الرواية العربية: بين الإبداع وكسر التابوهات


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4353 - 2014 / 2 / 2 - 16:14
المحور: الادب والفن     

في كتابه القيم "الرواية العربية وتأويل التاريخ: نظرية الرواية والرواية العربية" يناقش فيصل دراج فن الرواية, سواء بصفته العالمية, او العربية من منظور كتابة التاريخ. بالنسبة لدراج كتابة الرواية هي كتابة التاريخ. أوروبيا تزامن صعود فن الرواية في القرن التاسع عشر مع صعود علم التاريخ. وفي حين ان هذا الاخر يحاول ان يقدم سردية تدعي الموضوعية, والكتابة تبعا لقوانين علمية صارمة, في ما تعاني رغما عنها من انحيازات المكان والظرف والانتماء, فإن الرواية كتبت التاريخ من دون قواعد ومن دون اولويات. ربما كانت عبقرية الفن الروائي, كما هي عبقرية العمل الابداعي ايا كان, تكمن اصلا في لا موضوعيته, في ذاتيته, تمرده, وعدم خضوعه لما هو سائد. بهذا المعنى فإن كتابة الرواية تحديداً هي كتابة ذاتية مأزومة لحاضر تفصيلي وهوامش يتعالى عليها علم التاريخ اساساً. يقول دراج عن الرواية العربية على وجه الخصوص: "كتبت الرواية العربية التاريخ المعاصر الذي لم يكتبه المؤرخون, متطلعة إلى تاريخ سوي محتمل, وحالمة بمدن تعطي الرواية قراءة مجتمعية. يقوم الروائي بتصحيح ما جاء به المؤرخ وبذكر ما امتنع عن قوله, مؤكدا (كون) الكتابة الروائية "علم التاريخ" الوحيد, او كتابة موضوعية تسائل ما جرى, دون حذف او اضافة" (ص ٦).
يوفر لنا هذا المنظور مدخلا ملائما لمناقشة موضوع المواجهة الكبرى التي تطلقها النصوص الروائية العربية ضد التابوهات التقليدية الاجتماعية والدينية والجنسية وتفرعاتها التي لا تنتهي. هنا نحن امام عدة خطابات تحاول السيطرة على الفضاء العام للمجتمعات وتقدم تاريخها الخاص بها: هناك الخطاب الرسمي الذي يتبجح دوما بالإنجازات العظيمة وبكون شؤون الناس والبلاد على خير ما يُرام. وهناك الخطاب المجتمعي الذي وإن كان ناقدا على حياء لإخفاقات السلطة, فإنه متواطوء معها في الدفاع عن الوضع القائم خاصة الجانب التقليدي الساكن منه, المحافظ بشراسة على الموروث كما هو, مقدسا اياه, ومحاربا في سبيله كل جديد. وهناك خطابات الحركات الاحتجاجية اسلاموية كانت ام حداثية, الاولى تريد اعادة انتاج الموروث بأشكال جديدة لكن مع الإبقاء على سمته الطاغية والابوية, والثانية تريد استنبات حداثة من الغرب أُنهكت وانتهكت في منتصف الطريق, فأصبحت رثة وهامشية, باهتة التأثير. سجالات تلك الخطابات مواجهاتية, صدامية, اعتذارية, تبريرية, ولكنها في الجوهر والمنتهى سياسية وايديولوجية. على هامش تلك السجالات وصخبها, بعيدا عنها وفي قلبها في الآن ذاته, ينمو خطاب روائي يؤرخ للحاضر بطريقته الخاصة. من اهم ثيماته التي تبلورت كتحصيل حاصل كشف المستور ونقض خطاب "ان كل شيء على خير ما يُرام".
العمل الروائي العربي هو "النيغتيف" للصورة البراقة التي يصطنعها الخطاب الرسمي ثم يؤرخها. وهو النيغتيف للصورة الإعتذارية المثالية التي يقدمها الخطاب الديني على رافعة أننا خير امة اخرجت للناس. وهو النيغتيف للصورة الخادعة التي يقدمها الخطاب المجتمعي زاعما وجود مجتمعات متكافلة, قائمة على العائلة المتماسكة, والاخلاق, والسمو عن الآخرين. وهو النيغتيف للصورة التبشيرية التي يقدمها اصحاب الخطاب الحداثي في الوقت الذي يقدمون فيه نماذج منفرة, حداثتها وليبراليتها سطحية. هنا بالضبط تكمن عبقرية التحدي في الرواية العربية: تحدي الخطابات السائدة وكشف زيفها وإعلاء الحس النقدي في المجتمع, ومطاردة اصحاب الإدعاءات السلطوية ايا ما كانت, سياسية, ام اجتماعية, ام دينية.
