مآزق الايدلوجيات في المشروع الليبي


عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن - العدد: 3372 - 2011 / 5 / 21 - 12:45
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

مآزق الايدلوجيات في المشروع الليبي

لم يكن الشارع الليبي بعيدا عن ما كان يجري على أراضي الجارة الغربية (تونس)، والجارة الشرقية( مصر) من ثورات ضد الاستبداد والقمع والظلم والحيف بأنواعه. حيث استجاب لتلك الرسائل النهضوية وخرج سلميا مطالبا بحقوقه الطبيعة يوم 15-17 فبراير2011م في مدينة بنغازي التي صارت فيما بعد مهد ثورة 17 فبراير، حيث قوبلت هذه المسيرة السلمية من قبل الطاغية وأزلامه بالرصاص الحي والاعتقالات والاخفاء القسري. وهكذا كانت بداية الشرارة الأولى لثورة الحرية في ليبيا والتي انتقلت بسرعة النار في الهشيم إلى سائر مدن البلاد شرقا وغربا وجنوبا. وبعد ثلاثة اشهر من الثورة باتت كل المؤشرات تشير إلى قرب وصول الثوار إلى هدفهم الأولي إسقاط أخر معاقل النظام البائد. وتطوى بذلك أولى صفحات مسيرة الحرية والكرامة في ليبيا، وبالتالي يأتي دور فتح ملفات لا تقل صعوبة عن الصفحة الأولى إن لم تكن أخطر وأكبر تعقيدا منها. ملف إقامة دولة القانون القادرة، ووضع ملامح المشروع السياسي القادم، وتشكيل المجتمع وفق التوجه المدني والحضاري المرتقب. ويبدو أن هذه الملفات ليس من السهل تجاوزها في أشهر كما كان ذلك في الاطار الزماني لإسقاط آل القذافي، ويعود ذلك إلى إشكالات كثيرة، نحاول في هذه المقالة طرح بعض هذه الإشكاليات لتأخذ بعين الاعتبار في هذه المرحلة الحساسة من قبل صانعي التغيير.

ولكن قبل تناول هذه الاشكاليات ينبغي تذكير الشعب صانع الثورة أن ينتبه إلى حزمة من المحاذير الاستراتيجية في عالم الثورات الشعبية. كذلك السعي الحثيث نحو تمهيد حقيقي لمناخ ثقافي وتعليمي يسهم بصورة فاعلة لإنجاح النهضة المنشودة من الثورة. ومن هذه المحاذير التي ينبغي تجنبها والانتباه إليها؛ الوعي بخطورة الاستبداد السياسي( الحزبي)، والاستبداد الديني(المؤدلج)، وأنه لا يقل كارثية من استبداد الطاغية البائد. والوعي بخطورة عدم وجود مشاريع فلسفية وأطروحات منطقية تستوعب مسارات النهضة. وكذلك الوعي بأهمية ذيوع ثقافة العقل والمنطق، وشيوع روح النقد ونقد النقد، وقبول الأخر.

والجدير بالذكر إن الاعتماد على عاطفة الشعب في تثويرها ضد الاستبداد السياسي دون وعيها بخطورة منطق الايدلوجيات السياسية اليسارية والاسلامية،يعني استمرارية الاستبداد، وسيطرة ثقافة الاقصاء، والتهميش الجهوي والمذهبي والحزبي، وإهدار تام لمباديء احترام الغير، والتحول الديمقراطي إلى دولة القانون. وبالتالي سهولة الالتفاف على هكذا ثورة؛ بل وسرقتها جملة.

* * *

ومن هنا ينبغي طرح الاشكالات حول مستقبل ليبيا السياسي في مرحلة ما بعد آل القذافي على هيئة سؤال استراتيجي انشطاري، يتمحور السؤال حول طبيعة الدولة، وتصور النظام الجديد لليبيا الحرة، والذي يتفرع منه حزمة من الاسئلة الاستراتيجية. وتبدو الاجابة الأولية والمتداولة على ألسنة الناس في المجالس الخاصة وعبر الفضائيات، أننا نريد دولة مدنية، وحريات، ونظام ديمقراطي. وهذا الاجابة العفوية يرددها على حد سواء اليساري والاسلامي؛ بل وحتى السلفي!!

