وصول غودو القسم الثاني نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4375 - 2014 / 2 / 24 - 14:18
المحور: الادب والفن     


كان القنّب الهنديّ في كل مكان، في الحديقة، في الأصص، على النوافذ، على جانبي الباب الخارجي، كان يملأ الفضاء اخضرارًا بتعاريق أوراقه، وكان بظلاله يغطي السماء، ومن الغيم يصنع فساتين للنجوم.
- أين أنتِ، يا عدن؟ سألت الأم بصوتها النديّ.
لم تجب الصغيرة عدن التي كانت تلعب بين التشعبات الخضراء، وهي لا تريد العودة إلى الدار، الأكل يمكن أن ينتظر، وهي ليست بعد جائعة.
- عدن...
حملت الصغيرة عدن البربيج، وفتحت الحنفية. راحت تُسقي نبتةً أمُّها النداوة وروحُها الخَضْب.
- عدن، اقطعي لي بعض الأعواد للسلطة.
- أنا أسقيها، ماما، صاحت الصغيرة عدن من مكانها.
- بعض الأعواد.
- حاضر.
- حالاً.
- حاضر، ماما.
أغلقت الصغيرة عدن الحنفية، ووضعت البربيج، وبدأت تقطع أعواد القنّب الهنديّ. لاكت ورقة بينما هي تواصل القطع، فثانية، فثالثة.
- عدن...
- أنا أقطع، ماما.
- عجلي.
- أخاف أن أفسدها، ماما.
- هذا ضاغط لي.
- هذا ضاغط لها.
- أن يكون ضاغطًا لها شيء جيد، ليس لي، ولتكن الأوراق صغيرة.
- لتكن الأوراق صغيرة، ماما؟
- وكأنك لا تعرفين!
- حاضر، ماما.
- عجلي إذن.
جاء سرب من الفراشات الزرقاء، فألقت الصغيرة عدن ما قطعت، ولحقت بكائنات عالمها الأخضر. أخضر من الأسود عالمها، وأكبر من أكبر حلم. الشجر، طيور الخُضَيْر، الأقواس الإفريقية. جسدها العاري تحت الشمس. أسود من الأبيض جسدها، وأصغر من أصغر قارة. الطفولة، نهار الليل، الحلمات الخجولة. لعبت معها على الرمل، وغنّت معها: نحن الطبيعة / الرمل أزرق / نحن الوجود / العدم أزرق / نحن اللهب / الكلأ أزرق / نحن البحر/ الموج أخضر...

* * *

وجدت الفتاة السوداء نفسها وحدها على أرض الجحيم، فراحت تتفقد جسدها إذا ما كانت النار قد التهمته، وكان جسدها على ما هو عليه، في كامل صنعه. لم تكن هناك نار، ولم تكن هناك شياطين. كانت هناك السهول، وكانت هناك المياه. لكن ما لفت نظرها لون الكلأ الذي كان أزرق، ولون السماء الذي كان أخضر. لم تفكر طوال حياتها في هذا أبدًا، أن يكون لون الكلأ أزرق، ولون السماء أخضر. فكرت طوال حياتها أن في الجحيم النار، لا شيء غير النار، وأن في النار الشياطين، لا أحد غير الشياطين. أمها أيضًا كانت تفكر مثلها، وجدتها، وأم جدتها، وأم أم جدتها، وأم أم أم جدتها، حواء. كانت تلك صورة العدم المتغلغلة في كينونتها، بينما العدم شيء حي ككل الأشياء. ما يختلف لون الأشياء فيه. وليس هذا فقط. نظرة المرء إلى الأشياء. ابتسمت الفتاة السوداء، وهي تتأمل عالم الجحيم على حقيقته. كان للونيه وقع السحر عليها، في انعكاسهما وفي عكس ما اعتادت عليه. ماهية جديدة لم تبحث عنها يومًا، لأنها بالنسبة لها لم تكن موجودة. كانت ممحوة، كسماء لا غيوم فيها، كبحر لا أسماك فيه، كفضاء لا كواكب فيه. كانت مواراة، كثدي تحت فستان، كبطن في الماء، كساق أخفته القبلات. هذا الوجود لم يكن منسيًا، كان النسيان.
لتثبت جدارتها على العيش، كان على الفتاة السوداء أن تعيش. ولتعيش، كان عليها أن تستكشف. ولتستكشف، كان عليها أن تجد لا أن توجد، فهي موجودة، وما يَهُمُّ في وضعها الحالي ليس كونها موجودة، وإنما الوجود.
