العجوز الحلقة السابعة والعِشرون والأخيرة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4624 - 2014 / 11 / 4 - 19:37
المحور: الادب والفن     


لم تقل له الحقيقة، لتجتنب دمًا آخر غير دمها، ولأنه لم يزل يبحث عن سعادته. آه! يا للتعاسة! يا للتعاسة! سينجو أخواه اللذان هما في الوقت نفسه ابناه من لعنتهما برماد هذه التميمة، أحدهما سيكون له مخلصًا والثاني لا، إلا أنه لن يختار لا الواحد ولا الآخر، سيختار ابني أختيه، الأول سيأتي بالأقحوان، والثاني بالأقاقيا، ولن يكون تعيسًا أبدًا. هذا أفضل له! ستكون الفترة المشئومة التي تكهن بها شيوخ الجبل العقلاء قصيرة، وستنأى التعاسة إلى الأبد. سيجد السعادة أخيرًا، حفيدها، صغيرها. لهذا السبب، عليه ألا يعرف الحقيقة أبدًا، وقطعت العجوز على نفسها عهدًا: لن أكون أبدًا السبب في تعاسته، عليّ أن أحمل كل شيء، بما أنني سأموت عما قليل.
سقط المطر مدرارًا، أمطرت كما لم تمطر من قبل، وكأن السماوات السبع تصب كل مطرها. بحار من المطر سقطت لتسقي مليارات حبوب القمح المنتظرة منذ سنوات طويلة، لتملأ نهر الشهوة بكل شهوات البشرية، ولتواصل الحياة سيرها، إلى الأبد. ابتسمت العجوز لحفيدها، للمطر، ابتسمت للأرض الطافية بالمتع. كان يشبه زوجها، كان يشبه سيفًا. أمسكت يده. كانت ترغب في الغناء. رغبة مفاجأة أشبعها المطر المشتهى. عيونك أحلى من نبعات المَيّ... ابتسم لها حفيدها. بقيا هكذا ينظران إلى المطر كل النهار، ثم سقط الليل. تراقص اللهب على وجهيهما، فأشعلت القنديل. بدا أن المطر قد توقف عن السقوط. سمعاه يدق دقًا خفيفًا على السقف.
- سأقول لك شيئًا، قالت العجوز، ولكن إياك أن تعيده على سماع أحد.
اقتربت منه، حضنت كفه في كفيها، ووضعتها على قلبها.
- قلبك يدق بحدة، قال دون أن تبدو عليه الدهشة.
- مذ عدت... وكأني أستقبل عاشقًا.
ثم تراجعت، وهي بانفعال تردد:
- يا حفيدي! آه! يا حفيدي! يا صغيري!
وذرفت دموعها بغزارة، وقهقهت بهوس:
- ماذا جرى لك؟
- دم صباي يغلي في عروقي.
- ألهذا تبكين؟ ألهذا تضحكين؟
- لماذا لا أبكي، لماذا لا أضحك، وأنا ذاهبة إلى الموت بعد قليل؟
سكت قليلاً، ثم قال، كما لو كان يفحص نقطة ما بعد فعله القادم:
- أنا أيضًا لدي انطباع بأنني ذاهب إلى الموت... ولكن دون ضحك أو دمع.
- لا تقل هذا، صاحت، ابصقه من فمك!
- هذا لا يعني أن موتي قريب، أوضح. الحق أني انتظر لحظة كهذه منذ زمن طويل.
- أن تشعر بموتك؟
- بعد كل هذا المطر، أشعر بالخطر من حولي. أضرم الموت حتى أكبر المخاطر، أيقظ كل خطر يحيق بي.
- هذا الخطر الذي يبحث عنك أيضًا.
- نعم، أيضًا. أيضًا وأيضًا، قال بدون أي قلق، وعلى العكس، بهيئة سعيدة.
- وتجرؤ على أن تكون سعيدًا؟
- سبق وقلتُ لك، يا ستي، كلما أحدق الخطر بي أراني كما أراني، ويكون لدي انطباع بكوني حرًا.