ولكن هذه الاجابة المختزلة لو نظرنا إليها بمنطق الفلسفة والسياسة لوجدنا أنها تشير إلى تبسيط للأمور وعدم فهم دقيق لسياقات مفهوم الدولة المدنية والنظام الديمقراطي كما هو مفهوم لدى الغرب، بمعنى أخر لو أتحيت الفرصة لليساري والاسلامي لشرح ماذا يقصد بالدولة المدنية، وسقف الحريات، والنظام الديمقراطي، لرأينا التباين لدرجة التناقض بين هؤلاء. فإذا كان جواب اليساري يدور في فلك نظاما لا تحكمه قوانين الشريعة الاسلامية، ولا يكن لرجال الدين وخطابه دورا هاما في وضع سياسات الدولة وقوانينها، وللمرأة حق المشاركة، والتعددية السياسية، والتداول السلمي على الحكم. بينما نجد تفسير الطرح الاسلامي لمعنى (الدولة المدنية)؛ بأنها دولة ليست عسكرية، وتحكمها الشريعة الاسلامية، ويضع سياساتها العامة والخاصة الخطاب الديني ورجالته، والمرأة مكانتها محددة بالشريعة، والتعددية مشروطة بعدم مخالفتها لإجماعات الفقهاء، بل حتى الحرية يحدد سقفها التأويل التاريخي للنصوص المقدسة.

فإذا كان مفهوم الدولة المدنية، وحدود الحريات، في الجانب النظرية على طرفي نقيض بين اليساري والاسلامي ناهيك عن السلفي الكلاسيكي، فكيف يكون الحال في المرحلة التطبيقية؛ طور تشكيل الاحزاب، ومرحلة التدافع الحزبي والحملات الانتخابية، وخوض الانتخابات؟!! بل كيف لهذة التفسيرات المتابينة لمفهوم الدولة المدنية والحريات والنظام الديمقراطي أن تحقق تطلعات الشعب الليبي، وما هي الصورة الحضارية التي سوف تقدم للعالم عن الثورة الليبية؟ يبدو في هذا الاطار المتناقض من المفاهيم أن المجتمع الليبي سوف يشهد دورة جديدة في ذات الحلقة المفرغة من الصراعات الايدلوجية، ويصبح المجتمع حقل تجريبي للمنازلات الحزبية والرؤى غير الناضجة ؟!

* * *

ربما لا تزال أجواء انتصارات الثوار، وفرحة تخلصنا من حكم الطاغية تشدنا إلى تحقيق أكبر قدر من التقدم والانتصارات على كافة المستويات خاصة منها السياسية، ولكن هذا لا يلغي حقيقة غياب الرؤي النظرية المكتملة للمستقبل الليبي، المتمثلة في غياب ما اصطلح على تسميته بـ( المشروع السياسي الليبي)، المشروع القادر على تأمين الشروط لبناء حياة كريمة تتوفر فيها مقومات حقوق الفرد والحريات والعيش الآمن الكريم.

علما بأن النخب قد فشلت في الفترة الماضية (مع الاعتذار للجميع) في بلورة هذا المشروع نتيجة انغماسها على مدار ما يزيد على نصف قرن في صراعات أيدلوجية، هذه الصراعات التي من طبيعتها أنها تنشأ من الواقع الذي يتجاوزها لتبقى أسيرة عقول متكلسة متمترسة حول مقولات ورؤى نظرية مقيدة لحركة الفكر ذاته ومن بعد ذلك حركة المجتمع. وهذا الفشل يصدق على تجربة القومية العربية في بناء دولتها، واليسارية في بناء دولتها العمالية، والاسلامية في بناء خلافتها. إذ من ميزات الثورات المعاصرة ومنها الليبية هزيمة الأيدلوجيات وتجاوز افكار بل ورموز مرحلة صراع الاحزاب في المنطقة.

وبالتالي فإن بناء مشروع سياسي ليبي يتطلب قبل كل شيء تحولا في تفكير النخب الليبية المعنية بصناعة التغيير، وإنفكاكها من مفاهيم الماضي، وعنوان هذا التحول الاساسي هو الخروج من إطار المشاريع الايدلوجية التي تجاوزها الواقع إلى بناء مشروع جيو سياسي ليبي. وذلك من خلال الكف عن محاولات تغيير بنية المجتمع وهويته الحضارية، ودراسة هذه البنية والهوية كمعطى تاريخي حضاري منجز غير قابل للتحويل أو التبديل في المدى السياسي المنظور، وبالتالي بدء دراسة جدية لمكونات هذه الهوية كمعطى ثابت والاستفادة إلى أكبر قدر ممكن ممّا تتيحه هذه المكوّنات في بناء رؤية واقعية معاصرة للحياة الليبية بتنوعها الثقافي والعرقي والجهوي.

وهذا يتطلب دراسات معمقة متنوعة ومتعددة تصب في المحصلة النهائية في إقامة دولة القانون القوية التي تحقق تطلعات المجتمع الليبي بكل أطيافه وعلى كافة المستويات، وتحافظ على وحدته وهويته ومكانته الإقليمية والدولية، وبذلك تتجاوز مشروع الدولة العشائرية والجهوية والرخوية