جدل النص والواقع


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4244 - 2013 / 10 / 13 - 16:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


يغترب النص عن الواقع إن تعالى عليه, ثم ما يلبث ان يصبح عالة على الواقع إن يخضع لإشتراطاته وينخرط في تلك الدينامية الإنسانية التاريخية التي تخلط النص بالواقع وتعيد تشكيل الإثنين وفق توافقات وتنازلات دائمة الحدوث. يحدث هذا مع اي نص يتوجه إلى تغيير الواقع, وينهمك في رصد اعتلالات الاجتماع البشري ويأخذ على عاتقه مهمة اصلاحها, او بتواضع اكثر محاولة اصلاحها. نصوص الايديولوجيات البشرية التي حاولت مناطحة الواقع وتغييره تقدم تاريخا غنيا وبديعا, متابعته تتيح استنطاق تجارب لا تعد ولا تحصى على طول قرون, واحد دروسه تشير إلى انحناء الايديولوجيات المتكرر لعواصف الواقع التي لا تقف او تخف. تولد الايديولوجيات تفسيرات تنحرف بها عن "المبدأ" الاصلي, وتعيد انتاج تفسير ذاتها لتخرج بثوب "تصحيحي" او "ثوري" جديد, جوهره تقديم تنازل آخر للواقع. ذات الصيرورة تحدث ايضا في قلب النص الديني ذلك انه مع مرور الزمن واستطالة التجربة التاريخية وتعقدها وتشابك مصالح الطبقات الحاكمة, والمتنفذين, مع مصالح رجال الدين (الذين يحتكرون تفسير النص الديني على وجه التحديد) فإن النص ينخرط عمليا في سيرورة دائمة التغير لناحية التفسير والتطبيق, وفق الزماكانية والسياق. في هذه الحالة يتصدى المفسرون والمفتون للعب دور الوسطاء وتقديم الحلول الوسط بين النص الاصلي والواقع المتغير, حتى لا ينفصل النص عن سيرورة التاريخ. في كلا الحالتين, وفي كل حالات النصوص التي تُقارب الواقع مُقاربة تغييرية, تواجه السمة الاستقلالية للنص عن الواقع, بحسب ادعائها الاولي, واستعلائها عليه ظروف التعرية والضعف التدريجي, كأنما ذاك ضرروة تاريخية لا محيص عنها. تنبع هذه الضرورة من عبقرية الإرادة البشرية في تطويع وتطوير النص ومواءمته مع الواقع الذي يبقى هو المادة الصلبة في التاريخ الإنساني. في مواجهة ذلك يواصل رجال الدين والنخب السياسية الحاكمة إتكاءهم على النص وتوظيفه واستخدامه بما يعني عمليا "وواقعيا" إعادة إنتاجه. وبذلك فإن الجانب الاجتماعي-السياسي-الجمعوي من النص, الديني في هذه الحالة, يظل في عملية مستمرة لا تتوقف عن الإنتاج وإعادة الإنتاج, وهو ما تقوم به التفسيرات المختلفة للنص, والفتوى التي تحاول مصالحته مع الواقع. ما يبقى ثابتا من النص, الديني مرة ثانية هنا, هو ما يتعلق بالجانب الطقوسي-العقدي-التعبدي الذي ينظم علاقة الفرد بخالقه.
في مستوى آخر يتبلور النص ويتفاعل وينفعل في قلب الايديولوجيا مقدما سيرروة مثيرة اخرى. وهو يفعل ذلك في نوعي الايديولوجيا, الاول وهو ما هو قائم منها على جوهر انساني والثاني وهو ما هو قائم على جوهر غير انساني (تسلطي). الايديولوجيا الانسانية هي تلك المرتكزة على الحرية وتحرير الانسان والفرد من كل القيود وتمكينه بالنقد والنقد الشامل الذي يشمل ايضا نقد الايديولوجيا ذاتها التي حررته. اما الايديولوجيا غير الانسانية فهي تلك التي قد تنطلق لاجل تحرير الانسان وتقاتل من اجل ذلك لكنها تخضعه لنظام ثقافي, تسلطي, فوقي, بديلا عن النظام الذي حررته منه. وبكونها ذات برنامج فوقي-خلاصي فإنها لا تسمح لهذا الفرد المحرر والمتحرر بأن يتحرر منها ايضا او ينقدها. هي تشجعه على نقد النظام الثقافي والسياسي والايديولوجي المُنقضي, بيد انها ترفع ذاتها إلى مرتبة عليا, فوق النقد والناقدين, وتتحول إلى منظومة مُستبدة للافراد الذين حررتهم (النازية, والستالينية كمثاليين ناجزين).
