الهند وديموقراطية موسيقارها العظيم بسم الله خان


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4402 - 2014 / 3 / 23 - 23:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في القلعة الحمراء في قلب دلهي التاريخية ويوم 18 آب 1947 رفع الشاب الموهوب بسم الله خان آلة الشيهاني, او مزمار الموسيقى التقليدية, بإتجاه السماء وعزف امام الألوف المحتشدة الحان الفخر بإستقلال الهند. كان يعزف بإسم الكون المبتهج بتحرر الهند التي كانت تاج الامبرطورية التي لم تغرب عنها الشمس. كان بسم الله في اوائل الثلاثين من عمره ينفخ في الآلة بكل جذل, وحوله كبار قادة النضال ضد الكولونيالية البريطانية المديدة في شبه القارة الهندية, وينقل بأنغامه تلك اللحظة الفارقة إلى كل ملوك وامراء وسلاطين وشعوب الهند في الوف السنين التي مضت. بعد ذلك اليوم التاريخي ظل بسم الله يعزف طيلة ستين عاماً, باعثا في تلك الآلة الموسيقية الضاربة في تاريخ البلد العريق, القيامة والحياة لتحتل قلب موسيقات الحداثة وآلاتها المعقدة في هند القرن العشرين وما تلاه. ورث بسم الله آلة الشيهاني عن والده وعائلته حيث عزف اجداده تلك الموسيقى في بلاط امراء ولايات الهند الشمالية. اختلف الهنود كثيرا بإختلاف إثنياتهم وطوائفهم الدينية واحزابهم السياسية, لكنهم توحدوا عند الحان هذه الموسيقى الغامضة. عندما تصدح شيهاني بسم الله خان في اجوائهم تسكت خلافاتهم ويطرقون السمع لها ويدندون معها. في حضارة ضاربة في عوالم الروحيات والاسرار والغموض والآلهة الكثيرة كانت مهمة مزمار الموسيقار سهلة, بثقة وعلى مهل تطيح ببشاعات السياسة والانتهازية والفساد والمؤمرات وما ينتمي إلى كل ذلك. وعندما توقف رئتا الاستاز بسم الله خان عن نسج هواء مدن الهند بأنغام آلته السحرية عام 2006, لم يختلف إثنان على ضرورة ان ترافقه تلك الآلة المخلصة الى القبر. حضنها في الممات كما حضنها في الحياة, لكن رموزها وموسيقاها بقيت خالدة وراءه, تزنرها كلمات لا تموت: "ينتهي العالم, لكن الموسيقى لا تنتهي".
وبسبب ذلك الجبروت الحريري الخفي الذي خلفه الاستاز وموسيقاه يؤم قبره اليوم, على ضفاف نهر غانغا في فاراناسي المدينة المقدسة في شمال الهند, قادة الاحزاب السياسية المتنافسين, من اليمين إلى اليسار. كلهم يود خطب مودة صاحب القبر, متأملا ان يحظى بدعم ملايين عشاقه. ليست حالة فريدة ان يتوسل السياسيون ومرشحو الانتخابات رموز الفن والموسيقى آملين في توسيع دوائر التأييد. لكن ذلك لا يقلل من رهبة مشهد الخضوع الإرادي والإجباري للسياسة واصحابها الباطشين امام رهافة انغام المزمار الراقد إلى جانب صاحبه في المقام المبجل. ليس هذا فحسب, فالموسيقار الاسطورة يأتيه قادة الاحزاب الهندوسية والليبرالية والعلمانية والاسلامية وكل اصحاب الديانات, وهو متألق فوق الاختلافات, لا ينتسب لأي منها, يوحدها لما كان شاباً يتقافز وراء المزمار يوم الاستقلال في القلعة الحمراء, وظل يوحدها وهو يجتاز عتبة تسعينات العمر حاصدا ارفع اوسمة التقدير.