وبينما هي تفكر فيما تصطدم به مباشرة على أرض الجحيم، سقط عليها صوت الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر:
- إنها القواعد التي تكوّن الشكل.
- ليست تلك التي تستكين بنا إلى الهوان على أي حال، أجابت الفتاة السوداء.
- على أرض الجحيم لا مكان للهوان، أكد الرجل ذو شعر الرماد ووجه الغضون.
- على أرض الجحيم الكينونة ليست الكينونة.
- وكيف يكون للدينار نِفاس؟
- لا أهمية لشيء آخر غيرها.
- لأنها مسألتها لا مسألتنا.
- لأنها مسألتها ومسألتنا.
أخذها من ظهرها، وراح يزرع عنقها قُبُلاً.
- توقف، توقف، رددت الفتاة السوداء، وهي تقهقه.
- نحن نتكايف ليس غير، وإلا كيف تريدين أن تكون أرض الجحيم مسألتنا؟
- توقف، توقف.
- وداعًا ما كنا، أهلاً ما سنكون.
- وداعًا يا أفكارنا، أهلاً يا أفعالنا.
- فليحاول أي واحد فينا.
- توقف، توقف.
تركها الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر، وذهب ليستلقي على طرف من العشب الأزرق.
- هلا استلقيت إلى جانبي لنقوم بفعل الحب؟ خَتَرَ الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه.
- لا، رفضت الفتاة السوداء.
- لِمَ هذه اللا القاطعة؟
- لم تزل تطاردني فكرتي عن الجحيم لهبًا وشياطين.
- هكذا هم المعذبون على الأرض، تطاردهم فكرتهم عن الجحيم حتى في الجحيم، والجحيم كما ترين عشب أزرق وفضاء أخضر، لهذا هم يقاسون الأَلْواء واللأْوَى.
- لكل زمان لِبْسَة.
- ولكني أشتهيك، وأريد أن أضاجعك.
- لست عاهرة ملبيةً طلبَ الزبائن.
- هنا ما معنى أن تكوني عاهرة؟ هنا الكينونة لا تختفي وراء الكائن.
- ها هو يلت ويعجن في المسألة.
- أُلَبِّقُ الكلام؟
- سأُلجئ أمري إلى الله.
- هنا ما معنى أن يكون الله؟ هنا كل الأفكار عنه ماتت، هنا الله لا يكون كما لم يكن أبدًا هناك.
- هنا الكائن يختفي وراء الكينونة.
- لا كائن هناك غير الكينونة التي نحن جزء منها.
- ها هو لا يتردد لحظة عين عن قول ما يعتقد.
- أقول ما أعتقد؟
- أريد القول...
- في الجحيم ليس هناك ما نعتقد، إلا إذا كانت الحقيقة اعتقادًا.
- ها هو يحل عُقَدَ مسرحيةٍ معقدةٍ بعمرِ الكون.
استلقت الفتاة السوداء إلى جانبه، فانحنى عليها، وراح يكشف عن ثدييها، ويرفع عن ساقيها، وأصابعه تذهب إلى الكلأ الأزرق مداعبة إياه.
- يلذ لي أن ألمس ثدييك، ساقيك، بطنك، خصرك، كل جسدك، دون ملذة آثمة، لا مكان للإثم في هذا المكان، وكل ما هو هنا يعطيك ما يلزَمُك، ليس أكثر من اللازم، وليس أقله. الملذة كاملة، لازمة. غير الكامل، غير اللازم، في حضن الأزرق، لا وجود لهما. هذا البحر الذي ننام فيه، والذي ليس بحرًا كباقي البحار، هو السبب في إلغاء الناقص والباطل. أنا الكائن منه، وتلك النجمة السوداء في السماء الخضراء، هي الكائن منها. نحن نجوم سوداء، كلنا كيانات، سوداء، بلا أصل، أنت بلا أصل، ونحن بلا أصل مثلك.
- هذا لا يُلزم بشيء.
- تتلاشى الأوهام، كالصور المتلاشية تتلاشى، ولا يبقى سوى حضورنا.
- خذني، رجت لاهثة، بالله عليك أن تأخذني.
- تظنين نفسك على الأرض، فما مكان الله في رجائك؟
- خذني، يا دين الرب!
