السلطان عبد الحميد بين الحقيقة والايديولوجيا


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4424 - 2014 / 4 / 14 - 00:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

نشرتُ الاسبوع الماضي مقالة في صحيفة "الحياة" اللندنية حول كتاب جديد يتناول سياسة السلطان عبد الحميد الثاني إزاء فلسطين والحركة الصهيونية, وعنوان الكتاب "دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين" من تأليف الباحثة الاردنية فدوى نصيرات. تعرضت تلك المقالة وكاتبها, والكتاب ومؤلفته, لسيل لم ينقطع حتى الآن من التهم والشتائم التي تدور في مجملها حول "النوايا المشبوهة" خلف المقالة والكتاب لتدمير "قيم الامة ورموزها ودينها"! كيف تحول سلطان مستبد يختلط سجله بالنجاح والفشل إلى تجسيد كلاني ل "قيم الامة ودينها" هو الامر الذي يستحق التوقف عنده, وفضلا عن التأمل في نوعية التهم وما تعكسه من أدلجة فكرية وغبش عقلي وفقدان ثقة بالنفس, إضافة إلى خلط ما هو تأريخي بما هو سياسي وايديولوجي. لكن قبل ذلك من المفيد الإشارة السريعة إلى اهم ما يضيفه الكتاب المعني, وما يقدمه من كشف جديد.
يقدم الكتاب حقائق وقراءة تاريخية مبنية على سرد الوقائع التاريخية وتركيب الصورة الإجمالية التي احاطت بمواقف السلطان عبد الحميد من فلسطين, وخاصة وعلى وجه التحديد مسألة لقاءه مع تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية ورفضه بيع فلسطين مقابل المال اليهودي. الاطروحة الاساسية في الكتاب تقول ان السياسة المترددة والبراغماتية للسلطان عبد الحميد خلال حقبة حكمه الطويل, اكثر من ثلاثة عقود في نهاية القرن التاسع عشر وحتى عام ١٩٠٩, ادت عمليا وعلى الارض إلى تسرب فلسطين تدريجيا إلى المنظمات الصهيونية, رغم ان موقفه الرسمي واللفظي كان التشدد في المساومة على فلسطين. لا ينشغل الكتاب ولا مؤلفته في إطلاق اي وصف على السلطان او تخوينه او اتهامه بأن سياسته تلك كان لها اجندة سرية مثلاً, او انه تعاون مع المنظمات الصهيونية في الخفاء. بل على العكس يقر الكتاب ان الموقف الحقيقي والجوهري للسلطان كان عدم التساهل وعدم التفريط, لكن السياسة المطبقة على الارض افترقت واختلفت مع ذلك الموقف. يدلل الكتاب على ذلك التساهل عبر متابعة مسارات السياسة الحميدية "الواقعية" حيث اراد الابقاء على خطوط التواصل مفتوحة مع هرتزل والمنظمات الصهيونية بسبب نفوذهم العالمي والمالي آنذاك مما قد يفيد منه السلطان, هذا مع رفضه "الرسمي" لبيع فلسطين لهم. لكن حرص دوما على إظهار حسن النية وإبقاء الباب مواربا للهجرة اليهودية إلى فلسطين وعدم التشدد في تطبيق الفرمانات التي كان يصدرها هو شخصيا لتضييق تلك الهجرة. ونتيجة لتلك السياسة المترددة والمتناقضة تضاعف عدد اليهود في فلسطين خلال فترة حكمة إلى ثلاثة اضعاف ما كانوا عليه في بداية ذلك الحكم, فضلا عن قيام البنية التحتية الاستيطانية وبناء الشركات وإنشاء الجمعيات والتعاونيات وسوى ذلك. تفاصيل انتقال الارض إلى الشركات اليهودية مريرة وخاصة الجانب المتعلق بتفريط الإداريين العثمانيين في فلسطين, وخاصة منطقة القدس, وانتشارالسمسرة وقبول الرشاوى التي كانت تسخى بها المنظمات الصهيونية. كل ذلك كان يتم رغم الغضب والنقمة التي يبديها الفلسطينيون ويجهرون بالإعتراض إلى الباب العالي الذي لم يكن يسمعهم. وعلى سبيل المثال انتقلت الارض التي اقيمت عليها مستوطنة ريشون لتسيون في وسط فلسطين, جنوب شرق يافا, إلى ايدي المنظمات الصهيونية عبر تواطوء مكشوف ومؤرخ من قبل السلطات العثمانية سنة ١٨٨٢. فآنذاك عمدت السلطات العثمانية إلى مصادرة الارض من ملاكها الفلسطينين ثم عرضها للبيع بالمزاد العلني لعدم تمكن الملاك الاصليين من دفع الضرائب الهائلة المترتبة عليها, وقد اشترت الارض ست عائلات يهودية روسية مدعومة من منظمات صهيونية. ومن المعروف ان هذه المستعمرة شكلت احد اهم البنى الاستيطانية التحتية للمشروع الصهيوني, وهي الآن تعتبر رابع اكبر تجمع سكني في اسرائيل.
خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني التي زادت عن ثلاثة عقود (ما بين ١٨٧٦ و١٩٠٩) يخبرنا هذا الكتاب المهم: "السلطان عبد الحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين" للباحثة القديرة فدوى نصيرات والذي يفتح تاريخا جديداً للسلطان وسياسته تجاه المشروع الصهيوني, ان عدد اليهود في فلسطين تضاعف ثلاث مرات ووصلت نسبتهم سنة ١٩٠٨ إلى ١١٪ من عدد السكان. ونقرأ في الكتاب تفاصيل مثيرة عن الزيارات الخمس التي التقى فيها ثيودور هرتزل مع السلطان بين سنوات ١٨٩٦ و١٩٠٢ (إثنتان منها على نفقة السلطان نفسه), وماذا حدث فيها, ونلتقط بسرعة من خلال التفاصيل تردد السلطان وتساهله إزاء هرتزل, ومحاولته إستكشاف مدى صدقية الزعيم اليهودي وقدرته على الوفاء بوعوده المالية التي يخلعها للسلطان مقابل الحصول على "صك" يمنح فلسطين قانونيا لليهود. تبحر فدوى نصيرات في وسط امواج احداث تاريخية كثيفة وتلتقط مسار علاقة عبد الحميد بهرتزل لتصل بنا إلى السؤال الكبير التالي: إذا كان السلطان عبد الحميد قد رفض عرض هرتزل في لقائه الاول به سنة ١٨٩٦ والذي اعتاش تاريخيا على المقولة التي قيل انه رد بها بحزم (برفض بيع فلسطين مهما كان الثمن) على عرض هرتزل, فلماذا يلتقيه بعدها عدة مرات, ويستضيفه في استنابول وعلى نفقته الخاصة, ويأمر خاصته بالحرص على الإعتناء به ووفادته؟ الامر الاكثر مدعاة للدهشة والحيرة هو منح السلطان عبد الحميد وسام مرتبة القيادة المجيدية لثيودور هرتزل سنة ١٨٩٦ معبرا عن اعجابه به, مع العلم بأن السلطان كان قد اطلع كتاب الدولة اليهودية لهرتزل وقرأه ويعرف بشكل تام طموحات ومخططات هرتزل والحركة الصهيونية.
رغم كل تلك الحقائق الموثقة تاريخيا يأتي سيل التهم من انصار اغتيال العقل وتقديس الافراد وكأن نقد السلطان عبد الحميد هو نقد للدين نفسه. ليس هناك احد فوق النقد, والسلطان وكأي حاكم على وجه الارض مسلما كان ام غير مسلم, يتبع سياسات ينجح فيها او يفشل, ويوازن بين خيارات وضغوطات, ويحاول ان يناور على خصومه كي يستبق الاحداث عنهم, فأحيانا يصيب واحيانا لا يصيب, وكما له ان يتمتع بالإشادة في الحالة الاولى, فإن عليه ان يتحمل المسؤولية في الحالة الثانية. لم يوجه الكتاب, ولا المقالة المشار إليها في البداية, اية تهمة بالخيانة للسلطان عبد الحميد, لأن في هذا انجرار سقيم لمربعات الشتائمية التي لا تقدم في النقاش لكنها تؤخر في الفهم. بيد ان الكتاب والمقالة يتهمان السلطان بالتفريط والتردد والفشل في المناورات السياسية مع هرتزل والحركة الصهيونية, وهي مناورات سهلت في نهاية المطاف في ضياع فلسطين وتحقيق الحلم الصهيوني فيها.