أخذت تردد بخفيف الغضب: "حرية! حرية!...". إذا ما كان هذا ثمن الخطر، قالت لنفسها، فمرحى بكل أخطار العالم. صاحت وفي عينيها الروع من ظمأ أحرق الروابي وشقق شفتيها... كرزها، كالتعسة زينب، انتحر! لكن الحقول المحترقة سترتوي، قالت لنفسها، ظمأها أقل بعد كل هذا المطر، بعد كل هذا الأمل! لم يكن باستطاعتها الانفصال عن ماضيها الرهيب، هذا الماضي اليابس كالحطب، والذي حتى أمس، كان حاضرها. الحقول الجرداء جففت دمها، ومات لحمها... بالطبع، بالطبع. من الآن فصاعدًا، ستعود إلى الحقول ليونة جسدي لما كنت في السادسة عشرة، قالت لنفسها، ليونة جميلة، رقتها، أناقتها، نعومتها، وستلبس حللها الخضراء، وستضع على رأسها تاجًا! أصبحت نسيًا منسيًا الأشجار اليابسة التي قصفتها، وجذورها التي نبتت في مرارتها، كلها أصبحت نسيًا منسيًا... في قلبي، قالت لنفسها، سيعود الياسمين الذابل إلى الإزهار، كما كانت عليه ياسمين، شباب روحي الخالد، سيتفجر النبع، وعند غياب المطر، سيسقي الأشجار، وستورق الأغصان في كل فصول السنة!... سيستحمون في موجةِ شررِ الياسمين الأزرق! سيعود كل شيء إلى ما كان عليه من قبل، وسنتقدم كلنا! لن يكون الحاكم المرعب هنا، حتى ولو كانت له قوة شيطان باطش كسيف مدمى، حتى ولو كان سرمديًا كسجن!
- ستكون لكل واحد بندقية لهدم السجون، قال الحفيد.
- لكنك ستبني غيرها إذا ما تبدلت، قالت العجوز، فلا تتبدل، ولا تبن غيرها!
- لن أتبدل، وأنا، منذ قرنين، قلبٌ مضروبٌ بسهم، الأزرق رمزي، والمستقبل تحت حراستي. كان الماضي السعيد مستقبلنا، وسيكون في الخرائب. في الوقت الحاضر، مستقبلنا الحاضر.
- وماذا تنتظر؟ لماذا تطيل؟ لماذا تماطل؟ ماذا تنتظر، يا طفلي؟
- أن أنتهي أولاً مع شيء واحد، عندما أنجزه، تجري الأمور مجراها.
نهضت، وذهبت إلى الخزانة. فتحت جرارًا، وأخرجت فستان عرسها المصنوع في مصر، المرصع بآلاف الحجارة الكريمة. مدته إليه، وثغرها يفترّ:
- احتفظت به لعروسك.
تناول الفستان بيديه، وتأمل رسومه المطرزة الخاطفة للبصر. رفعه أمام عينيه ليبسطه، وتلك المداحات اللاتي يمدحن: ستكونين الأسعد! ستأتين بالأولاد! لن يماثلك أحد، يا جميلة... وتلك الضربات على الطبول. تقدم من جدته، ومد إليها ثوب الزفاف لترتديه.
- وهذا العِقْد، خذه... هو أيضًا لها.
العِقْدُ الذي أهدتها إياه أمها باسم كل نساء البلد: غيداء، ميساء، إيناس، أنيسة، لمياء، باسمة، سامية، دينة، أميرة، ريم الغزال، نور... رأتهن، ابتسمت لهن. ابتسمت لأمها، لزهرة التي تضعه لها حول عنقها. عِقْد من كل الألوان، من كل الحجارة الكريمة. أخذه من يديها، وأكثر ما شده اليَشْبُ الأحمرُ فيه.
- إني أقدمه لكِ، قال لها.
غير أن صوته ارتعش، فكل هذا، كل ما قدمت له وكل ما احتفظت لعروسه القادمة خلال كل تلك السنوات، ها هو ذا في الوقت الحاضر، هو من يقدمه لها. وقف أمام النافذة، فخلعت العجوز ثيابها السوداء لترتدي ثياب الزفاف. وفي الأخير، سمعها تقول:
- ها أنا ذا، وعلى شفتيها يطفو وهم ابتسامة.
