أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثاني


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4708 - 2015 / 2 / 2 - 17:22
المحور: الادب والفن     

لم يكن بحثي أمرًا سهلاً على الرغم من يد العون التي يقدمها آميديه لي والراهب دومينيك، فالأيام تتلاحق، والمخطوطات لم تزل كثيرة، حدائق معلقة من المخطوطات، والخطوط، خطوط لا تعد ولا تحصى، أكبر من المسافة بين الأرض والقمر، إلى أن فاجأني آميديه ذات يوم بإحضار راهبة سمينة قصيرة اسمها زارا، قال إنها إحدى قريباته، التقاها صدفة في الدير، وهي مستعدة لمعاونتي في البحث عن الشعر المدنس خلال أوقات راحتها. لم يرض ذلك الراهب دومينيك، لا أدري لماذا، اغتاظ، وتساءل كيف سيكون عمل الأخت زارا، وهي تجهل اللغة العربية، فقالت إنها تعرف منها ما يكفي لفك كلمات العناوين وقراءتها، فازداد غيظًا، وتذرع باستئذان الأم العليا، وبمشاورة الأم العليا للأب الأعلى، الكاردينال ريفيرا، بوصفه مدير الدير، وصرفها.
لم أول الأمر أدنى اهتمام، وهذا ما بدا لي بالنسبة لآميديه. وبالمقابل، بدا الراهب دومينيك قلقًا، لاحظت أصابعه كيف كانت ترتعش، وهي تقلب صفحات هذا المخطوط أو ذاك، ولم يستطع إخفاء حالته العصبية. انسحب عند هبوط الليل، وكذلك فعل آميديه، متذرعًا بصداع يحول دون بقائه.
داومت، وحدي، على الغوص في بحور الصفحات العريضة المديدة حتى منتصف الليل، وكان آخر ما تصفحت مخطوطًا مغربيًا يحتوي على قصائد لابن سهل في الغزل، جرى تقديمها كالتالي: "ها هو شعر إبراهيم بن سهل، الإسرائيلي، شاعر اشبيلية، أظهر الإسلام، ولم يكن يخلو من قدح واتهام، وكان يجيب، إذا سئل عن إسلامه: للناس ما ظهر ولله ما استتر."
أخذت أقرأ أهم قصائده، وأنا أتمنى أن أجد هذا الذي استتر بين الأبيات التي مطلعها:

