مظفر النواب والنمط الأولي


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4695 - 2015 / 1 / 20 - 18:24
المحور: الادب والفن     


يميز العالم النفسي السويسري كارل يونغ بين لاشعور فردي ولاشعور جمعي، اللاشعور الفردي شيء مكتسب، عماده التجارب الشخصية والعقد العاطفية، واللاشعور الجمعي شيء فطري، عماده محتويات السلوك وطرقه الواحدة لدى كل الأفراد، وهو الأساس النفسي العام للناس جميعًا، هذه المحتويات وتلك الطرق للاشعور الجمعي أطلق عليها يونغ مصطلح الأنماط الأولية، فهي توجد فينا منذ كان الوجود، وهي توجد فينا كصور افتراضية، فشكل وطبيعة العالم الذي وُلِدَ الفرد فيه وكبر –كما يقول يونغ- هما فطريان في نفسه على شكل صور افتراضية: الوالدان المرأة الأولاد الولادة الموت الوفاء الخيانة الانتصار الهزيمة... كل هذا شيء فطري فيه تحت شكل جاهزية نفسية موجودة قبل أن يوجد، تحت شكل صور افتراضية، هذه الصور الافتراضية هي الأساس البنيوي لكل التجارب منذ الأزل لا التجارب نفسها. وطالما بقيت هذه الصور –كما يضيف يونغ- غير مؤثثة بمحتويات محددة مما نعيشه من اللازم اعتبارها إطارات فارغة، وهي لهذا السبب تظل لامرئية ولاشعورية، لا تكتسب فحوى، وبالتالي لا تؤثر على الفرد إلا عندما تتوافق مع ما يعيشه.

بناء على ما سبق، لا توجد الأنماط الأولية كأنماط أولية ولكن كصور نمطية لما يعيشه الفرد، فالصورة النمطية -كما يقول يونغ- ليست فقط صورة لذاتها ولكن أيضًا دينامية لها سلطة الإدهاش، سلطة أخذك وهزك: فلسطين كصورة نمطية للعروبة كنمط أولي، في قصيدة "القدس عروس عروبتكم" لمظفر النواب، تظل صورة لذاتها:

من باع فلسطين وأثرى بالله
سوى قائمة الشحاذين على عتبات الحكام
ومائدة الدول الكبرى؟

إذ مجرد أن نقرأ "من باع فلسطين" تفلت من يد الشاعر سلطة الإدهاش، ويقع تحت سلطة السياسة، وحالاً بعد ذلك تحت سلطة الدين "وأثرى بالله". إشارات صورة نمطية يريدها الشاعر إشارات لدينامية الهجو بدون أي تضمين ديني أو قومي، فالشاعر ضدهما كنمطين أوليين، ولكنه تبعًا لسلطة السياسة لا لسلطة الإدهاش يبقى في إطار صورة نمطية مستهلكة لفلسطين: الشحاذون على عتبات الحكام ومائدة الدول الكبرى.

فإذا أجن الليل
تطق الأكواب بأن القدس عروس عروبتنا
أهلاً أهلاً أهلا
من باع فلسطين سوى الثوار الكتبة؟

نبقى مع فلسطين كصورة نمطية للعروبة كصورة نمطية للعروبة كنمط أولي، فالعروبة في البيت "تطق الأكواب بأن القدس عروس عروبتنا" هي عروبة من "باع فلسطين من الثوار الكتبة"، أدعياء الثورة وأدعياء العروبة من الثوار الفلسطينيين، فلهم عروبتهم الخاصة بهم كصورة نمطية للخيانة كنمط أولي، إلا أن الخيانة كنمط أولي لا تبدو كروح كما يجب على النمط الأولي أن يبدو، روح شريرة هنا، كسلوك يمليه الوعي الإنساني، وإنما كاستعارة لفعل معلوم (تطق الأكواب) من الأفعال المعلومة، فلا الفطرة هو ولا الروح هو.

أقسمت بأعناق أباريق الخمر وما في الكأس من السم
وهذا الثوريُّ المتخمُ بالصدفِ البحريِّ في بيروت
تكرش حتى عاد بلا رقبة
أقسمت بتاريخ الجوع ويوم السغبة
لن يبقى عربي واحد إن بقيت حالتنا هذي الحالة
بين حكومات الكسبة

والحال هذه، يبرز النمط الأولي للأنا (نقرأ "أقسمت" مرتين)، وذلك في السياق اللغوي ذاته: هناك الأكواب وهنا أباريق الخمر وكأس السم، تحت توظيف معارض، هذه الأنا التي من المفترض أن تدير صيرورة "الفرددة" (من فرد والفرددة عملية تكوين الفرد): ثوري-متخم-متكرش- بلا رقبة... جوع-سغبة-بقاء حالتنا-كسبة... كل صورة صورة لنمط أولي ولكل صورة معنى وبالتالي أنماط أولية عديدة تتتالى في وحدة للنمطين الأولين ثوري وعربي اللذين هما صورتان للوحدة، على الرغم من اختلافهما، ولاختلافهما ينتميان إلى النمط الأولي للأنا، بصفتها الموحدة للأضداد.

القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟
ووقفتم تستمعون وراء الباب إلى صرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم
وتنافختم شرفا
وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض
فما أشرفكم
أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟

هنا يمحي الشاعر تمامًا تحت رداء النمط الأولي للأنا (لماذا أدخلتم ووقفتم وسحبتم وتنافختم وصرختم...)، ويتحول النمط الأولي للأنا من صورة إلى تساؤل كصفة تماحكية (لماذا أدخلتم كل زناة الليل ووقفتم تستمعون وراء الباب وسحبتم إلى آخره وتنافختم إلى آخره وصرختم فيها إلى آخره...) لا كصفة روحية للنمط الأولي للشاعر، وبدلاً من توجيه القارئ في نفسه على طريق "الفرددة" نحو إنقاذ القدس مما هي فيه، يشتته، عن طريق الاستعارة لفعل معلوم دومًا (زناة الليل صرخات البكارة سحب الخناجر صرخات العرض...) ولا يصل به إلى مواجهة أية صعوبة، وعوضًا عن ذلك يلجأ إلى تسكيته بعد تشتيته بتعبير "شاف": أولاد القحبة، وكأنه انتقم للقدس بالعبارة وحررها.

أولاد القحبة
لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم
لا تهتز لكم قصبة الآن أعريكم

يكرر النمط الأولي لأنا الشاعر عبارة "أولاد القحبة" بعد أن يتحول من تساؤل إلى تأكيد كصفة تلذذية (لست خجولاً إن حظيرة خنزير أطهر دكة غسل الموتى لا تهتز لكم قصبة أعريكم...) لا كوصف للنمط الأولي للأنا، لا الشاعر كشخصية ولا الشاعر كنمط، فالنمط الأولي للغير (أولاد القحبة) هو ما نرى، هو ما يراه الشاعر فيه (لست خجولاً)، ونفسيًا لم يعد هناك اختلاف حين الحديث عن نمط أولي للغير أو نمط أولي للأنا، ولنزيل كل سوء فهم، نحن هنا لا نتكلم عن مظفر النواب، نحن هنا نتكلم عن أنا مظفر النواب، الأنا الشاعرة.

الآن أعريكم
في كل عواصم هذا الوطن العربي قتلتم فرحي
في كل زقاق أجد الأزلام أمامي
أصبحت أحاذر حتى الهاتف
حتى الحيطان وحتى الأطفال
أقيء لهذا الأسلوب الفج
وفي بلد عربي كان مجرد مكتوب من أمي
يتأخر في أروقة الدولة شهرين قمريين

النمط الأولي للغير في الأبيات السابقة ليس الثوار الفلسطينيين، إنه كل العرب تحت صورة "كل عواصم هذا الوطن العربي"، وبدافع التعرية الدافع الزمني للتعرية (أعريكم الآن) لدينا معنى سيميائي للعروبة ودلالة رمزية: فالعروبة كهوية قومية هي سيميائية، والعروبة كتصور نفسي هي رمزية، لكن المعلومات التي لدينا (في كل زقاق أجد الأزلام أمامي أصبحت أحاذر حتى الهاتف حتى الحيطان وحنى الأطفال أقيء لهذا الأسلوب الفج مجرد مكتوب من أمي يتأخر في أروقة الدولة شهرين قمريين) كل هذه المعلومات ممكنة، وهي تتعلق بكل هوية قومية، وليس فقط بالعروبة، بكل تصور نفسي، فتزول العروبة كرمز، وتزول كسيمياء، ويخضع الخطاب للنمط الأولي للشاعر، نمط يؤثثه بانطباعاته الشخصية: قتلتم فرحي أحاذر أقيء.

تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كي تحكم فينا
أعترف الآن أمام الصحراء بأني مبتذل وبذيء كهزيمتكم. يا شرفاء المهزومين
ويا حكام المهزومين
ويا جمهورًا مهزوما
ما أوسخنا... ما أوسخنا... ما أوسخنا ونكابر
ما أوسخنا
لا أستثني أحدا. هل تعترفون
أنا قلت بذيء
رغم بنفسجة الحزن
وإيماض صلاة الماء على سكري
وجنوني للضحك بأخلاق الشارع والثكنات
ولحس الفخذ الملصق في باب الملهى

يتواصل تأثيث النمط الأولي للشاعر بدافع المقاضاة الدافع المكاني للمقاضاة (الصحراء العربية كقاضٍ) أمام صحراء العرب فالعرب صحراء والصحراء عرب والأنسنة نفسية (التحاكم الاعتراف التكابر)، وهذه كلها رموز ميتة للابتذال والبذاءة والهزيمة والوسخ، مقابل الرموز الحية للحزن والإيماض والجنون واللحس، وحسب يونغ، الرمز الحي أفضل مثال لما يتعذر وصفه، وهو مليء بالدلالة، ولكن عندما يتم التعبير عنه كتصور في خبر كان لما يتعذر وصفه (بعد كل الرموز الميتة للابتذال والبذاءة والهزيمة والوسخ نقرأ رغم بنفسجة الحزن إلى آخره، والمفردة "رغم" غير محدِّدة للرمز الحي ماضيًا أم حاضرًا) يصبح الرمز الحي ميتًا ذا إشارة تقليدية لمعلومات متعارف عليها وقيمة تاريخية فقط: محاكمة الحكام المهزومين والجمهور المهزوم... إلى آخره... إلى آخره... إلى آخره...


باريس الثلاثاء 2015,01,20