مرة اخرى: السلطان عبد الحميد والبطولة الزائفة


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4431 - 2014 / 4 / 21 - 00:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بعيدا عن سياسة السلطان عبد الحميد المترددة تجاه الاستيطان اليهودي المتسارع في فلسطين خلال حقبة حكمه الطويل, من 1876 الى 1909, وحيث تضاعف عدد اليهود إلى ثلاثة اضعاف عن ما كانوه قبل حكمه, وبعيدا عن لقاءاته الخمسة مع تيودور هرتزل وإبقائه خطوط التواصل مع الزعيم الصهيوني مفتوحة وساخنة, بما كرس قناعات هذا الاخير بأن البواب الموارب الذي تركه السلطان له وللتوسع اليهودي في فلسطين هو في الواقع اعظم مما توقع, وبعيدا عن سياسات الإرتشاء التي اتبعها موظفوه في القدس وفلسطين ومرروا عبرها اراض فلسطينية كثيرة إلى المنظمات اليهودية, تخبرنا السيرة الحقيقية للسلطان عن فترة حكم بائسة اتصفت بإستبداد فردي وبسياسة خارجية نزقة ومترددة ومتخاذلة, لم يحافظ بسببها على الامبرطورية التي ورثها عن اجداده, بل سرع من انهيارها بشكل ادهش حتى اعداءه.
تسلم عبد الحميد الحكم سنة ١٨٧٦ من خلال مؤامرة تعاون فيها مع جماعة "العثمانيين الجدد" ضد شقيقه السلطان مراد الخامس. كان العثمانيون الجدد مع الاصلاح الدستوري والانتخابات البرلمانية وتعديل مسار الامبرطورية من الحكم الفردي إلى الحكم البرلماني, بأمل تفادي الإنهيار الذي بدأت ملامحه في الافق. بعد ان تسلم العرش بقليل بطش عبد الحميد بالجماعة العثمانية ونفى احد اهم رموزها, مدحت باشا, الذي كان قد عينه "الوزير الاكبر" بعيد نجاح المؤامرة على اخيه. وتحلل السلطان بعد ذلك من كل تعهداته والتزاماته بتبني دستور جديد واصلاحات برلمانية واحترام الارادة العامة, وعوضا عن ذلك كله انغلق على نفسه وأنشأ حكما استبداديا فرديا قائما على القهروالشك في الجميع. وعبر الحكم الفردي المطلق شل السلطان الجديد اية قوى داخل الامبرطورية تنبض بالتغيير ومحاولة الإنقاذ. وفضلا عن اتصافه بغرابة الاطوار, والإنطواء على نفسه, والشك في كل من هم حوله, فقد اتسم حكمه بالمركزية التامة. وعلى يديه تحول قصر يلدز حيث انتقل الى قلعة من الاف الحراس الذي لا هم لهم سوى ضمان عدم حدوث اي مؤامرة على السلطان, الذي كان يعتقد ان الجميع يتآمرون عليه في الداخل والخارج. وكان ان طلب من جميع حكام المناطق التجسس على كل المعارضين له ومراقبتهم عن كثب. ثم جاءته هدية تكنولوجية من حيث لا يحتسب وهي "التلغراف" والتي ما ان عرف فائدتها حتى عمم استخدامها في كل اراض الامبرطورية, وعبرها استطاع التحكم في كل امراء المناطق وجردهم عمليا من كل سلطاتهم المحلية. ويذكر المؤرخون كيف تحول الاختراع العلمي المبهر إلى أداة عززت من الإستبداد الحميدي وكرست المركزية المدمرة. ومن نافلة القول ان تبني الامبرطورية العثمانية للتلغراف كان ذو فوائد اخرى كثيرة, لكن من المثير للتهكم اعتبار ذلك احد فضائل السلطان ومن دون الالتفات الى الغرض الرئيسي خلف الخطوة برمتها, خاصة وانها تأتي من سلطان متشكك في كل ما هو جديد وتثير ريبته الاستخدامات الحديثة في السياسة والمعارضة.