سل في الظلام أخاكَ البدرَ عن سهري
تدري النجوم كما يدري الورى خبري

فلم أجد شيئًا.
كانت علاقتي بالنجوم واهية، كما أن البعد الغزلي في القصيدة كان ساذجًا لم يشدني إليه، وكان الشعور بالتعب قد أخذ مني مأخذًا، فنهضت، وأنا أتثاءب. أطفأت ضوء المكتبة، وأغلقت بابها الضخم. بخطى واسعة، عبرت رواقًا بأقواس مرفوعة على أعمدة إلى غرفتي. وأنا أمر أمام غرفة آميديه، وصلتني أطرافٌ من حديثٍ خفيضِ الصوت بينه وبين امرأة يأتي من الباب المنفرج، والذي يخرج منه شعاع ضوء أصفر.
- الوثائق التي تبحث عنها، يا دون آميديه، غير موجودة، صدقني، وقد طُوي الماضي طي السجل، قالت زارا التي عرفت صوتها.
- الماضي لن يُطوى أبدًا، أجاب آميديه، وأقوى دليل على ذلك رد فعل الأخ دومينيك هذا الصباح. ألهذا السبب رفض أن تقومي بمعونة الأستاذ؟ لأنه يعرف ما يخفى من أسرار...
وأغلق آميديه الباب، فلم أستطع متابعة كلامه مع الراهبة زارا.
دخلت غرفتي، وأنا مشغول البال، متفاجئ بما سمعت، فلم أكن لأرتاب يومًا في آميديه، وفي غاية وجوده معي كمعاون. كنت في مدريد قد حدثته حول مشروع البحث عن الشعر المدنس، فأقرني، وشجعني، وأبدى كل استعداد لمساعدتي، لكنه كان يخفي هدفه الأساسي، ألا وهو الوقوع على بعض الوثائق السرية المندثرة في مكتبة الإيسكوريال، ولا بد أن هذه الوثائق من الخطورة الشيء الكثير، وإلا لم الادعاء بإعانتي في البحث عن مادة أدبية، وهذا هو الظاهر فحسب، بينما في الباطن هدفه كان الوصول إلى تلك الوثائق التي ربما كان الراهب دومينيك يبحث عنها هو أيضًا، وإلا لم حال دون مشاركة الأخت زارا في حمل بعض العبء عني؟ من المحتمل أنه كان يرمي إلى إبعادها عن طريقه، فلا تزعجه. والحالة هذه، لماذا لم يفعل الراهب دومينيك ما يفعل قبل وصولنا؟ ألأن آميديه على معرفة بأسرار هذه المخطوطات هو وحده دون غيره؟ ومتى يجد آميديه الوقت لفحصها، وأنا أسحقه طوال الوقت تحت وِزْرِ القصائد أو الفصول التي أختارها في فهارس المخطوطات؟
وبينا أنا أتعارك مع تساؤلاتي، سمعت باب آميديه ينفتح، وخطوات تبتعد في الرواق هي حتمًا خطوات زارا، ولم يلبث آميديه أن خرج، وسار في الاتجاه المضاد، وأنا أتبعه عن كثب. غادر الدير، وقطع الحديقة، باتجاه القصر، والقصر يبدو منعزلاً عن العالم، دون عابر أو حارس. غاب من ناحية القصر الأخرى لبعض الوقت، ثم عاد إلى الدير بسرعة، ومنه استعار طريق المكتبة. فتح بابها بحذر شديد، وأغلقه بهدوء كبير.
تركت آميديه يغرق في العالم السري للحرم الثقافي القديم، وعدت إلى القصر. كانت الأضواء الصفراء تنفذ من النوافذ الواطئة للطابق التحت الأرضي، فاقتربت من إحداها، ونظرت منها. رأيت مجموعة من الرهبان، وهم يتناقشون من حول مائدة مستديرة، ميزت بينهم الراهب دومينيك الذي بقي جالسًا إلى جانب الأب الأعلى، في اللحظة التي انصرف فيها كل من كان معه. حاولت فتح النافذة، فذهبت كل محاولاتي سدى، ولم أستطع سماع ما يجري بينهما من كلام. كان الغضب يعلو جبين الأب الأعلى، فقذف الراهب دومينيك بنفسه على قدميه، وقبلهما، ثم نهض بارتباك كبير، وغادر القاعة القهقرى.
عدت إلى غرفتي، وأنا شديد الحيرة. كان هدفي من المجيء إلى الإيسكوريال واضحًا وضوح الشمس في وضح النهار، ولو كان سعيي سعي الضائع في الصحراء نحو سراب، فإذا بي أجدني مجروفًا في خضم من الخبايا والأسرار التي لا يعرف كنهها أحد.
فجأة، سمعت طرقات خفيفة على باب آميديه، ثم على بابي، فقمت أفتحه بسرعة، وأنا أنقل كتاب الكوندي لوكانور El Conde Lucanor لأبدي رباطة جأش زائفة. كان الراهب دومينيك. اعتذر، في بداءة الأمر، عن إزعاجي في ساعة جِدّ متأخرة، ثم أوضح أنه كان يود أن يقول لطالبي ما سيقوله لي، لكنه على ما يبدو ينام نومًا عميقًا. أكدت ذلك، وأنا أعلم علم اليقين أن آميديه ليس في غرفته بل في المكتبة، حتى أنني بررت ذلك بالإرهاق الذي أنا من ورائه. عندئذ، قال الراهب دومينيك:
- الحقيقة أنني كلمت الأب الأعلى، الكاردينال ريفيرا، بخصوص معاونة الأخت زارا، يا أستاذ، ونيافته لا يرى أي مانع في ذلك، بل على العكس، طلب مني أن أسهل الأمر عليك أكثر ما أستطيع عليه، وأن أطلب من أخت ثانية درست العربية في جامعة مدريد حيث تُعَلِّم، اسمها كلارا، أن تنضم إلى الفريق تحت إدارتك، فَهَمُّ الأب الأعلى الوحيد توفير كل أسباب النجاح لك في بحثك، وهو يتمنى لك حظًا طيبًا، وأن يسدد الله خطاك.
أدهشني سماع كل هذا الحماس من طرف الأب الأعلى حول أدب يناقض كل التعاليم الكنسية، لكني شكرته، وأنا غير قادر على أن أخلع من رأسي أن هناك شيئًا غريبًا يجري من حولي، فهل أصبحت لقمة سائغة لبعض المتزاحمين على شيء أجهله؟ عندما لاحظ الراهب دومينيك كتاب لوكانور بيدي، أكد بتواضع أنه مستوحى من ألف ليلة وليلة. تمنى لي ليلة سعيدة، وذهب، بَيْدَ أني بقيت ساهرًا أنتظر عودة آميديه قبل أن أغرق في النوم.


يتبع الفصل الثالث من القسم الأول