ألقته فوقها، وهي تبعد ساقيها إلى أقصاهما، داقة إياه بينهما، صارخة، خادشة، عاضضة، مرددة: يا دين الرب! يا دين الرب! إلى أن ظفرت بما تبغي. ترامى كل منهما على طرف، وبقيا هكذا شبه غائبين، وأصداء العناق تلفهما. بعد قليل، أحاطت بهما أربع أقدام لبطن ونصفين أعليين.
- من أنتما؟ صاح الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر والفتاة السوداء بصوت واحد.
- نحن النسيان، أجاب السيامان بصوت واحد يملأ أرض الجحيم بالأصداء.
كان ذلك كما لو خرجت السيارة عن الطريق فجأة.
- لستما ملزمين بكونه، قال الرجلُ السكنيُّ بالعصرِ شعرُهُ المحروثُ بالزمنِ وجهُهُ كما لو كان يريد القول لا رهبنة في الإسلام.
- الأمور مرهونة بأوقاتها، قال السياميان، والرجل الحكيم يرنو إلى حديثهما. لم يستطع العلم فصلنا عن بعضنا، ثم نسينا العلماء، لم تستطع التكنولوجيا فرزنا عن بعضنا، ثم نسينا التكنولوجيون، لم يستطع الشعر شقنا عن بعضنا، ثم نسينا الشعراء. هنا يكمن الداء! هذا الكائن الميتافيزيقي الذي هو نحن كان يأس الفلاسفة بعد أن تلاشى أملهم الأخير، ثم تلاشى أملنا: آه! ما أجملنا ونحن جسدًا في جسدين. آه! ما أروعنا وفي حضننا جسدين. آه! ما أكملنا جسدين بين أجساد. كنا طبيعتنا المسيخة، خطأً طبيعيًا، سهوًا طبيعيًا، وانتظرنا من الطبيعة أن تصحح خطأها. انتظرنا، انتظرنا، انتظرنا.
- تلاشت الأصداء، همهمت الفتاة السوداء.
- انتظرنا، انتظرنا، انتظرنا.
- التلاشي، عادت الفتاة السوداء إلى الهمهمة.
- انتظرنا، انتظرنا، انتظرنا.
- تلاشي الأشياء ونحن فيها، همهمت ابنة أفريقيا بلهجة حيادية.
- ثم لم نعد ننتظر، ختم السياميان ودمعة حرّى تسيل من عينيهما.
- تتلاشى الأشياء فنتلاشى، أوضح صاحب الوجه المتغضن والشعر الأرمد، فلا نهرب منها أو نتوارى عنها.
- فلا نهرب منا ولا نتوارى عنا، رد السياميان.
- الأمر واحد في الجحيم.
- والحقيقة؟
- واحدة.
- هل سيذكرنا أحد يومًا؟
- وما الفائدة؟
- لنخلص.
- وما الفائدة؟
- لنكون.
- وما الفائدة؟
- لنخرج من جلد السياميين، ونكون كالآخرين.
- وما الفائدة؟
- لئلا نصبح للنسيان تاريخًا.
- وما الفائدة؟
- لئلا نصبح للتاريخ نسيانًا.
- وما الفائدة؟
- لئلا نصبح التاريخ والنسيان.
- وما الفائدة؟
صمت الشابان المِسْخان حائرين، فمدت الفتاة السوداء إليهما ذراعيها. أجلستهما بين ساقيها، وأعطت لكل منهما ثديًا.
- لتتلاعب بكما الأهواء، همس الرجل ذو وجه الغضون وشعر الرماد.
عندئذ، حضر القرصان، وهو يسحب خادمه بحبله، وخادمه يحمل حقائبه الكثيرة دون أن تبين له قامة أو وجه.
- ألهذا البحر أرض ترشدوننا إليها؟ سألهم القرصان، وهو ينظر في كل الاتجاهات.
- هذا البحر أرض لا أرض لها، أجاب الرجل الحكيم.
- غريب! همهم القرصان الذي لا يُفتات عليه بشيء، لم أر بحرًا في حياتي أشبه به بحرًا.
- كيف كانت البحار الأخرى؟
- بشواطئ، كانت بشواطئ، وكانت السفن في كل مكان. أليس كذلك، أيها الحوت؟ قال لخادمه، وساطه بسوطه، وخادمه يهز رأسه مؤكدًا متوجعًا. هنا لا توجد سفينة واحدة. ضاعت السفن، وضاع البحارة. هل أنتم بحارة؟ ولم ينتظر جوابًا. لستم بحارة. انسحب البحارة مع انسحاب الموج، لم يبق منهم كائن واحد. كل ما رأيت، أرانب تهرب في كل الاتجاهات، بيضاء بلون الجحيم. الجحيم الآخر. أليس كذلك، أيها الحوت؟ قال لخادمه، وساطه، وخادمه يهز رأسه تحت ثقل ما يحمل مؤكدًا متوجعًا. هذه لغته الطبيعية، لا أحد يفهمها سواه. لغة حوت. إذن لا أرض لهذا البحر.