والواقع ان دخول التلغراف في عهد السلطان عبد الحميد واستخدامه المكثف من قبل الادارة المركزية في متابعة شؤون الولايات يقوض احد الدفوعات المتكررة عن سياسة السلطان إزاء فلسطين وتسلل اراضيها الى المنظمات اليهودية. فهنا, يقول المدافعون ان ما كان يحدث في فلسطين كان يتم على ايد الولاة الفاسدين وبعيدا عن عيون السلطان ومراقبته وعلى الضد من سياسته. بيد ان ما يضعف هذه الحجة هو ان السلطان كان متابعا لأدق التفاصيل خاصة في فلسطين وتحديدا كل ما له علاقة بأراضيها. بل إن السلطان نفسه كان اكبر مالك لاراضي فلسطين وهي التي عرفت بإسم "الجفتلك", وقد اشترى تلك الاراضي من ملاكها الفلسطينين او تمت مصادرتها بسبب عدم قدرة اصحابها على دفع الضرائب. والكارثة الكبرى انه بعد انهيار الدولة العثمانية انتهت تلك الاراضي الى المنظمات اليهودية لأنه لم يكن لها مالك فلسطيني, وهذا موضوع يحتاج إلى مقالات مطولة خاصة به.
في العهد الحميدي تسارعت وتيرة انهيار الامبرطورية لأسباب لها علاقة بسياسته, ولأسباب سابقة على عهده ومتوارثة من عهود من سبقوه. لقد ورث عبد الحميد امبرطورية منهكة لكن كان حتى ذلك الوقت ثمة احتمالات للإنقاذ. بيد ان سياسته اكدت مسار الانهيار عوض ان تجترح مسارا للانقاذ. لم يستثمر عبد الحميد في اراضي وثروات الامبرطورية واراضيها ولم يحاول ان يعبء من الطاقات المشلولة عند شعوبها, بل استمر في سياسة من سبقه المعتمدة على فرض ضرائب هائلة على المزارعين واصحاب الملكيات بشكل دمر زراعتهم وانتاجهم. فضلا عن ذلك استمر في سياسة الاستدانة من الاوروبيين وتكبيل نفسه بشروطها, والتنازل تدريجيا عن سيادات استنابول على اراضيها هنا وهناك, وعن صناعة القرار ايضا. مما اضطره في نهاية المطاف إلى الموافقة على شروط الدائنين الاوروبيين وهي شروط جاءت على حساب السيادة العثمانية ذاتها.
وخضوعا لتلك الشروط وفي عام 1881 اصدر السلطان عبد الحميد "مرسوم محرم" والذي نص على تشكيل "مجلس الدين العام" وبالتنسيق مع الدائنين الاوروبيين (وعضويته من موظفين عثمانيين وممثلين اوروبيين). كانت المهمة الاساسية للمجلس هي ضمان سداد السلطنة لديونها بشكل منتظم, ومن ناحية واقعية سلم السلطان عبر ذلك المرسوم الشؤون المالية للسلطنة للاوروبيين. وحرص السلطان عندما اصدر المرسوم المذكور على ان يبدو المجلس وكأنه يقدم خدمات للسلطنة ولا ينتقص من سيادتها, على العكس تماما من جوهره العملي. فمنذ التوقيع على انشاء المجلس وقعت اقتصادات السلطنة عمليا تحت الوصاية الاوروبية والمستثمرين الاوروبيين. تشكل المجلس من ممثلي بنوك فرنسية وبريطانية والمانية وهنغارية وايطالية تحكموا بشكل مطلق بسياسات وقرارات المجلس, في الوقت الذي كان فيه ممثلو السلطنة لا يملكون حق التصويت على القرارات, بل مجرد ابداء الرأي. يذكرنا "مرسوم محرم" بتصريح السلطان لهرتزل عندما رفض ولفظيا اي صفقة يتنازل فيها عن فلسطين رسميا, بينما جوهر سياسته إزاء فلسطين كان تفريطيا وتخاذليا. نرى هنا الخيط المشترك في السياسة الحميدية وهي اتباع سياسة معينة على ارض الواقع تمليها الظروف والضغوط والإكراهات, بينما اصدار تصريحات لفظية قوية يكون هدفها تحسين صورة السلطان امام التاريخ ليس إلا.