تأمل خيال موعودته: الوجه وجه جدته، لكن الخيال خيال عروسه. داعبت بأطراف أصابعها، حجارةَ العِقْد التي ترشق أشعة العيد، مع انعكاسات لهب الموقد. اشتعلت النار فيها، وراحت تنشر الأشعة في الحجرة، في البيت، وأكثر، وأبعد.
- أنت جميلة، يا جدتي!
- هل تسخر من جدتك؟ قل الحقيقة، يا ولدي، هل تسخر مني؟
- أنت جميلة! جميلة جدًا!
اقترب منها ببطء، وهو قربها، لم تبتسم. أضاعت كل شيء: جمالها وشبابها، طاقتها. لكن هذا الثوب الذي بقدر عمر أمه بقي شابًا وفاتنًا، وكأنه آتٍ لتوه من سوق الأعراس. سيقول البعض، الحياة ليست ثوبًا، إلا أنها ستفضل أن تكون ثوبًا على أن تغدو عجوزًا كما هي عليه اليوم، ذابلة، مُخَرَّبَة. كم كانت تعسة!
- كم أنت شقية، يا ستي! همس الحفيد.
فجذبته من يده، وهي ترجو:
- لا أريد أن ترثيني! هل تسمع، يا باسل، يا ولدي، لا أريد أن ترثي جدتك!
- أنا لا أرثيك، يا ستي، وإنما أستفظع الماضي!
- الماضي؟ يا له من ماضٍ! ثم، ماذا يا ترى تنتظر؟ لماذا لا تنتقم الآن؟
وهي لا تتوقف عن جذبه.
- لماذا لا تنتقم أحلى الانتقام على التو؟
وهو لا يمنعها من جذبه.
- فيما بعد، همهم.
فتحت جرارًا آخر، وأخرجت خنجرًا مدته إليه:
- افعل! قالت وهي ترتعش, فلتفعل، يا ولدي! لماذا لا تفعل في الحال؟
بقي قليلاً يتأمل النصل الحاد للخنجر، وعلى شفرته تنجرح الظلال: ...ظلالها، والكلمات، كلماتها. احتك الماضي بالنصل، ليس الماضي الذي يعرفه، ولا الماضي الآخر، الماضي الذي عاشته، ولكن ماضي ظلها، ماضٍ عمره أكثر من ثلاثة آلاف عام، وثلاث قطرات دم أحمر تساقطت في ذاكرته. قلبه الملتهب التهب من الغبطة، وترك الخنجر يدفأ في قبضته. لم يزل لديه قليل من الوقت، قليل القليل، ثم... كانت هناك بعض الأشياء التي من واجبه القيام بها قبل ذلك، هذا مثلا... حمل بأطراف أصابعه ثياب الجدة السوداء، ورماها في النار. وما هي سوى بضع لحظات حتى شخرت النار، وفي ثكنات الجيش النار نفسها، وقد دقت، بالسخط نفسه، بالشره نفسه. وهذه الصرخات المُرَوَّعَة:
- النار! النار!
- الجحيم!
- ماء!
- ارشقوا النار بالماء!
لَوَّحَ الجنود بالدلاء، ودلاء أخرى، ودلاء أخرى.
بلا جدوى.
دمرت النار المعسكر.
تتتالى الأيام ولا تتشابه! بهذه المناسبة، النادرة في تاريخ النار، صعدت الملائكة لتتمتع برؤية المحترقين، وكل نفس تغدو لهبًا يحكي مع لهب، عما فعله في سابق حياته. في الجحيم، كانت الحياة لهبًا يجامع لهبًا، والعذاب لا يدوم أكثر من وزن أفعالنا، ثقيلة أو خفيفة. مع كل الفظائع التي ارتكبها الجنود، لم يتوقفوا عن عذابهم، وَضَيَّعَ صراخُهُم عقلَ سُرْيَةٍ من الطيور بلا عقل، فجاءت تسأل المعذبين عما ارتكبوا من معاصٍ. كانت القائمة طويلة. وبدورها، تحولت إلى شرر، وهلكت.
