتى ردود الفعل التي تمسسها مباشرة، حتى ولو لم تكن هي المقصودة. هذا يعني أن معاناتنا كلنا، نحن المضطهدين، تبقى واحدة.
ابتسم آميديه لاستعمالي صيغة الجمع، فصاح بحماس:
- كنت واثقًا من أنك ستتفهم موقفنا بسرعة، بروفسور!
ابتسمت بدوري:
- لا تتسرع، يا آميديه، لم أقل إنني معكم، حقًا أنا أفهم معاناتكم، ولكني ضد سياسة الانسلاخ التي مورست في الماضي. أنتم كلكم إسبانيون اليوم، وبإمكانكم، إذا ما اتحدتم، أن تعيدوا لهذا البلد كل أمجاده الغابرة، وأن تجعلوا منكم أمة عظيمة.
رفضت زارا رفضًا قاطعًا:
- لهذا البلد وجهان، وسيبقى هكذا إلى الأبد! يكفي أن تنظر إليّ: أنا الراهبة زارا تحت الحجاب، والمناضلة زهرة الكاشفة شعرها لكل العالم!
ونثرت شعرها الأسود الطويل.
خفت عليها فجأة، وأنا أتذكر دخول الأخت كلارا سرًا إلى المكتبة تحت ذريعة ضياع صليبها.
- حذار، يا زهرة، نبهتها، الأخت كلارا تراقبك، تراقب كليكما، لقد ضبتُها متلبسة هذه الليلة في المكتبة.
التفت آميديه إلى زارا والشرر يتطاير من عينيه:
- ألم أقل لك؟ هذه الفتاة جاسوسة!
- كلهم جواسيس هنا، ألقت زارا، من الأب الأعلى ريفيرا إلى الأخ الأدنى دومينيك! يرتدون مسبح الرهبان، بينا هم في الحقيقة ليسوا إلا عملاء لمركز المخابرات.
قلت لزارا:
- يجب ألا يشكّوا فيك، وإلا، إذا كانوا حقًا مخابرات، كما تقولين، فسيلحقون بك أذى كبيرًا.
طمأنني آميديه:
- لغاية الآن هم لا يشكون في شيء. منذ عدة أيام، ونحن نعمل في الحجرة المحرمة على أساس أننا في المكتبة، والأمور تجري بشكل عادي.
- ورد فعل الأخت كلارا، كيف تفسره؟
تدخلت زارا:
- اتركوني أهتم بأمرها.
قال آميديه:
- بل أنا من سيهتم بأمرها، وسأحسن الاهتمام.
وهو يبتسم ابتسامة جعلتني أتذكر قوافل الهالكين على أعتاب الجحيم لأجل جمالها النادر في الوسط الرهباني، ولأجل أنوثتها المتفجرة تحت سواد الأردية الثقيلة، فلم أمتنع عن قول:
- أما إذا ما أحسسنا بأدنى خطر، أوقفنا كل شيء، وعدنا إلى مدريد.
ومرة أخرى، ابتسم آميديه لصيغة الجمع التي استعملتها:
- لا تخف، يا أستاذ، كل شيء من حولنا هادئ، ونحن من الحذر الشيء الكثير.
- كل شيء لغاية الآن، وهذا ما يحيرني.
- الأهم بالنسبة إليهم ألا نخترق مركز دراساتهم الواقع في الطابق التحت الأرضي للقصر، وهم، حتى ولو اكتشفوا وجودنا هنا، فسيغضون النظر عنه مؤقتًا، لأنهم يعرفون تمامًا فحوى كل هذه الأعمال "المحرمة" التي لا تشكل أي خطر مباشر لهم. إنهم واثقون جدًا بأنفسهم، ومع ذلك، يجهلون أن لكل قلعة فجوة كما لكل جواد كبوة! كل واحد يمكنه الخطأ، بروفسور، وهؤلاء ليسوا ممن لا يُقهرون!


يتبع الفصل الخامس من القسم الأول