العجوز الحلقة الأولى


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4593 - 2014 / 10 / 4 - 18:32
المحور: الادب والفن     


"من هي في قلب كل عربي وتسمم روحه".

دانيال ريج


يدعونها "العجوز". العاقلة. المجربة. المتبصرة. الأكثر استنارة. لأنها من بينِ كلِّ العجائزِ الأكبرُ عمرًا. وكذلك توقيرًا لما فعلته أو جرؤت على فعله وديدنها الحكمة. يتذكر الناس يوم ميلادها وهم يشيرون إلى شجرةِ بلوطٍ في القدمِ عريقة، أو يوم زفافها وهم يستدعون حصاد الذهب الوافر أكثر ما يكون عليه في كل تاريخ القرية. من القمح كانت هناك المحيطات، وليس فقط القمح، البركة الطيبة لهذه الأرض الكريمة، ولكن كذلك الزيتون والعنب، إلا أن في تلك السنة كانت وفرةُ السنابلِ الأعظمَ. يستذكر الناس كلماتها الأولى والمَعْز الطويلة الوبر الحريرية الجزة من أنغورا، خطواتها الأولى والجياد الكريمة البيضاء أو المُدَنَّرَة من جزيرة العرب. وللكلام عن أزمانٍ تغيرت الأشياء فيها ودارت على العجوز الدوائر، يسوق الناس إلى الناس فيضانًا أو زلزالاً، حربًا أو حريقًا، وهم يقرنونها بموتِ إحدى بناتها أو برحيلٍ إلى غير عودة لأحد أبنائها أو أحد أحفادها. ويجري الحديث عنها والمماحكة حولها إلى ما لا نهاية: شعرها الداكن الطويل الواصل إلى قدميها لما أرخته لأول مرة في ساحة الجمال، وأول كسوف للشمس ابتلع العالم في سواده. كان تقليدًا وثنيًا عرضُ البلوغِ ذاك منذ أجيال وأجيال، عرضٌ يدور في ساحة الجمال، عند عتبة المسجد. ومن هنا سُميت الساحة العامة للقرية "ساحة الجمال". ويتجادل الناس، ويحكون. يحكي الناس كثيرًا عن أول انقضاض للجراد، عن أول مطر مالح، عن أول طلقة أُطلقت من يدِ أخٍ في صدر أخيه. لشحذ الذاكرة، كان الناس يميلون إلى استحضار أول حدث وقع، ودومًا بربطه بجميلة. هكذا كانوا يسمونها، وهي شابة. جميلة. أول حب عابر لها، أول خروج لها إلى الحمام، أول ليلة قضتها عند زهرة، أعز صديقاتها، أول تَمَنٍ لها، أول تعهد، أول تخوف. وآخر رغبة لها، الرغبة الأخيرة في إيتاء الرغبة في التغير لمن يَثِبُون نحو خداع الكبرياء وسراب المجد، والرغبة في قضاءِ حياةٍ تعني العظمةُ فيها معرفةَ الذات. إن صح القول، كانت سرَّ هذا المكان البعيد، البعيد جدًا، المنعزل جدًا، ولكن المسيّج تمامًا بالأحلام والجبال، وفي الوقت ذاته، كانت سريرةَ هذهِ الكائناتِ، سُكَّانِهِ، ذوي السجايا المماثلة للحجر، الأقدم من الحجر، حجر النار، أو الحجر الذي تقيم عليه النسور أعشاشها، والأكثر نفاسة، كجميلة: الألماس، اللازورد، الفيروز، الزَّبَرجد.