قال الحفيد لجدته وهو يتأمل النار:
- النار تأكل كل شيء! أحب النار على الرغم من شراستها، وأنا إذا ما نظرت إليها، رأيت فيها أماني من كل نوع، يعجز التعس الشقي عن تحقيقها. النار هي الحرب والأمل!
- أمل غواص الجمل سيتحقق في الأخير، كان يريد هزيمة النار بالنار، كي يدمر الخُيَلاءَ في الإنسان، وكل ما ليس إنسانيًا، كي يجد نفسه على درب الأُخُوّة. أحس في أعماقي بموجة من الحرارة، و...
- لكن النار، هنا، لنا، قبل كل شيء، الحرية.
صَمَتَ. هذه الحرية، حريته، كانت غالية جدًا! ثمن النار، الجمر! حرية محرقة... مضت لحظة: سألته عما يريد أن يفعل أيضًا.
- أن أفتح النافذة.
تقدم من النافذة، ودفع درفتيها. اخترقت الحجرة هبة هواء، فانتعشت النار، وطار شعر العجوز. كالحمام الأبيض.
- هناك قنينة عطر في الصندوق، قالت.
فتح الصندوق، وأخرج القنينة. رش السرير، فتأرجحت الحجرة بين ذراعي ربيع جريء. يا إلهي! كأن الربيع قد عاد! وبينا كان يواصل نشر العطر، خرج من الصندوق أخواه اللذان هما في الوقت ذاته ابناه، وعنهما تند رائحة الراتِنْج. المعنى الخفيّ، وهي التي عزمت على إخفاء كل شيء عنه؟
- سيكون ربيعك رمادًا، يا أخانا وأبانا! قالا بصوت واحد، ولن تطلق زهرتك الشذا!
رفعت العجوز أصابعها الخشبية، وسارعت بغلق فمهما، وقد جننها اعتراف تحاشت الإدلاء به حتى تلك الساعة. أمرتهما بالعودة إلى الصندوق، هناك حيث جنتهما ونارهما، إلا أن الولدين الملعونين رفضا، وأتيا يشدان والدهما من ذراعه.
- أنت أخونا وأبونا في آن، تابعا، نحن الثلاثة، أنت ونحن، من أمنا، ونحن الاثنان، منك. منك ومن ذئب. نحن ثمرة جماع مزدوج، وقع على هضبة، قرب النهر الكبير، نحن العهد الخؤون!
تزلزلت الأرض، بينا زعقت العجائز الاثنتا عشرة:
- قل لنا إن ما فعلته لاصق بك إلى الأبد! اعتقدتَ أن إلهًا يقود خطواتك، ومن هذا الاعتقاد استمددت الثقة بالمجيء إلينا، ثم خَلَّيْتَ كل شيء، وما اعتمدت إلا على نفسك. الآنَ، أنت لا تعرف من أنت، لا تراك في الأفعال التي فعلت. غير أنك تتمنى لو تقدر على إنكار أحدها، فعل تريد الهرب منه، وفي نفسك شيء يعذبك، شيء يشبه البطولة، ويتجاوز كل سلطة بشرية. آه! كم تتمنى لو تخترع ألمًا آخر، حركة مجنونة تبهرنا كلنا.
- هاتان العينان اللتان لم تحسنا إنذاري، قال الحفيد لجدته، أعطني الآن الخنجر كي أفقأهما، فلا أرى كيف الآخرون يرونني.
- بالأحرى كي تفقأ عيني هذين الرجيمين إلى يوم الدين! ردت العجوز.
- هذان الرجيمان هما لحمي، هما دمي، إنها هذه العائلة اللعينة التي أريد أن أضحي بها قربانًا على حجارة العُقوق والخداع. ويقال عنها مقدسة، الأسرة، ويقال عنها سماوية، الأرض! أنا لا أجد أسوأ منهما.
- لم تأت لتفعل إلا ما يمليه عليك قدرك أن تفعل، وحتى اللحظة، ما هذه إلا أمور ثانوية.