نظر القرصان إلى السياميين بعين الالتفات، وقال:
- لم أر في حياتي سمكًا من هذا النوع. أليس كذلك، أيها الحوت؟ قال لخادمه الذي اندفع إلى الوراء ليتفادى سوط سيده، وسيده لا يحرك يدًا، وأسقط كل ما يحمل. خذ، خذ، خذ، هذا جزاء من لا يحسن حمل تاريخ سيده على ظهره، نبر، وقد راح به ضربًا وركلاً. إنه لا يحسن حمل أي تاريخ، هذا الحوت، حتى تاريخ نفسه، فالحيتان أخف عليهم أن يكونوا بلا تاريخ، ليس مثلنا. وتلك المرأة السوداء، هل هي حوتك؟ غابك؟ زوجك؟ توجه بالسؤال إلى الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه دون أن يدعه يجيب. اليوم الزوجات عاهرات للأسماك، إنه آخر زمن.
- النساء في الجحيم لسن زوجات ولسن عاهرات، ألقى الرجل العاقل الغير الزمنيّ.
- الجحيم أينه؟
- أين تضع قدمك.
- البحر.
- البحر في الجحيم جحيم.
- الآن فهمت بعد كل هذا الإبحار طوال آلاف الأعوام ولم أجد اليابسة، أليس كذلك، أيها الحوت؟
اختطف الخادم السوط من يد سيده، وساط نفسه، إلى أن أدماها، ثم أعاد السوط إلى سيده.
- نِعْمَ الحوت! نِعْمَ الحوت! ردد القرصان، وهو ينظر إلى الفتاة السوداء، فألفاها تنهض.
أخذت الخادم من يده، وضغطت جراحه على ثديها، فصاح القرصان، وهو يجذب مرؤوسه، غاضبًا:
- هذا الشيء لا يستحق أقل عطف!
- هذا الحوت، صححت الفتاة السوداء.
- هذا القضيب، يا قفاي!
- كلنا بنوه.
- بنو ساقط بنو ماقط بنو لاقط.
- كان ذلك في البدء، تدخل الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه، وهو ينظر إلى الشمس السوداء في رَأْدِ الضحى.
- الشاب المغفل الذي هو، نحن كلنا، أبناء القحبة بنوه! سخر القرصان.
- ثم كانت الملذات، أضاف الرجل الحكيم، الملذات الفانية.
- بمقابل، تابع رجل البحر، الملذات بمقابل، وغير الملذات بمقابل، كل شيء بمقابل، هذا هو قانون الذين أبوهم حوت قفاي!
- هل تعرف من نحن، يا أبانا الصغير؟ سأل الأخوان السياميان الخادم.
أمام أمارات الحيرة على وجهه، قالا تعسين:
- نَسِيَنا الكل حتى هذا القذر، أبونا!
- ماذا قلتُ؟ قهقه القرصان، لا تاريخ للحيتان، لا ماض ولا حاضر ولا ماخور، يكفيها ثقل أجسادها الرازحة تحته!
- اتفقت الآراء واختلفت، أكد الرجل الحكيم.
- حول قفاي! طن القرصان، وعاد يقهقه.
سكت فجأة، وراح يهمهم ضائعًا:
- الأرض! اليابسة!
والسياميان يتراءان في مرآته.
- سنذهب معك للبحث عن الأرض، قالا للقرصان، وهما يتقاسمان حمل الحقائب مع الخادم.
- مقابل ماذا؟
- مقابل لا شيء.
- تريدان أن تلقيا بنفسكما في الماء.
- نريد أن نلقي بنفسنا في المغامرة.
وهم هناك في أقصى أطراف الجحيم، نظرت الفتاة السوداء إليهم، وقالت:
- علينا أن نبحث نحن أيضًا.
- وما الفائدة؟ تساءل الرجل الحكيم، وهو ينظر إلى وجه الإفريقية الأسود، جِد الأسود، فيراه أبيض، ويهمس لنفسه: الوجه مرآة النفس.
- لتكون للكينونة معنى.
- وما الفائدة؟
- لتكون للكينونة معنى، يا دين الرب!
