ابن رشد و المرض في الدين


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 3915 - 2012 / 11 / 18 - 21:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

توظيف المقدسات في الصراعات السياسية بين البشر، قديم قدم التاريخ، ففي بلاد اليونان حُكم على سقراط بالإعدام بتهمة إزدراء العقائد وإفساد الشبيبة، ولكن الفيلسوف فضل شرب السم محاطا بتلامذته، عوضا عن تمكين أعدائه من متعة انتزاع حياته، وفي بلاد العرب تعد محنة ابن رشد الواقعة الأبرز في تاريخ الإضطهاد الفكري المغلف بالقداسة، وفي مملكة الأراضي المنخفضة أو هولندا، هجم متطرف يهودي على سبينوزا، متأبطا خنجره ، دفاعا عن عقيدة موسى، غير أن الفيلسوف ظل رغم ذلك يفكر فقد أخطأ القاتل رميته.

دلف ابن رشد إلى الفلسفة مبكرا، وكان للقائه بأرسطو على نحو خاص تأثيره الحاسم في تطور فلسفته، فقد شرح معظم كتبه، حتى أنه لقب في الغرب اللاتيني بالشارح الأكبر، وربما تم ذلك لأول مرة على يد دانتى، صاحب الكوميديا الإلهية، ولكنه لم يكتف بالشرح بل أبدع وأضاف، في صلة وثيقة بمعضلات مكانه وزمانه، فالمعرفة والفضيلة برأيه أختان، والنظر والعمل شقيقان لا يفترقان .



كان الرجل غزير الإنتاج، حتى أن بعض من أرخ لسيرته، يذكر أنه لم يفارق الكتابة يوما واحدا، باستثناء مناسبتين، أحدهما دخوله على زوجته، والثانية في وفاة أبيه، وقد جعل منه تحصيله للعلم قاضى قضاة قرطبة، وكبير فقهائها، وأحد ألمع أطبائها، فضلا عن اللقب الشهير الذي عرف به: فيلسوف قرطبة .

خاض أبو الوليد في القضايا الفقهية، و لم يتردد في الاختلاف أحيانا مع أكبر سابقيه ومنهم مالك ابن أنس، وعالج المسائل الكلامية فأصدر حكمه على الفرق كلها باعتبارها سبب البلاء، فقد قسمت الأمة مللا و شيعا متناحرة، و لم يستثن من ذلك الغزالي الذي "طمَ الوادي على القرى"، وتحدّث عن تدبير السياسة فأصدر أحكامه القاسية على الأمراء بما في ذلك المتربعين منهم على عرش مدينته، لتسلّطهم ونهبهم للثروة، وقد كان يتأفّف من مخاطبة حاكم قرطبة بـ"أمير المؤمنين" و "خليفة المسلمين"، مكتفيا بمناداته: يا أخي. يقول عنه المراكشي: "كان غير ملتفت إلى ما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلو الكتاب من الإطراء والتقريظ وما جانس هذه الطرق"، وقد كان يشبه حاله بحال من شبت النار في بيته فهب لإنقاذ ما غلا ثمنه، فالأندلس كانت تسير إلى حتفها أمام ناظريه، و قد جلب هذا كلّه عليه غضب هؤلاء مجتمعين، الذين اتحدوا في حملة لاصطياده، وعندما بحثوا عن أفضل الشباك لنصبها له وجدوها في المقدس، فقد مرق عن الدين، وهو ما لم يكن غائبا عن ذهنه، فقد كتب "وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن (الأندلسية) فيلسوف حقيقي، كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضارية، فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها، ولا هو يأمن على نفسه منها".

أتهم ابن رشد بجرائم كثيرة، أعتبر بموجبها بحسب ابن خلدون مريضا في دينه وعقله، ونورد هنا إحداها، وهي إنكاره وجود قوم عاد، فقد ورد على لسان أحد شيوخ زمانه أنه لما سرت في المشرق والأندلس على ألسنة المنجمين شائعة تؤكد أن ريحا صرصرا ستفتك بالناس، حتى أنهم هربوا إلى الغيران والأنفاق، للاحتماء بها، جمع حاكم قرطبة مجلسا للتداول في الأمر، حضره ابن رشد، وعندما تكلم الشيخ قائلا: إن هذه ستكون ثانية الريح التي أهلك بها الله قوم عاد، انبرى له ابن رشد الذي لم يتمالك نفسه فقال: و الله وجود عاد ما كان حقا فكيف سبب هلاكهم؟

وسرعان ما نظم الأمير لابن رشد محاكمة، بعد أن جاءه الوشاة بالإفادات، فجمع في بلاطه أركان حكمه، من القضاة والفقهاء والوزراء، وتداولوا في الأمر بحضور ابن رشد، الذي لُعن وأُهين، وحُكم عليه بالنفي إلى قرية "اليسانة" التي لا يسكنها غير اليهود، في إيماءة من جلاديه أنه ليس بمسلم، وأخرج من القاعة في أسوء حال وقد بلغ السبعين، وعندما قصد الجامع للصلاة كالعادة صحبة ابنه، هجم عليه سفلة القوم وأطردوه .

أُستغل المقدس لا لإلحاق الأذى بابن رشد فقط، وإنما بالفلسفة كلها، التي جرى تحريمها بمرسوم أميري، وأحرقت كتب الفلاسفة في أكبر الساحات العامة، وفرض منذ ذلك الوقت الحصار على الرشدية، التي ُطردت من الجوامع فهاجرت إلى الجامعات، وأصبحت تترجم وتدرس في أكبر مدن أوروبا، محدثة من حولها جدلا فكريا واسعا، سوف يكون له بالغ الأثر في بزوغ فجر النهضة الأوروبية، وقد تكون مأساة ابن رشد في وجه من وجوهها ماثلة في أن الأمة التي كتب لها، تنكرت له تحت غطاء الدفاع عن المقدسات، بينما تلقفته أمم أخرى لم يدر بخلده أنه يخاطبها، ومن هنا كونية ما كتب.