- كل هذه الجرائم الفظيعة وتقولين ثانوية! صرخ مُرَوَّعًا. أي أبله كنتُ! لم يكن الصباح أبدًا وإياي، لطختني قطرات الندى، وكانت بالأحرى رائحة روث البهائم ما شممت! وأنا كنت أركض وكأن جسدَ بَغِيٍّ من شارع الأقحوان تركض في قدميّ، شارع جهنم، وقبل وصولي إلى آخر الطريق، كنتُ أحس بنفسي ثقيلاً ثقل الحديد الذي كبلت به نفسي. عشت وقتًا أسيرًا، ولم أر سوى الصحراء ما وراء الحجر!
- انتزعتَ منها الخنجر، غير أنها منعتك من فقء عينيك كما فعل من قبلك ملك مغضوب عليه، وعادت تأخذه منك، خنجر العدل واللاعدل هذا. ضحك ابناك اللذان هما في الوقت ذاته أخواك، فهما لا يعرفان أن أمك لم تكن إلا ابنة آدم، وأنك لم تكن إلا ابن حواء، وأنكما، أنتما الاثنان، لم تكونا إلا ذئبين مُدَجَّنين، وأن ما وقع عليه أن يقع! اتركهما إذن من ورائك، ستتكلف بهما النبوءة! عد إلى نشر العطر، وتعال لتكمل في الأصل ما عزمت عليه.
أجبرت العجوز الصبيين الملعونين على العودة إلى الصندوق، واقتربت من حفيدها، وهي سعيدة وتعيسة في الوقت نفسه الذي ترى فيه امحاء ابتسامتها عن شفتيها. عاد إلى نشر العطر، وأعلن بنبرة حاسمة:
- ستتحررين عما قليل، يا جدتي! وقبل أن يقيدني ولداي، سأكون عما قليل حرًا!
بدأت تختلج من جديد و، بلهجة متيمة:
- لهذا كنت بانتظارك طوال الوقت، وكلما فكرت أنك آت، شع أسفل جلدي شكل غريب من أمل غريب!
- يا لغرابة الأمل!
- ويا لغرابة الحرية!
- انصتي، قال، يقظًا، انصتي جيدًا، انشري أذنيك معي!
أنصتت.
- هناك خطوات في الخارج، قالت، مضطربة.
- الخطر هناك. هذه المرة، أنا أستأهله، هذا الخطر. يجني المرء ما يبذرُ! ها أنا أرى أخيرًا حقيقتي الحقيقية.
حدقت في خنجر العدل واللاعدل بعينيها المضطربتين، وقالت له:
- عجل، يا صغيري! انته بسرعة! حقيقتك، حقيقتك الحقيقية، أنا!
تجاهل باسل سلاح الحياة والموت، وسمع نفسه يقول، مشفقًا:
- لقد عانيتِ طويلاً، يا جدتي الطيبة!
- سأرتاح عما قليل، أنت من سيأتيني بالراحة، أليس كذلك؟ ستقوم بما يجب، أنا على يقين، لطرد التعب من جسدي المسكين.
- لا تحقدي علي!
- لا أحقد عليك! أترى... أستقبلك في ثوب العروس!
- هو أولاً من أجلك، ومن أجل...
- هو أولاً من أجلي! هو أولاً من أجل ستك الطيبة، هو أولاً من أجل ستك المسكينة...
مددها على السرير.
