موسى وجولييت الفصل الحادي والثلاثون


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4581 - 2014 / 9 / 21 - 00:30
المحور: الادب والفن     


أسماء تعود إلى الهضبة، وفي بطنها بنتٌ تكبر، كما أكدت الإيكوغرافيا. تبكي أسماء. لتبكي الشجر. وتبتسم أسماء. ليرى موسى في ابتسامتها ابتسامة جولييت. تحكي له عن فدائي آخر، غير الذي قتله، يريد أن يربي البنت معها. تحكي له كيف قُتِلَ. ولا تصبح أسماء وحيدة، وهي قربه. يلف كتفيها بذراعه، ويقول لها كيف قتل الجنديُّ يوسُفَ، وكيف رمى يوسُفُ في السجن جولييت. تهتز الأغصان، والشمس غير بعيد ترتعش. تعصف الهضبة بالعشب. وبالرصاص البارد. متى يدفأ الرصاص؟ متى يُدفئهما؟ تقول ابنتها تتحرك، وتترك أصابعه تلاحق الحركة على بطنها. تتحول الأصابع إلى أناشيد. هناك جولييت بين القضبان، وأسماء تسقطُ في لحظةِ خجل. تترك أصابعه على بطنها، فيترك أصابعه في مرق العائلة، ولا تغادر فكره جولييتُ ربةً للبيت. للسكر والملح. للخبز والأرز. للذكر والأنثى. ربة للخير والشر. للأسود والأبيض. للأسود والأسود. للشرق والشرق. ويأتيه البحر متعاليًا من كلكوتا هادرًا وعازما، يُنْطِقُ عُقابَ البحر، فيقترب من أذنها. أيحب جولييت، وكسائر الرجال، يشتهي "الأخرى"؟ يهمس لها نشوانَ أنه سيربي البنت معها.
- وجولييت؟
- ستربيها جولييت معنا. سنربيها على عشبٍ أزرقَ وحجرٍ ياقوتيّ، في الوقت الذي تكون فيه أرضنا بلا برد شديد ولا شمس شديدة، ولا تكون بلا ماء كثير ولا أحلام كثيرة، تكونُ للزنوجِ البيضِ جنة.
ابتسمت أسماء، وقالت إن تشيخوف قال: إذا كنت تخشى العزلة فلا تتزوج. بدوره ابتسم موسى، ونهض ليتأمل معها اغتراب الشمس. أحست بأنفاسه على عنقها، وعندما التفتت إليه، وجدته ينقط رغبة. ذهبا إلى الصخر والعشب وندى المساء، واتحد الجسدان الطائعان هذه المرة لجسديهما، وبندقية أسماء تومض على مقربة منهما أملاً ويأسا. حضر الولد الرديء، فابتسم له موسى، وقال لأسماء: إنه لمن الجنون أن يقعد عاقلا! كما يقول جنديٌّ يدندن أغنية بلجيكية: الضحية جِد جميلة والجريمة جِد مرحة! وكما يقول ولدٌ رديءٌ آخرُ يدندن أغنية فرنسية: فلتصرخ حقدك كقطٍ يُذبح!
أطعمهما الولد البرقاوي بعضَ برقوقٍ بريٍّ قطفه في الطريق، وقال لموسى يريد العودة إلى وقتٍ كان فيه طفلاً ويشاء الكِبَرَ حالا، هو بين يدي بندقية أسماء وبندقية أسماء بين يديه. فيما بعد، نعم، سيكون زمنه القادم إن لم يُكتب له النجاح، وكُتب له الفشل في كل ما يفعل. لكنهما بَدَوَا، هو وموسى، سعيدين، سعادة من كان دينيًا متطرفا، فأخافتهما سعادةٌ كانت لهما، ولم يمكثا في مكانهما حائرين طويلا، لأن الصغير ما لبث أن عرّض للخطر نفسه عندما راح يُهَرّبُ أطفالاً من خطر الجنود، ولأن الكبير جرى في وجوهِ خيّالةٍ متذمرين مستفزين، ونادى، فإذا بالخيول تقذفهم عن ظهورها، وتأتيه لتمسح عليه غرتها. فقال موسى للولد البرقاوي هذه خيول نجدية رباها على يديه لما كان في مثل سنه، وهي لم تنسه. لاحظ الصغير أن بعض عدم المضربين المترددين يجلسون على عتبات دكاكينهم، فسرق بضائعهم، تحت أبصارهم، وهرب. طارده التجار، ودعوا عليه، أن يعذبه الله عذاب الكافرين في الجحيم، العذاب الأقسى، حتى وصلوا إلى مظاهراتٍ وجدوا أنفسهم في صميم قلبها. أما ما سرقه اللص الصغير من بضائع، فما كان إلا لإطعامِ بعضٍ ممن لم يدفع لهم أحدٌ بعضَ دولار من تونس. وأما ما فعله موسى الكبير في بعض بغايا الحي أنه أعطاهن لأكل أولادهن قمحًا وعدسا، فلا يعاشرن جنودًا مكبوتين، ولا لصوصًا محترفين. وبينا كان الولد البرقاوي يجلس عاقلاً على رصيف، إذا بجنودٍ مدججين، يريدون القبض عليه بدون سبب من تلك الأسباب التي يئدون البعض لأجلها، فلم يرفع علمًا على سلك كهرباء، ولم يشعل إطارا، ويداه الاثنتان لم تكونا ملوثتين لا بأتربة ذهبية ولا بألوانٍ قزحية. احتج على الظلم: أتوقفونني وأنا لم أفعل شيئا؟ ونهض ظالمًا لما قذفَ فناجينَ قهوةِ أصحابِ الكوفيات، وشدَّ كوفياتِ أولئك الذين هبوا ليذبحوه ذبحا، فأعادهم أطفالاً يثأرون من كل الظلم المحيق بهم، ومن كل الفراغ، وليكتبوا الأسماء الصالحات على جدارٍ لبيت ساحور لا ينهدمُ ضريبةً لخدماتِ أسماكِ القروش التي هي تجويع الذئاب فلا تعوي، وعزل الوطاويط فلا تبغي، وإغلاق مخيمات الصراصير فلا تغلي غليان الماء والأفكار.
صف الجنديّ الملائكيّ الدميم شبان بيت ساحور صفًا طويلاً على جدارٍ من إسمنتٍ مسلح، وسمح لهم برفع أذرعهم الطويلة عليه، أذرع طويلة كانت تقصر للحظات، الوقت الذي تُخرج فيه للجنديّ الملائكيّ الدميم من الجيوب بطاقات التعريف، فيتعرف على وجوهٍ غريبةٍ عن وجوههم، رُغْمَ كل أسلحة العالم التي في حوزته، ويكون مرتعدا. وقال لها كوني قنيصتي، فصاح حاخامٌ غربيٌّ غريبٌ عن هنا في أمره معه، وصاحت روبيكا بعد أن ذكّرها الحاخام بوجوهٍ لهم، فقال لها اصمتي، إني أكثر يهودية منك! لكنها لم تصمت، وراحت تسعى في طلب الولد الشقيّ، الولد البرقاويّ، ذاك الولد الرديء. ولما أرادت دخول الأرض المحتلة، وقف الجنود في وجهها جدارًا يتهدم بالتدريج، وقالوا لها: حتى وإن جئت بموسى، فلن نأذن لك بالدخول! فجاءت بموسى الذي أدخلها دون أن يأخذ من أحدٍ إذنا، أخذها أولاً إلى ذراعي بُرْقَة، وبعد ذلك إلى ذراعي أسماء، وَعَرَّفَهَا عليها.


يتبع الفصل الثاني والثلاثون