العجوز الحلقة الثالثة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4597 - 2014 / 10 / 8 - 15:23
المحور: الادب والفن     


مع الوميض الأول للشمس، غادر موكب العروس بيت العروس بالعروس إلى نهر الشهوة. كانت عادة قديمة من مَجاهِل الأزمنة، عادة تطهير الجسد، فالأمور مرهونة بأوقاتها، والكيفية التي تسير بها الأشياء كيفيتها. دخلت جميلة الماء، وهي تضع عليها حيكًا من الحرير الأحمر المتأجج في رمان الفجر، بصحبة المداحات: ستكونين الأسعد، أكدن على الكلمات، ستأتين بالأولاد! لن يماثلك أحد، يا جميلة، بِوَرْدِكِ يا جديرة! وكن يرمينها بالزهور. اخترقها الماء، فأحسته في جسدها، وجعلتها برودته ترتعش ارتعاش الزنبق في العراء. الشَّهوة واللَّذة، هاتان الخطيئتان الجسديتان امتزجتا واستُهْلِكَتَا. كل ما فيها انقذف خارجًا: كانت ماءً، وكانت ضوءًا. ثدياها، بطنها، فخذاها، أصبحت كلها نقية تحت ثوب الحرير، حريرية، تحس بالهدوء يرين عليها. عاد جسدها إلى وضعه الأصلي، جسد طفلة، محررًا من كل قانون، بانتظار ليلة الزفاف حيث تنبثق الشهوة ثانية كما لم يكن من قبل، وحيث يكون المشتهي في أوج المتعة. ستكونين الأسعد، ستكونين الأكثر شهوة... ستكونين الأكثر اشتهاء!
زهرة، صديقة جميلة الأعز، كانت حبلى في شهرها التاسع، وكانت تُسْنِدُ العروس بذراعيها لما شعرت فجأة بأولى آلام المخاض، فآلمت جميلة على الرغم من كل إرادة العالم لمنع ذلك. هزة عنيفة فيها جعلتها تغطس في الماء، فقطعت المداحات مديحهن ليهتممن بالأم الصغيرة. كان السفرجل الأصفر في الفضاء الأخضر، وكانت الولادة في الماء خلال بضع لحظات، بضع دقائق أو يكاد، وَوُلِدَ صبيٌ أسموه "غواص الجميل". لأنه وُلِدَ تحت الماء، يوم زواج جميلة. وأشرقت جميلة تحت الأشعة الذهبية، شمسها وضوؤها وزواجها ونهرها وهذا الوليد الجديد القادم إلى العالم. كانت معتزة ومبتهجة، قبل أن يبدأ طقس الحنة، طقس، حسب الأسطورة، يأتي العروسين بالهناء. ومن جديد، انطلقت المداحات يمدحن، "ستكونين الأسعد"، أيضًا وأيضًا إلى ما لا نهاية. دار هذا الحدث السعيد بالعرس من أدناه إلى أقصاه، ودارت من الشائعات أردأها. قيل إن هذه الولادة أبانت زهرة على حقيقتها، فقصد زهرة بفعل كهذا تلويث حمام جميلة، وخاصة لأنها جاءت بولد. إشارة من الله ذات شؤم، فذرية جميلة ستكون ملعونة، وكأمها لن تلد طفلاً ذكرًا يستطيع يومًا أن يكون على رأس المقاطعة وسندًا لها في الأوقات الصعبة. هراء! قالت العروس العاقلة لأعز صديقة. أنت لم تحددي ساعة ولادتك مع الله، ولم تعرفي إن كان بنتًا أم ولدًا! بكت النفساء بين ذراعي جميلة، ولتبرهن على صدق نيتها، أصرت على إعانتها حتى النهاية على الرغم من هشاشة وضعها. كان الوليد هناك، على بعد خطوتين منها، في سرير العروس، والعروس ترتدي فستانها الأبيض المُشترى من مِصر، والمُخاط حسبما يمليه ذوقها. فستان من التُّل الوهميّ المرصع بالحجارة الكريمة، بأكمام طويلة من الدانتيل. رائعة من الروائع! كانت عشر نساء تحت تصرفها، وتلك المداحات اللاتي يمدحن: ستكونين الأسعد... كان صوتهن يصل الآذان مُوَقَّعًا مع الطبول. جاهزة أخيرًا، رغبت جميلة في أن تُري نفسها في ثوب العرس لأمها التي كانت تطبخ في الفناء، ليتصاعد الدخان حتى أبواب السماء، فيطرقها، وتنفتح للسعادة المحلقة على أجنحة الملائكة.
غني عن البيان أن الأم لم تكن تثق بالطباخات، فتلك النساء الشابات، حسبها، كن يفتقدن للموهبة، وهن يتعلمن بصعوبة فن الطنجرة. كان عليها البقاء قربهن لتقودهن، فمن الواجب أن يُبقي الناس رائحة طعام جميلة طويلاً في مناخيرهم. أضف إلى ذلك أن هناك مائة خروف تم ذبحها، ألف دجاجة، وعشرة ثيران، مما يتطلب من الجهد الشيء الكثير. قولي لجميلة أنا آتية خلال لحظة، ردت الأم على المُرسلة من طرف ابنتها. وأتت حقًا، ولكن بعد ساعة أو ساعتين. عبدت ابنتها في ثوبها الأبيض، وسجدت لجمالها. لم تجد ما تقول غير: الله يحميك! بلا كلل، لتمنع نفسها من حسد ابنتها. الله يحميك، الله يحميك، الله يحميك! قبلتها، وقبلت زهرة. يجب عليك أن ترتاحي، يا ابنتي! قالت لزهرة، يبدو عليك التعب! مددتها إلى جانب "غواصها" لترضعه، وجميلة تضحك بخجل على رؤية الثدي الهائل. فتحت الأم صندوقًا على عِقدٍ بألفِ لونٍ يبرق في الضوء: عقيق ويَنَع ويَشَب. هذا العِقد منا جميعًا، هدية زواجك، قالت الأم للعروس، وراحت تعطي اسم فتاة لكل حجر. زهرة، وهي تواصل إرضاع صغيرها، وضعته لجميلة حول رقبتها، فانطلقت الزغاريد أخاذة، ثاقبة. عادت المداحات إلى الغناء، إلى الضرب باليدين، والنساء إلى الرقص، إلى الضرب بالقدمين. ومن بعيد، من الناحية الأخرى للقرية، سمع الكل زغاريدَ أخرى. كان سيف وأصدقاؤه، يناجون أنفسهم ولا يريدون النجاة بأنفسهم. كانوا يحممونه، ويحلتونه، ويلبسونه، ويعطرونه. وصل غناؤهم الآذان، ولم تكن الزفةُ ساعتَهَا، إلا أن غناءهم كان يصل الآذان من بعيد، وهو يسري مسرى المثل. يوم عيدك، أحلى الأيام... كان يُسمع قرع الطبول وكأنه آتٍ من الجبال التي تصغي، وكان لا يبقى في الآذان إلا قرع الطبول هذا، قَرْعٌ قَرَصَ القلوب فجأة. كان يأتي من بعيد، من بعيد جدًا، من وراء الجبال. أحلى الأيام للأحلى... كان يأتي مع الأمواج.


يتبع الحلقة الرابعة