كانت الابنة الوحيدة لسيد عظيم دومًا ما دللها، دومًا ما حقق لها كل رغباتها. هذا لجميلة، وذاك لجميلة. الفساتين والفاكهة، الغزالات والظباء، المُوبِرات، الضَّيونات، حتى ساكيات الأمازون، لتكون راضية. وهذا أيضًا لجميلة، تريده، تحلم به. أن يجيء هذا من هنا أو من هناك، حتى ولو من بعيد، من بعيد جدًا، ومهما كان الثمن. كل شيء يُجلب لأجلها، كل شيء يُفعل لأجلها. تُحَرَّكُ الجبال، تُحَوَّلُ الأنهار. ولأجلها، بالإضافة إلى طقس عيد ميلادها، كانت الأعيادُ تُعَدُّ غيرَ ما تُعَدُّ الأعياد، أفخم الأعياد، لأقل مناسبة: لما ثقبت أذنيها، لما ألبست أسنانها بالذهب والسرّ الخفيّ، لما حفظت عن ظهر قلب الجزء الأول من القرآن أو جدول الضرب، لما كان لها أول طَمْث، أول سن للعقل، أول مُهر، أول طَقْمِ مجوهرات. ما عدا عرسها، الحفلة الصائتة الأكثر كانت بمناسبةِ شراءِ عِقدٍ من اللآلئ السوداء، نادرة النوع، ملكتها إحدى إمبراطورات الصين، بلد السور العظيم وألف ألف عجيبة. كان العِقدُ عجيبةَ العجائب. اثنتا عشرة لؤلؤة سوداء ذات اسوداد متلألئ ليل نهار، شموس سوداء في النهار، وأقمار سوداء بسواد الآبَنوس، في سماء بيضاء تمام البياض، في الليل.
هذه اللآلئ السوداء النادرة والنفيسة كانت تمثل القرى الاثنتي عشرة التي كان والد جميلة حسيبها. بإهدائه هذه الجوهرة المدهشة لابنته، أراد والد جميلة أن يُعبر في الوقت ذاته عن حبه لها وعن تعلقه بِوَحْدَةٍ توثق العرى بين كل تلك الأقاليم في مقاطعة كبيرة تحت إمرته. وكذلك أراد أن يُظهر كم كان عمق فهمه للعدالة يدفعُهُ إلى حبِّ لآلئٍ جاءت من نفس البحر، من نفس الرحم، ولكلها العيارُ نفسُهُ. على النمطِ نفسِهِ كان الناس هنا متشابهين كلهم، وكلهم عظامًا. ولهذا كانوا كلهم نبلاء وفي رخاء. كانوا يأتون كلهم لحضور عيد اللآلئ. هكذا أخذوا يدعونه: عيد اللآلئ. كانوا يقولون: في عيد اللآلئ اشترينا حصّادة، ومنذ ذلك الوقت ونحن نعمل عليها، منذ أعوام. سنة بعد عيد اللآلئ بنينا دار البلدية. أو أيضًا: ستكون لابني عشر سنين في عيد اللآلئ القادم. وعيد اللآلئ، وعيد اللآلئ... كان رؤساء كل القرى هنا، بصحبة أبنائهم وبناتهم، وكل القرويين، مزارعون وفلاحون خِلْطًا بِلْطًا حتى أوضعهم. في هذه المناسبة، كان الأولاد مع الأولاد يتنافسون أُوارًا في لفت نظر جميلة إليهم. كانوا يأملون كلهم بكسب ودها، ويصبون إلى الزواج من جميلة الجميلات. وكانت الجميلات الأخريات تأكلهن الغيرة، مَغيظات، مغتمات. ومع ذلك، لم يكنّ دميمات، وإنما بكل بساطة منسيات، لا يقدّرهن أولئك الشبان حق قدرهن، وكان كل طموحهن أن يسقطنهم في حبائل الزواج... في مناسبة كهذه، كان الكل، بنات وأولاد، شبان أو شبان أقل، كان الكل جميلاً قطعًا، إلا أن جميلة كانت محور الأنظار. وكان من الصعب على جميلة الاختيار، من الصعب عليها قول نعم لهذا ولا لذاك. كانوا كلهم جميلين وأغنياء، كتلك اللآلئ السوداء بجمالها اللا يُضاهى، وقيمتها النفيسة جدًا. عندئذٍ، فضلت الانتظار. بالنسبة لها، العاقلة، كان الحب الكبير وراء ما يقطعه العقل على نفسها عهدًا.


يتبع الحلقة الثانية