الحداثة وعبقرية النقد الذاتي


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4264 - 2013 / 11 / 3 - 14:57
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

تفترق فكرة الحداثة عن جميع الافكار الاخرى بأنها ولّدت آلية النقد الذاتي الذي اصبح جوهرها الموجه لها. في بداياتها الاولى وثورتها على السلطة والمجتمع التقليديين القائمين على خليط السيطرة والاستغلال الذي انتجته قرون التحالف بين الاقطاع والدين, قدمت الحداثة طرحاً ثوريا تحرريا لكنه كان مؤدلجاً وخلاصيا. اي انها اعتقدت انها "الحل" الخلاصي للإنسانية الذي يحررها من قيود التقليد والميتافيزيقيا والدين والاستغلال. وبذلك فإنها طرحت نفسها, بوعي او بدونه, بديلا ايديولوجيا في ميدان الايديولوجيات الخلاصية, والتي كان كل منها يضع نهاية سعيدة للكون والبشر, ويريد حشر مسيرة التاريخ والمستقبل لتسير وفق تلك النهاية. وكما كان الدين يرسم مسارا خاصا للإنسانية ونهاية محددة, جاءت الحداثة لتقوم بالشيء ذاته وتتورط في المنهج الخلاصي نفسه, لكن مع تغيير في الطريق وفي شكل النهاية المفترضة. بمعنى ما, اصبحت الحداثة "الصارمة والتقليدية" القائمة على جبروت العقل والعلم والانعتاق دينا جديدا وايديولوجيا تنافس الاديان والايديولوجيات القائمة.
لكن الفصل المثير في قصة الحداثة يكمن في توليد طاقة النقد الذاتي, ذلك أنها وبإعتمادها على العقل اكتشفت خطل تموضعها على مسار الايديولوجيات التي تعتقد في ذاتها معرفة المسار الخفي للبشرية وقانون الطبيعة وترسم تبعا لذلك "خطة" لأيلولة الانسانية والكون. نقدت الحداثة نفسها وتحررت من شكلها الايديولوجيا, ذلك ان الايديولوجيا وكما وصفها ماكس هوركهيمر احد رواد مدرسة فرانكفورت النقدية هي العقبة الأساسية في طريق الانعتاق الانساني. التحرر الذي حدث للحداثة من التورط في أدلجة لا إنفكاك منها تم بفضيلة النقد والمنطق والعقل وهي القيم الجوهرية للتنوير والثورة على التقليد. في قلب الحداثة تأسست تدريجيا مدرسة نقد الحداثة, والتي كان هوركهيمر احد اهم فلاسفتها. إنتبه هوركهيمر إلى الديالكتيك الخطير الذي إنزلقت إليه المجتمعات الحديثة التي من المفترض ان تكون نتاج عملية التحرير الكبير الذي قادته الحداثة واخرجت به هذه المجتمعات (وخاصة الغربية) من غيبوبة التقليد وتحالف سلطات الدين والمجهول والاقطاع عليها. لقد تحررت هذه المجتمعات من قيود تقليدية ما قبل حداثية, لكنها سرعان ما ورطت نفسها طائعة في قيود جديدة وعبوديات حداثية. وقد التقط هوركهيمر هذه السيرورة مبكرا جدا في اربعينات القرن العشرين, في كتابه "تجاوز العقل", واصفا اياها بما يلي: "... بعد ان ساعدنا العلم على تخليص انفسنا من الرهبة من المجهول في الطبيعة, ها نحن الآن نصبح عبيدا للضغوط الاجتماعية التي صنعناها نحن. فإزاء الدعوة كي نكون فاعلين مستقلين, نتوق عوض ذلك للإلتحاق بالنظم, والانماط والسلطات. واذا كانت الاستنارة والتقدم العقلي تعني تحرير الانسان من المعتقدات الخرافية في القوى الشريرة والاساطير والقدر الاعمى, او بإختصار تحريره من الخوف, فإن نقد ما يسمى اليوم بالمنطق هو اكبر خدمة يمكن للمنطق ان يقدمها".