- وما الفائدة؟
- لتكون للكينونة معنى الكائن الأعلى.
- ماذا قلنا؟
- اليد العليا، العاطية.
- أُفَضِّلُ هذا.
- اليد السفلى، الآخذة.
- هذا أَفْضَلُ.
- اليد العليا واليد السفلى.
- المعنى على أكمل وجه.
- المعاني، مُتَع الحياة.
- مُتَع العقل.
- العقل والآخرة.
- الحياة والدنيا.
- متاع الغرور.
- متاع الصدق.
اهتزت أرض الجحيم بصورة مدوخة، اهتزاز البراكين قبل أن تتفجر، وبدأت تظهر بين الانعكاسات الزرقاء سيقان تعدو لرهط من سود الذئاب، أنيابها أنياب الشياطين، يسيل اللعاب منها. دارت بالفتاة السوداء، فمسحت لها أفواهها، وهدّأتها. ماءت كالقطط بين يديها، وأسبلت كالغزالات جفنيها. قضمت العشب الأزرق، ولاكته قرفة، ثم قاءته، وهي تتضور جوعًا. لم تَسْعَ في أرض الجحيم فسادًا، ككل من هم على أرض الجحيم، وها هي ذي تسعى إلى حتفها. كشفت الفتاة السوداء ثدييها، وقدمتهما لها، فترددت لَواحِمُ الجحيم. لعقتهما لعقًا خفيفًا، وهي تموء وتسبل جفنيها، ولم تتأخر عن الاستعار، والفتاة السوداء في منتهى الهناءة. تفجرت البراكين، وسالت الحُمم كالأنهار، حُمم زرقاء، وحُمم سوداء، وحُمم بيضاء، وحُمم حمراء، وحُمم سمراء، وحُمم صفراء، والفتاة السوداء تشد الذئاب إلى صدرها بقوة وحنان، وكأن الذئاب أبناؤها. احترق العشب، وغدا أزرقه أسود. وصل اللهب إلى السماء، وغدا أخضرها الهلاك. غادر سكان الكهوف أماكنهم، وارتدوا أثواب النار، قرونًا بعد سكوت ريحهم. أسكرتهم صفوف المعذبين، وسلبت لُبَّهم. سلخوا كثيرًا من وقتهم في التفنن الجحيميّ، حرق الأهداب، حرق الشفاه، حرق الحلمات، حرق الغابات، حرق الأقدام، ولتهدئة الخواطر، حرق الجسد برمته كحقل من قمح الذنوب، كبحر من موج الخطايا، كغاب من شُقْر الخيانة. أنا أخون، فأنا إذن أكون. أقاتل روتين كل يوم، تفاحة ما بعد الظهر، قُبُلات الزوج. أحرر ثديي من أسنانه، فخذيّ من مخالبه، فرجي من حياتي معه في باستيله. جنته الباستيل، وجحيمي الحرية. عدم الإخلاص عدم الحرمان. في الأزقة المؤدية إلى محطة الشمال. أقداح النبيذ. قبلات الرصيف. باقات الظلال. سأحبك حب النار للحلمات، وسأكون لغيرك، هذه هي حريتي، حرية ذئبة. سأخون الإخلاص لأني إنسانة، ثم سأخلص للخيانة لأني قبلات فرويد. أحلامه وأنا معه في فراش أمه، فأنا أمه وعاهرته اللتان لم تكونا له، زوجته وذئبته، ابنته وعشيقته. الشمس في الصيف ذَهَبُنا، والقمر في الشتاء ماسُنا. مباهج العقل لنا مباهج الإحساس. أنا طالبة اللذة طالبة الهوية. الجحيم مملكتي، حريتي، إخلاص الشياطين لي.

* * *

لم تكن عدن تتوقع أن يطلب منها سكرتير السيد ريمون الانتظار، كانت المرة الأولى منذ ستة شهور في عملها "كمحاسبة" بالمعنى الذي أقنعت فيه نفسها، وهو على كل حال لقب الشرف الذي كان مستخدمو الفندق الخاص يستعملونه عند الحديث عنها، منذ الساعة التي تصفُّ فيها سيارتها الأوستن السوداء على عتبة الباب الفخم الداخلي المصنوع من خشب كرز الطير حتى تأخذ الأموال الموضوعة في حقيبة يد نسائية، وتغادر البوابة الخارجية التي تُفتح وتُغلق بشكل أوتوماتيكي تحت أعين كاميرات المراقبة.