- سأحكي لك حكاية، هل تسمعينني؟ سأحكي لك حكاية وقعت لي عندما كنت هناك قرب النهر الكبير... كنت أنتظر السماح لي بالحضور إلى هنا، قربك، لأراك، لأمَسَّك، لأضمك، لأشمك. كان الحر شديدًا جدًا، ولاستعجالي أمر القائد، غفت عيني. جئتِني عجوزًا كالزمان، غِرَّةً كورود الصباح. أخذتك بين ذراعيّ، وبكيت. مسحت العجوز التي كنتِها دموعي، والغِرَّة، الجميلة، الساحرة، الفاتنة التي كنتِها قبلتني من فمي. كل الأحلام التي حُلِمَت مذ وُجِدَ الوجود غدت حُلمًا واحدًا، حُلمي. كان حُلمي قُبلتَكِ، جنتي كونَكِ... لما فجأة سمعت صراخًا. كنتِ أنت، العجوز، التي تدفع الشابة في اللهب، وأنت تصرخين صراخًا شديدًا، والأخرى تضحك... كانت تضحك، تضحك، بينا تلتهمها النار. ثم انفجرتِ باكية، لم تكوني تجرؤين على قذف نفسك في الجحيم بمحض إرادتك، لم يكن غيري من يستطيع ذلك. عندما صحوت، قلت لنفسي: جدتي المسكينة في حاجة ماسة إليّ. يجب عليّ الذهاب، يجب الاستجابة لانتظارها. للأسف، كل رفاقي قُتلوا، محارب، حفيد غواص الجميل، أولهم. لهذا تأخر مجيئي حتى اليوم.
سكت، ليتركها تبكي قليلاً، قبل أن يضيف:
- ابكه، يا جدتي، لو لم يزل جده على قيد الحياة لبكاه. كان شجاعًا، محارب!
سمعها تردد بصوت منخفض "جميلة... جميلة..."، منخفض جدًا، لا يُسمع أو يكاد، وهي تواصل البكاء. جميلة... جميلة...
- قضيتِ وقتًا طويلاً بانتظاري، يا جدتي المسكينة!
- طويلاً... طويلاً...
- تعذبتِ طويلاً!
- ...
- سترتاحين عما قليل.
- لن يكون الأمر سهلاً.
- عما قليل، لن تتعذبي أكثر مما تعذبت.
- ستواجه صعوبات، صعوبات كثيرة، يا طفلي.
- هذه القضية المنحوسة، حكاية أمي وابنيّ اللذين هما أيضًا ابناها، قنبلة زمنية، أعرف. سأتركهما مؤقتًا من ورائي، في صندوقك. فيما يخصك، سيمضي كل شيء كما كان مقدرًا.
- ستواجه صعوبات أخرى غير التي تركتها من ورائك، ستواجه صعوبات في صندوق الحياة!
- لا تقلقي من أجلي! الصعوبات، اعتدتها.
- عليك واجبات تقوم بها، واجبات كثيرة، وستواجه صعوبات كثيرة.
- قلت لك لا تشغلي بالك من أجلي. اعتدت الركض في الصباح الخائن، وعلى الهضبة الغادرة، وتحت الشجرة الخادعة... مع الظل اللاوفيّ، والحجر الماكر، والنهر المداجي! لم يبق لي إلا الصبر ووشم المصير!
- مصيرك، هو هذه الصعوبات التي عليك مواجهتها، كثير من الصعوبات. عليك مواجهة هذه الصعوبات بصبر فلاح!
- وصبر عامل!
- يا قلبي!
وهو يواصل ترداد:
- صبر عامل... صبر عامل... صبر شاعر!
- صبر أم!
- صبر أم، صبر جدة!
- أمك ستبقى أمك، مهما كانت "الغلطة" التي ارتكبتها، وهي حيث هي الآن تدعو لك، مثلي أنا عما قليل، يا قلبي!
أمه أيضًا، تعذبت أقسى عذاب، ولم تعرف لا الفرح ولا الراحة. شقت أشد شقاء. السعادة التي ظنت سعادتها كانت مرة، مريرة. كانت قصيرة. كانت حلوة لكنها مرة. كانت الحلاوة المرة للهالكين. ستنتهي المرارة في حلاوة الروح، وليكن واثقًا من نفسه، المؤمن بالإنسان، العابد للشعر. فليغفر، نعم، ولكن، لا ينسَ. فليبدأ كل شيء من جديد، نعم، لا يتقهقر. شيء آخر. فليفتح عينيه واسعًا، فليكن عادلاً، فليحب الفقراء. عندئذ، سيكون مقام العادلين على الأرض. فليعمل خيرًا للكل، لفقرائنا، ولفقرائهم، نعم، من هم لدى البرابرة، لكل الفقراء، لفقراء العالم أجمع. فليعمل خيرًا لكل الأمهات، لكل الأقحوان، لكل الأقاقيا. هكذا تُجزى روح غواص الجميل، بين أذرع الشهوة، ويُجرى لابن صهباء المثل الأعلى الذي وُلِدَ من أجله. وليكن قويًا.