ومنذ ان دخل فن الرواية الادب العربي الحديث والنص الروائي العربي منخرط في منازلة تاريخية مع تلك الإدعاءات وسلطاتها او تابوهاتها الثلاثة التقليدية الثلاثة: السياسة, والدين, والجنس. في كل واحد من المجتمعات العربية من دون استثناء لا تتحكم هذه التابوهات وحسب في رقاب الافراد وتقمع تطلعاتهم وانطلاقهم, بل تتحول وتتمأسس في شكل عمليات رقابية وتسلطية بيد نخب تستغل الخطوط الحمر وتراكم مصالح خاصة بها مدعية الدفاع عن المجتمع والمحافظة عليه. يتحالف السياسي مع رجل الدين مع شرطي الآداب في تخليق وضع اجتماعي مشوه وتشويهي يقف في وجه عجلة التاريخ ويطارد الافراد وارواحهم ويكبت كل اشراقة ابداع فيهم. النداء غير المنطوق في النصوص الروائية العربية على مدار سنوات طويلة ماضية هو نداء الحرية والانعتاق. إنه النداء الوحيد الذي يستحق ان نقف وراءه جميعا ويستحق الظفر بكل الدعم وكل الشرعيات. والحرية هنا لا تقتصر على الحرية السياسية وحسب, بل تتعداها الى الحرية الاجتماعية والدينية والجنسية وان يكون الفرد لا غيره هو المسيطر على ذاته.
لا يعني ذلك قصر معيار الحكم على جودة اي نص روائي او ادبي على "الموضوع/المضمون" حتى لو كان في رفعة نداء الحرية والانعتاق. فالنوع الادبي في المبتدأ والمنتهى يجب ان يُحاكم من منظور ابداعي وادبي, ويجب ان يتقولب المضمون وموضوعه في الشكل الابداعي المعني شعرا كان ام مسرحا, ام رسما, ام رواية. فالشكل والصنعة الادبية في نهاية المطاف هي التي تعطي العمل المكتوب هويته الابداعية وتحميه من الوقوع في مباشرة الخطابية والوعظية الفجة. من دون الشكل واللغة والحذق الادبي والتصويري والمناورة في التركيب والتقديم والتأخير والحبكة السردية النصية تتحول الرواية او النص الادبي الى مقالة اجتماعية او سياسية نقدية جافة لا روح فيها. لكن السؤال الذي يواجهنا هنا هو الآتي: ما التجديد إذن في النصوص الروائية الجديدة إن كانت تحوم في معظمها في مساحة الثالوث المحرماتي: السياسة والجنس والدين, وأليست بوقوعها الاختياري في أسر هذا الثالوث تحكم على نفسها بالرتابة والتكرار وملل الكاتب والمكتوب؟ الجديد فيها هو الشكل والقالب الذي يتم قولبة الموضوع فيه وتقديمه بشكل جذاب وكأنه لم يُعالج من قبل, وهو ما نراه منعكسا في الكثير من الروايات العربية في السنوات الاخيرة. الجديد والمدهش ايجابيا خلال تأمل قوائم الروايات تلك, خاصة الناجحة والمبدعة منها, هو السمة اللانهائية لتوالد الإبداع والسرديات والاشكال حتى ضمن ذلك الثالوث, وإن لم تكن كل الاعمال محصورة بين اضلاعه بطبيعة الحال.
مقارعة التابوهات الثلاث المذكورة ليست امرا جديدا في حقل الرواية العربية, بل ربما جاز القول ان تحدي هذه التابوهات والمناورة ضدها, والالتفاف حولها, والتسلل الى قلاعها, وتفكيكها, وفضحها كانت هي البيئة الطبيعية التي منحت الرواية العربية اكسجين الحياة. منذ رواية “قنديل ام هاشم” ليحي حقي ومساءلتها لثنائيات العلم والاسطورة, الشرق والغرب, التمسك الخرافي بالتقليد مقابل الإنطلاق المطلق نحو العصر, ووصولا إلى روايات علي المقري ونبيلة الزبير في اليمن مثل “حرمة” و”زوج حذاء لعائشة”, مرورا بكل الانتاج الثري لنوال سعداوي وفاطمة المرنيسي واحلام مستغانمي, وعلاء الاسواني, والحبيب السالمي, وواسيني الاعرج, ومئات غيرهم, ومن دون نسيان درة تاج الرواية العربية المتمثلة بأعمال نجيب محفوظ الذي حُوكمت “اولاد حارته” بعد ان صدرت بسنين طويلة ـ على مدار تلك المسيرة وكتابها والتابوهات تلك تمنح السرد العربي الروائي شرعية الحياة, وفي نفس الوقت تمنح نفسها, اي تلك التابوهات, عمرا اطول, مع الاسى والاسف, وصلابة اشد رغم حنق وغضب الناقمين عليها.