- السيد ريمون يريد التكلم معك، قال السكرتير الأنيق بهيئة صارمة، وهو يصب لها قدح ويسكي.
- والحقيبة؟ استفسرت عدن قلقة، هل الحقيبة جاهزة؟
- الحقيبة جاهزة.
- أينها؟
- مع السيد ريمون.
- لماذا؟
- …
- أجب، لماذا؟
- بثلج أم بدون ثلج؟
- بدون ثلج.
قدم إليها القدح، بهيئة صارمة دومًا، وغادر الصالون.
تناولت عدن جرعة من الويسكي اللذيذ، وتهادت بكامل حسنها وبهائها حتى القنينة، لتعرف الماركة. تناولت جرعة ثانية، وللتمتع الذي أحست به، ملأت قدحها حتى الحافة، وجرعت منه برغبة نهمة. ذهبت بنظرها إلى كل زاوية من زوايا الصالون الفخم، وابتسمت لأشيائه، للثروة، للمجد، لبيكاسو، لفينوس، للمخمل، للحرير، لكؤوس الزهر، للأقاقيا، لأحذية القمر، لغرافاتات الشمس، وأرسلت الزفرات. جرعت قدحها حتى منتصفه، وتهادت بقامة الغزال التي لها حتى النافذة لتلقي نظرة طويلة على الحديقة. كان الربيع، وكل شيء أسود أخضر. فتحت النافذة لتسمع صداح البلابل، فوصلها مع الصداح صوت أمها: عدن... همست: ماما! وصوت أمها من جديد: عدن، اقطعي لي بعض الأعواد للسلطة. أنا أسقيها، ماما. بعض الأعواد. طيب. حالاً. طيب، ماما.
- أنا مثلك، قال السيد ريمون من ورائها، أفتح النافذة لأسمع صداح البلابل.
- أوه! معذرة، سارعت عدن إلى القول، وهي تستدير، وتجرع كل ما بقي في قدحها. سأغلقها.
- اتركيها على حالها.
صب صاحب الفندق الخاص لنفسه بعض الويسكي، وتقدم بالقنينة من عدن، وعاد يملأ نصف قدحها. خلصته القنينة، وصبت حتى الحافة، ثم أخذت مجلسًا على الكنبة الوثيرة، وهي تضع القنينة على الطاولة الصغيرة، وتمد ساقيها الجهنميتين إلى أبعد حد، ساقيها الحارقتين، ساقيها الخالقتين، ساقيها الإلهيتين، الشيطانيتين، المدمرتين، المبيدتين.
- الحقيبة... جاهزة؟ همهمت عدن ثملة.
- جاهزة، أجاب السيد ريمون، وهو يأخذ مكانًا إلى جانبها عاصفةً من الشانيل.
- أينها؟
- هناك.
- هناك أين؟
- هناك.
- سيد ريمون، تلعثمت عدن، وهي تنحني على صدر الرجل القوي، وتشمه، كل نييي سير سين تَضَجّ برائحة السيد ريمون، ما هي؟
- شانيل، رد السيد ريمون، وهو يجرع كأسه دفعة واحدة.
- أَيُّها؟
- أنتِ.
انقضت عدن على فم الرجل القوي تاركة قدحها يتحطم بما فيه، وما لبثت أن سقطت على الأرض وإياه، وهما في عناق عنيف بدأته ساحرة أفريقيا، وأنهاه شيئًا فشيئًا سيد نييي سير سين. مزقها بمخالبه تمزيق المخمل والحرير، وهي تصرخ صراخ القانطين والهالكين، وقطع حلمتها بأسنانه قطع اللحم المشويّ، باكورة ناره، فأغمي عليها. كانت طريقته في ركوب الأهوال والأخطار، وكخاتمة بعد أن أدخل فيها عنق القنينة اخترقها صارخًا كمن مسه الشيطان.
عندما عادت عدن إلى نفسها، وهي في أتعس حالاتها، وجدت حقيبة يد سوداء إلى جانبها، ولا أحد غير حقيبة اليد السوداء. كانت بينهما خطى يسيرة، وكانت لهما خطوات الشيطان. لا، لا يمكن استدراك كل شيء! في زهرة العمر، لا يمكن استدراك كل شيء! أخلفت موعدها مع تمثال دانتون، ولم تعطه قبلاتها. فتحت الحقيبة السوداء على أكداس من اليوروهات، وانفجرت باكية. حملتها، وبقدم ثقيلة غادرت جنة الملعونين.


* يتبع القسم الثالث