- خذ، ها أنا أعهد به إليك، هذا الخنجر الكريم، قالت العجوز بدون تردد.
- خير خنجر!...
- خذه، ودعني ألمس ذراعك، يا قلبي! ستكون آخر رغبة لي، رغبتي الأخيرة.
مرت على أديمه أصابع خشبية، وبين أصابعه يتفتح الخنجر الكريم.
فليكن قويًا كي تكون حكمة العالم أقوى، ويكون عقله دومًا عاقلاً بقدر هواه. فليكن عاشقًا، فليكن حارًا، فليكن كريمًا. ستنظر إليه جدته الصغيرة، ستنظر إليه من فوق. ستدعو له، وستحسب خطواته. سيكون وفاؤها هي الوفاء للأرض، لنهر الشهوة، لساحة المعدمين بالرصاص. وفاؤها وغرامها. وفاؤها وتفانيها وترفعها وتعلقها وعطاؤها. عطاؤها.
- ستكون وفيًا للأرض، آه، يا ولدي؟ آه، يا صغيري؟
- سأكون وفيًا للأرض، قال وهو ينحني فوقها.
- هل تحبها قويًا كما أحبك؟
- أحبها قويًا كما تحبينني، أحبها قويًا جدًا كما أحبك!
- ستجد أدوات الحقل هنا، في المكان الخرافيّ! قالت وهي تشير إلى الصندوق. اجلخها، ولمعها، فهي صدئة من قلة الاستعمال.
- سأفعل، أجاب وهو ينحني دومًا فوقها.
- هذا العِقْد...
لكنه دفع الخنجر في بطنها، وتقطع العِقْدُ بين أصابعه و، كالمطر الملون، تساقطت الأحجار الكريمة على الأرض. ألقت عينا الجدة، العجوز، المتفجرتان بالرعب، الذعر في قلبه. لم يدم ذلك أكثر من هُنَيْهَة، ثم فجأة، أحس بنفسه فردًا آخر: بلا عوائق، بلا أغلال. كان حرًا، حرًا أخيرًا. فتنفس. طويلاً. عميقًا. عندما نهض، كانت حبة من اليَشْبِ تضيء على معصمه. وفي كل مكان، في كل زاوية، آلاف الأضواء المتلألئة، الخاطفة للبصر: آلاف العجائز المستلقية على الصخور، وهن يغلقن أعينهن، ويبقين هناك، دون ما حراك.
- هذه المرة، في المستودع، لأن ما يقع لا يقع أبدًا في نفس المكان، اثنا عشر فرخًا جديدًا تزقزق مُنْشِدةً نشيدًا للحياة، وأمها تراقبها بقلبٍ متيقظٍ يجعلُهَا تخفقُ جناحيها. هو، ها هو ينهي أولَ مهمةٍ لَهُ: الأصعب والأكثر خطورة. وها وهو يلتفت حواليه، ويكتشف خيالات كثيرة، خيالات لا تعد ولا تحصى تحاصره. صورته المتكررة، المنعكسة إلى ما لا نهاية عن كل شيء: ثوبه ملطخ بالدم، يداه ملطختان بالدم، أنفاسه ملطخة بالدم، ضوءُهُ ملطخ بالدم، ليْلُهُ ملطخ بالدم. وسماء عينيه تخلبها البروق... سيفتح الباب عما قليل، وسينطلق حتى تخوم الليل، صارخًا بأربعة أقطار العالم، في نقاء الصباح: "لست القاتل! لست القاتل!"


الكتابة الأولى الجزائر/باريس 1971
الكتابة الثانية باريس الجمعة 13/5/1988
الكتابة الثالثة بالفرنسية باريس نوفمبر 2003
الكتابة الرابعة باريس الثلاثاء 4/11/2014