من هذا المنطلق يرصد التاريخ تمثلات متعددة للدين, اي دين. اولها, في الغالب الاعم تمثله لايديولوجيا تحررية انعتاقية تزيح القيود السلطوية والفوقية المفروضة على الفرد والتي تعودت على استغلاله وتعود هو على الخضوع إليها. هنا يعمل الدين على تحرير الفرد من الإكراهات السياقية والافقية, رابطا مصير المحررين بعلاقة عمودية وطوعية وحسب مع خالقهم. في هذه المرحلة يكون الدين ايديولوجيا انسانية وثورية. لكن إثر تغلب الدين على بقية السلطويات واخضاعه لها سرعان ما تتبلور قوى سياسية واجتماعية ونفعية وحتى دينية تعمل على توظيف الايديولوجيا الجديدة لإخضاع الفرد مرة اخرى, وهذه المرة بإستخدام ذات الايديولوجيا التي حررته. هنا يتحول الدين, وتفسيراته وتوظيفاته, إلى مجرد نظم قوننة جامد ومغلق وتطبيقاته تؤول إلى السلطات التي تسيطر على الفرد والمجمووع, ويكون قد تخلى عن مرحلة التحرر والإنعتاق ودخل ومعه الافراد إلى مرحلة الايديولوجيا غير الانسانية. ومن ناحية تاريخية ايضا لا يسقط الدين كليا في قبضة الفكر المنغلق او في حفنة من المفسرين الجامدين او المهووسيين بالتضييق والتحريم من ناحية, والتحكم والإخضاع من ناحية ثانية. فالذي يحدث عادة حتى في قمة ظافرية الانغلاق وسدنته هو تواصل سلسلة المقاومة وتجديد التحرر والانعتاق. وطالما ظلت الحرية والنداء إليها شكل احد الإندفاعات الكبرى وراء الطاقة الثورية للدين, إذ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا, فإن ما يتمكن منه الانغلاق والاستبداد في حقبة ما يخسره في حقبة لاحقة.
في بداية عمره يقترب النص من الواقع بتواضع, يجادل الناس الذين يرون فيه قادما جديدا وغريبا على ثقافتهم وما ألفوه بتؤده ومنطق. هنا يطرح النص بديلا طوعيا واختياريا, يضعه إلى جانب البدائل الاخرى. وفي سياق جدله المُتحول تدريجيا إلى نوع من المعركة الفكرية, يبدأ النص بالتحول إلى شيء آخر – الى "خطاب". و"الخطاب" يختلف عن النص جوهريا وبشكل شبه تام. النص يصف ويطرح ما يحمل من دون إندفاعة في التشخيص الحاسم وطرح الحل الحاسم. "الخطاب" يطرح المشكلة ويطرح لها الحل التام والمُطبق. و"الخطاب" وبطبيعة حوامله الايديولوجية والتبشيرية وبرامجه التي تستهدف تغيير الواقع ذاته قليل المهادنة مع "الخطابات" الاخرى, ويضيق ذرعا بما تطرحه, ذاك انها تنافسه عمليا على ما يقوم به – تغيير الواقع الى الوجهة التي يريد. وهنا نرصد آلية اخرى من آليات تحول ايديولوجيا ما من طور نزعتها الإنسانية إلى طور الجبر والإكراه والإنغلاق. يتحول النص إلى خطاب, وتتحول الايديولوجيا من العتق إلى الاستعباد.