في الشهر القادم تشهد الهند وهي اكبر ديموقراطية في العالم الانتخابات العامة, وهو حدث كوني إلى حد كبير. ففي هذا البلد الذي تجاوز عدد سكانه المليار ومائة مليون سيتوجه اكثر من ثمانمائة مليون إنسان إلى صناديق الاقتراع, في عملية تستمر اكثر من شهر. يحدث هذا في بلد شاسع المساحة ومهول السكان, وحيث إرادة مؤسسي الهند الحديثة زرعت طاقة متجددة في هذا البلد تحارب كل صنوف الفشل. فهنا تتجمع كل تناقضات البشر وتتوفر كل المسوغات والتبريرات من اجل القيام بأي شيء او خيار ممكن التفكير فيه: الفقر المدقع يجب ان تتم معالجته قبل إحلال الديموقراطية, مثلا, او نحتاج إلى دولة بوليسية كي تضبط هذا الإنفلات الإثني والطائفي وتبقي الامور تحت السيطرة, او لا بد من سيطرة طائفة أو إثنية قوية معينة على البلد وإلا تفتت وتقسم إلى أجزاء, وغير ذلك كثير. لكن الحكاية الهندية الغريبة والمدهشة كتبت سرديتها الذاتية بنفسها. نقضت مقولة ضرورة التمهيد للديموقراطية بتقوية الطبقة الوسطى ورفع مستويات المعيشة إلى حدود معقولة, وقوضت فكرة الدولة البوليسية التي انتشرت في الجوار الهندي (الصيني على وجه التحديد), ثم كشفت هشاشة النظرية الخلدونية في ضرورة وجود عصبية ما تمثل العمود الفقري للدولة, خاصة في الزمن الحديث وفي بلدان التعدديات الاثنية والدينية والطائفية.
ربما ما كان للهند أن تؤول إلى ما آلت إليه اليوم إلا لما اشترطه تاريخها الغني والفريد وتجربتها العريضة والقديمة في التعددية والتعايش والتسامح وبناء الممالك وتداعيها. وفيها ايضا وانصياعاً لشرطها التاريخي والتعددي نسج المسلمون خلال حقبة سلاطين المغول حالة فريدة من الحكم. فإزاء عمق التنوع وتجذره لم يكن من خيار أمام سلالة تيمورلنك وقادته الذين اتسموا في جيلهم الاول بالقسوة والخشونة والبطش إلا ان يتحولوا إلى قادة يتصفون بالحلم والأناة وسعة الصدر. فمع السلطان المؤسس بابر, في مطلع القرن السادس عشر, تأسست دولة قوية ومتماسكة وهي التي ترسخت في زمن ابنه همايون. بيد ان اوجها وعظمتها الحقيقية كانت على ايدي حفيده السلطان جلال الدين اكبر الذي تخطت نجاحاته النطاق العسكري والجغرافي الافقي الذي وسع به الامبرطورية, إلى ما هو اهم وهو التجذر العمودي في بناء دولة ومجتمع يقومان على ما يقرب من مفهوم المواطنة, وبعيدا عن اية عصبية. اكبر شاه, الحاكم المسلم, انفتح على كل المكونات المجتمعية والطائفية والاثنية في الهند وعاملها سواسية وبعدل فشعر الجميع بأنهم ينتمون إلى "مجتمع ودولة" واحدة تمثلهم وتعدل بينهم. ولأنه, وابوه واجداده من قبله, تزوجوا من الطوائف كلها لترسيخ عمومية وشمولية ملكهم وعدم انحيازه لطائفة معينة فإن "المكون الهندي" في دمائهم ودماء ابنائهم ظل يكبر, مما اشعر السكان الاصليين بأن هؤلاء الحكام هم من صلبهم. ضم جلال الدين اكبر إلى النخبة العليا من مستشاريه ووزرائه ودائرة صناع القرار في دولته هندوسا ومسلمين وبوذيين ولا دينيين وسيخا مؤكدا بالممارسة وليس فقط بالعبارة والكلمات على حيادية الدولة تجاه الدين وعلى رعايتها لهم جميعاً. وبخلاف الفاتحين الاوائل من المسلمين فقد الغى الجزية عن غير المسلمين والغى الضرائب التي كان يفرضها بعض الحكام على حجيج الهندوس وغيرهم. لقد أسس جلال الدين اكبر لمبدأ المواطنة والتعايش في الهند بحيث اصبح من المستحيل على هذا البلد الكبير وبشره المليوني ان يعيش من دون إقرار بالآخر, واعتراف به, وعدم الوقوع في أسر الطائفة والإثنية, بل تجاوز ذلك إلى افق اكثر انسانية ورحابة, تماما كما فعل بسم الله خان ايام حياته, وكما يفعل اليوم من قبره وممثلو اليمين الهندوسي من حزب بهاراتيا جاناتا يقفون إلى جانب ممثلي حزب المؤتمر وغيره من الاحزاب فوق شاهد قبره بصمت واحترام!