العجوز الحلقة السادسة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4601 - 2014 / 10 / 12 - 12:36
المحور: الادب والفن     


بُعَيْدَ ليلةِ الدُّخْلة، جاء الحاكم بشخصه لتهنئة العروسين. كان يرى في سيف، زوج الابنة الوحيدة للحسيب وأب الوارث المحتمل للمقاطعة، مفاوضًا عليه واجب التوجه إليه بعد أن رفض أبو جميلة استقباله، إلا أن المواجهة بين الرجلين أثارت كل السكان. قطعوا شعرة معاوية مع النسيب، واشتعلوا غضبًا، فصرف الحاكم انتباههم بإطلاق النار على الغيم، وبعواء الذئاب، لكنهم لم يجعلوا أنفسهم تحت تصرفه. قالوا الصرامة لا تقبلها إلا الصرامة، والحق لا يجوز التصرف فيه. لم يمنعِ الحاكمَ ما قالوا من العودة في أربعين الزواج ليجدد تهنئته، فوقع أبو جميلة مريضًا، وأعجز الأطباء مرضه. نعم هو، أقوى الرجال وأشدهم والأكثر خشية! من في يده أمور النفوس والعباد! هل هي الطبيعة أم ما فوق الطبيعة؟ الظلام أم الظُّلامة؟ التعرُّض أم التعارُض؟ قَوِيَ قلق القرى الاثنتي عشرة عليه، وأحس الناس بوجودهم مهّدَّدين. ماذا هم فاعلون إذا ما فارقهم سيد البَرَكَة؟ لم يكن الأطباء يقدرون بالفعل على فعل أي شيء لإنقاذ سيدهم، فأمضوا الليالي بطولها، وهم يندبون، ويبتهلون. جُنَّ بعضهم، وانتحر بعضهم أو فرّ أمام قدره. تسلقوا الجبال، هناك حيث كان البرابرة بانتظارهم ليجزروهم، بينا لازم أبو جميلة غرفته بلا انقطاع، وقد استثناه الأجل بالسرعة التي جاء والدا سيف. تغطت الحقول بالأزهار السوداء، وبدأ الحديث عن داء غامض سيفتك في البلاد فتكًا ذريعًا. فُتِنَ الناسُ في دينهم، ودغدغت الأنوف رائحة المنون. مات والد جميلة، ثم والدة جميلة، ثم مائة من الأشخاص الآخرين، ثم ألف من طيور السنونو، ثم مائة ألف من الدُّعْسُوقِيَّات المجنحة، وقامت الحجارة، وكأنها اللحود في مدفن الكون. قال الناس: هذا من غضب الله، مذ وضع الحاكم قدمه على أرضهم تخلى الله عنهم! لم يطل الوقت على الثروة التي ورثتها جميلة حتى نفدت لحساب رؤساء القرى المتنافسين مع رؤساء القرى في النقش في الماء، لتَعَطُّشٍ لا يروى إلى كرسي الحكم. حرموا سيف أول من حرموا من كرسي الحكم لكرسي الحكم، وأبعدوه عن كل سلطان. وبعد ذلك، حاولوا انتزاع زوجته منه، لاغتصاب منصب الحسيب. ولما فشلوا، كانوا للشقيقة إخوتها. اقتلعوا الوفاق، وزرعوا الشِّقاق إلى حد التآمر على حياة جميلة وزوجها. أجبروها بثمنٍ بخسٍ على بيع غلالها، وبينهم لم يكونوا أبدًا متفقين. في غيابِ رئيسٍ للرؤساء، تصارعوا فيما بينهم، وتقاسموا المقاطعة، وكل قرية اعتبرت مقاطعة. في حال كهذه، انقلاب الدهر فيها متعة للعين، وتقلبات الزمان سلام للنفس، على الضنيك أن يعيش عيشة الضَّنْكِ، فاضطرت المدللة جميلة إلى العمل في حقلها إلى جانب زوجها كأية فلاحة. قال عنها الناس "دؤوبة، كدودة، لا تساويها امرأة"، ولم يتوقعوا من الابنة "الناعمة" للحسيب المتوفى أن تقبل التحدي تحديًا للحقيقة، فكان عليها المقاومة بضراوة من أجلِ استردادِ الماضي وضمانِ مستقبلِ فرخِهَا الغافي فيها.


يتبع الحلقة السابعة