العجوز الحلقة الثانية عشرة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4607 - 2014 / 10 / 18 - 13:51
المحور: الادب والفن     


قالت العجوز لمجموعة من العجائز الأخريات المجتمعات حولها أمام الموقد: "طالما أن المرء يعيش دون ما حذر، دون ما تفكير في الشر، وحتى لو تصرف بشرف، يكون الخير مهزومًا على الدوام." هذا بالضبط فيما فكرت جميلة ذلك المساء، في اللحظة التي وقع فيها الحريق الكبير، وبعد الحريق الكبير التدمير الكبير. ومنذ ذلك الحين، فكرت الشيء نفسه في فرص أخرى، دون أن تقدر على فعل شيء، وكذلك تلك العجائز الكريهات اللاتي كن حولها. كانت لهن هيئة ضائعة، كما لو لم يزلن يعشن تلك اللحظة المفجعة. لم تزل الريبة تُقرأ على وجوههن. الشك. التشاؤم. يُضحكن الإنسَ والجن. وأنتن، أيتها المنهوكات؟ كنتن تفكرن في هذا، كنتن تفكرن في هذا البهتان الذي كان يلزمنا لنتسلح ضد الاعتقاد الأعمى بالخير؟ تفكرن في هذا دائمًا، فماذا فعلتن؟ لم تفعلن شيئًا. لم تفعلن شيئًا على الإطلاق. وحتى الآن، أنتن لا تفعلن شيئًا!
كن اثنتي عشرة. كالقرى الاثنتي عشرة التي تتكون منها المقاطعة. رقم شرير للعجوز ك 13. ككل الأرقام في الحال التي هي فيها.
- أنتن لا تقلن شيئًا، أيتها العوهاءات!
- ليس علينا نحن أن نفعل، قالت العجوز ذات أمارات الحجر، فوضعنا سيء، سيء جدًا، ولكننا نقدر على تحمله.
- تقدرن على تحمله! وضعكن سيء جدًا، وتقدرن على تحمله؟ كيف هذا، تقدرن على تحمله؟
- نتدبر أمرنا كما نريد، نحلم، نبكي، نتأكل، نتسلى بشيخوختنا لو شئتِ، وهذا شيء بطولي من طرفنا!
- بطولي؟
- نعم، بطولي، بطولي!
- لا أرى في هذا ما هو بطولي، أنا، فما هذا سوى زيغ وبهتان، سلوككن. هذا ما يُدعى الوهم النهائي، لأن، ما بعد الاجتياح الكبير، لم يعد شيء كالماضي. لا شيء، لا شيء على الإطلاق. إلا إذا...

.........................
ثم تلك الطلقات المجبولة، وتلك الخيول المجنونة، المنبثقة من الظلام والساحقة تحت حوافرها أجسادًا بشرية، أجسادًا حيوانية، أجسادًا شجرية... دون أن تقدر المقاطعة على فعل شيء. أولئك الأسياد، أسياد لا شيء على الإطلاق، كان من السهل سحقهم كلهم، حتى بالحجارة. كانت الجبال مليئة بها، وكان يكفي أن تُلقى، وَيُجَرَّ عليهم ذيلُ العفاء. ولكن ليكون انتصارًا فعليًا، كان من اللازم أن يسيل الدم. ومن جديد، طلقات نارية جديدة، أروع فتكًا كانت، وأجساد أخرى تساقطت. ثم أخرى، ثم أخرى. لتكون هزيمة جميلة، على النار أن تتأجج أعظم التأجج، أن يسدد الله خطاهم. وصل اللهب النجوم، تلك النجوم الهازئة بالنجوم، فأشربوا بهم ما لم يشربوا. دكت النارُ النارَ في أركان البيت الأربعة، ذلك البيت الخائن للبيت، ودالت على الأطفال الدولة، فبكى الأطفال. بكاء أطفال. بكاء غير وفيّ لأطفال. رباب المغني. ودت جميلة الرحيل، وهرعت إلى المكان الذي كان أطفالها ينامون فيه منذ قليل. لم تمنعها سحابة الدخان من نَحْوِ نظرِهَا إلى تلك النداءات، تلك النداءات الصغيرة غير الوفية للحياة، برعاية الله وحفظه، فركبت الأخطار والأهوال. كان الرشاشُ دُرَّتَها التي لَنْ تُرَكَّبَ لغيرِ سُلطان، ومطرُ النارِ جزاءَ الإحسانِ بالإحسان... أحست بالهدوء يرين عليها، شيء لا يصدق، وفي الوقت ذاته لا شيء يجعلها تتراجع. رأت جميلة نفسها جميلة، عاهرة، ففرقعت الطلقات، ودمرت القنابل كل شيء في القرية، كل شيء على الإطلاق، حتى الظلال، حتى الصور. وبسرعة، انقطع البكاء، ولم يعد الدخان يحمل غير النواح الفظيع. أفظع من ذاك النواح لم تسمع. نواح الرياء. أهل الرياء لما ينوحون بصدق، لما يرون صوابًا. اكتشفت اثنتين من بناتها ميتتين، والثالثة كانت تئن، بِكَتِفٍ مفتوح على رحاب الكون، أحمر كرمانة، فأخذت تنعق لتطرد الوجع، لا، لتستقبله. لتسلط عقابًا على نفسِهَا، هي التي صُعقت نفسُهَا. وكذكرى، غدت ذكرى قبل أن تكون ذكرى، طرق ولدها الصغير روحها، فسارعت بالذهاب إلى سريره، إلا أن النار كانت أسرع منها. كان في مكانه غصنٌ... محترق.
بعد عبور النار على حصانها، لم يعد بيت سيف وجميلة شيئًا آخر غير أنقاض، وكانت أجراف الدخان هنا وهناك. لم تَشْكُ أمرَهَا إلى الدخان، وهي، مشعثة الشعر، ممزقة الثياب، تربض على أكداس القمح المكربن، جاذبةً ابنتها الجريحة إليها، طفلتها الوحيدة التي بقيت لها. انحنى البعض لأخذها منها، لمعالجتها، شمس الظلام، لكن جميلة سألتهم:
- هل رأى واحدٌ بينكم سيفًا؟
لم ير أحدٌ سيفًا، فصاحت، تائهةً زائغةً حائرةً عاهرة:
- أيها الملعونون! لِمَ لا تقولون لي الحقيقة؟ لِمَ لا تقولون إنهم أحرقوه في جهنم؟ أيها المراءون القذرون! ليقتلكم بالرصاص الجنود الذين يحتلونكم! ليحكمكم الحاكم، هذا الشيطان الذي لا قلب ولا قرن له، ليحكمكم، ليضاجعكم! ليجرفكم لهب جهنم!
رشقت وجهها بالطين، فغطت بجمالها سائر النساء، والنساء حولها يبكين، وكذلك الشجر، وتلك الميموزا التي نجت من اللهب. جاءت زهرة في الأخير: عندما لا يكون فرحٌ هناك تجيء زهرة آخر من يجيء، عندما يكون كل شيء قد انتهى. كانت تحمل غواصًا، ابنها، بين ذراعيها، وتبكي كالنساء الأخريات. كان غواص يبكي كذلك. غواص، الولد، كان يبكي. وعلى حين غِرة، قذف بنفسه بين ذراعي جميلة، وواصل البكاء. كان كمن يريد الولادة من جديد، مع جميلة، في نهر الدموع.
..........................


يتبع الحلقة الثالثة عشرة