وقعت المجتمعات الحديثة أسر أنماط الحياة والسلوك والاقتصاد والسياسة والتنظيم الصارم الذي جاءت به الحداثة, وجاءت به اصلا للتمرد على فوضى وخوف ولاعقلانية المجتمعات ما قبل الحديثة. وهكذا فقد حررت المجتمعات من قيود الخرافات حيث كان الافراد يخضعون لإملاءات غيبية ميتافيزيقية غير مباشرة وسلطوية مباشرة, لكنها اخضعتهم لقيود الحياة الحديثة وبرنامجها المنضبط الذي يحدد حياة الافراد ويرسم لهم التوقعات والمسارات التي من المفترض ان يسيرون فيها. وعلى هذا الضبط الصارم والتنميط الجماعي للافراد ثارت مدرسة نقد الحداثة, واشتغلت اولا على خلق هوامش للحرية والانعتاق والتمرد على جوانب الحداثة وتمثلاتها المختلفة في الحياة, ثم لاحقا وهو الاهم على نقل تلك الهوامش لتصبح في "المجال العام" للحداثة ذاتها, وتمييع ما هو تنميطي فيها او اضعافه. وتجلت إنعكسات تلك الإزاحة بالغة الاهمية في إزدياد التمرد ما بعد الحداثي على التنميط الحداثي نفسه, في مجالات الفن والادب والاعلام والعمارة, ثم توسعت لتشمل مقاربات عديدة في العلوم الاجتماعية وصولا إلى السياسة والاقتصاد في "سياسة ما بعد الحداثة".
وهكذا خلقت الحداثة ذاتها وعبر آلية النقد التي استبطنتها جوهريا "ما بعدها" الخاص بها ... "ما بعد الحداثة". لكن هذه "الما بعدية" لم تنقض العملية الأم, الحداثة, لكنها قامت بدور بالغ الأهمية وشبه فريد في تاريخ الافكار وهو طرح الاسئلة الصعبة والمتفجرة وإلقاءها في حضن الحداثة, التي تنشغل في ايجاد الرد عليها عن طريق تصويب مساراتها المتعرجة والمتعددة دائما. لكن ما الجديد في هذه السيرورة, اي ان تنتج فكرة ما وليدها الناقد الذي يصحح بعض جوانبها؟ فهذه السيرورة موجودة في كل الافكار وحتى في الاديان حيث شهدت كبرياتها حركات قامت على النقد والاصلاح الديني؟ الفرق الكبير في حالة الحداثة وما بعد الحداثة هو ان النقد لم يكن مقيدا بحدود الفكرة الام ولم يحترمها ولم يقدسها. ما بعد الحداثة لم تحاول نقد الحداثة وحسب بل ونقضها. من هنا فإن التميز وربما الإنفراد التاريخي الذي جاءت به الحداثة ووليدتها يكمن في هذه النقطة بالضبط, وهي إنعتاق النقد وآليته من دون حدود, وإلى درجة النقض الكلاني للفكرة المؤسسة. وبسبب لا محدودية هذا النقد وشراسته في كثير من الاحيان فإن الفكرة الأم صارت دائمة الإستنفار للإنخراط في عملية تصويب مستديمة لذاتها وتجسيداتها في الواقع. وبكلمة اخرى, انتجت الحداثة آلية داخلية شبه نادرة وتميزها عن اية فكرة اخرى تتمثل في التصويب الذاتي المستديم والذي يسير يدا بيد مع الفكرة وتطبيقاتها, ولا يقف على الهامش او يستخدم ظرفيا أو تظاهريا. النقد الذاتي الحداثي وما بعد الحداثي للحداثة صار جوهرها ومحركها الاساس, ولهذا ظلت تتجدد وظلت محافظة على بريقها. ويأتي بريقها الأهم من عدم إدعائها بأنها تمثل الحل الخلاصي لأي مجتمع من المجتمعات, وبكونها قطعت من زمن طويل مع بداياتها الايديولوجية, والنظريات الخطية التي سيطرت على عقول كثيرين في الحقبة الكولونيالية, حيث ارادوا جلب العالم المتخلف إلى أنوار الحداثة التي هي وحدها هي الحل وهي وحدها التي سوف تخلصهم من تخلفهم حتى رغما عنهم.
تنجح اي فكرة او سيرورة او سياسة وتستديم بالقدر الذي تتبنى فيه النقد الذاتي, لأن هذا النقد هو الآلية الوحيدة التي تضمن التصويب المستمر للأخطاء وتعيد مقاربة الاشياء بالشكل الاكثر قربا لما هو مفترض ومتوقع من فاعلية للوصول إلى ما هو مرغوب من اهداف.