مقاربة نقدية لحديث (خير القرون قرني) (2)


عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن - العدد: 2935 - 2010 / 3 / 5 - 10:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

النقطة الرابعة: مقاربة تاريخية في الجانب الأخلاقي والسياسي للقرن الأول.

نقصد بالمقاربة التاريخية القرب والدنو من الوقائع والاحداث المفصلية التي وقعت في تاريخ الإسلام الأول بعد وفاة النبي مباشرة صلى الله عليه وسلم، بغية استنطاق تلك الاحداث والوقائع عبر سياقاتها التاريخية ومساقاتها التدافعية القبلية والجهوية والفكرية، وبالتالي فإن منطق هذه المقاربة يجافي أساليب السحب من المخزن التراثي بتأويلات رجال المخزن التقديسي والتمجيدي، بيد أنه يتناغم مع منطق الوحي في سرده القصصي من حيث محاولة فهم حركة الانسان في إطاره الزمكاني للأعتبار وليس للاعتباط ( إن في قصصهم لعبرة ) العبور من الماضي إلى الحاضر، ومن الخطأ إلى الصواب، ومن الاسطورة إلى الحقيقة، وليس العكس كما يفعل رجال المخزن التراثي الذين ذهبوا إلى الماضي ولم يرجعوا، وحاكموا الحاضر بالماضي، فصار الماضي هو الحاضر، وأضحى الاموات يحكمون في الاحياء ، فتلاشي الحاضر بل والمستقبل من حس رجال المخزن واتباعهم، والويل والثبور للاحياء من التمرد على سلطة الأموات حتى لو اثبتت الدراسات التاريخية النقدية محدودية تجربتهم وبساطة فكرهم ، وتأثير تجربتهم ومنتجاتهم الفكرية السلبي على حركة الانسان في الحاضر ورؤيته للمستقبل!!

ولعل من المناسب أخذ عينة من القرن الأول لإجراء عملية الفحص والتحليل، ولتكن هذه العينة في الجانب الأخلاقي والجانب السياسي، ونحن في هذه المقاربة أو التنقيب في المساحة الأخلاقية أو المساحة السياسية نريد النفاذ إلى عمق حركة الانسان في القرن الأول من حيث أن وجوده في زمن التنزيل بمحض الصدفة أو المثاقفة لم ينقله من الانسانية ودوافعها ونزعاتها وشهواتها وتأثره بظروفه المحيطة به إلى مصاف العصمة والقدسية والملائكية بحيث تصبح أقواله وأفعاله واتفاقه واجماعه سلطة تشريعية تحكم عبر الزمان والمكان والانسان ككلام الواحد الديان. ولكن يبدو أن الآفة الكبرى التي عادة ما تصيب المقتل من الأمم التي تخلفت عن ركب الحضارة والتقدم، هي آفة تصنيم التاريخ وقياداته ورموزه ومنتجاته حيث أنها تمنع المصاب بها من التفاعل الايجابي مع حاضره واستشراف مستقبله.


أولا: مقاربة في الجانب الاخلاقي:

ثمة حقيقة لابد من تقريرها وهي أن مجتمع الصحابة وما تلاه لم يخرج يوما ما من كونه مجتمعا إنسانيا يتنازعه ما ينازع أي مجتمع إنساني من دوافع الخير والشر، الصدق والكذب، والامانة والخيانة، العدل والجور، العفة والفاحشة. بعبارة أخرى أن هذه المجتمعات لم ولن تنتقل من كرسي المجتمع البشري إلى الكرسي الملائكي، ولعل القرآن بمواعظه ووصاياه وتشريعاته وحدوده يؤكد هذه الحقيقة، حيث أن القرآن تنزل على بشر ليهذب سلوكه وطبائعه وأخلاقه ويرتقي به نحو السمو الانساني، لكن حجم الاستجابة لهذه القيم القرآنية ودرجة تحول هذه المجتمعات وفق قيم الوحي تخضع لعملية النسبة والتناسب ولا يوجد تقيم ولا تقويم دقيق لتلك الاستجابة ودرجة التحول، وحتى ما دون في كتب التاريخ السني والشيعي لا يعطي نسبة دقيقة لنسبية التحول كما وكيفا، لآن أغلب المورخين لا ينتمون للقرون الثلاثة، كذلك ينتمي أغلبهم إلى طبقة الفقهاء والمحدثين الذين يفضلون إبراز جوانب التعبد والتحنث وحفظ الروايات( =الوجه الملائكي) دون ذكر للجوانب الأخرى (=الوجه الانساني).

1-انفلات المنظومة الأخلاقية على المستوي الجمعي.

فلو أخذنا عينة أخلاقية من مجتمع القرن الأول على المستوى الفردي والجمعي فأننا نجد مؤشرات حقيقية تشير على بشرية ذلك المجتمع بكل ما تحمله كلمة المجتمع الانساني من دوافع وشهوات ورغبات، فمثلا القرآن الكريم يذكر مجموعة من الذين طعنوا في بيت النبوة وذلك من خلال حادثة الأفك المشهورة، فقال القرآن:( إن الذين جاءوا بالافك عصبة منكم)، وضمير (منكم) في الآية عائد على جملة مكونات المجتمع المسلم الأول، ومن بين هؤلاء عبد الله ابن أبي الخزرجي، وحسان ابن ثابت شاعر رسول الله ، وحمنة بنت جحش؛ وحمنة أخت زينب زوجة رسول الله، و مسِطح ابن اثاثة ابن خالة أبي بكر وهو بدري، ويقال أن علي ابن أبي طالب قد اشار على رسول الله بكلمة يا رسول الله: النساء غيرها كثير. أما قصة المعركة الكلامية داخل المسجد النبوي بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة بخصوص حادثة الافك معروفة مشهورة وذلك لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس، ثم قال: أيها الناس ما بال رجال(= صيغة جمع) يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيرا ويقولون ذلك لرجل؛ والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي. قال أسيد بن حضير: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج، فمرنا أمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم.

قالت: فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا، فقال: كذبت، لعمر الله، لا تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: وتساور الناس، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليّ.

ويبدو من صيغ الجمع في سياق حادثة الإفك أن الذي كان وراءها جماعة من أفراد المجتمع الاسلامي الأول وهي ذات مستويات إجتماعية مختلفة. واللافت للنظر أن اتهام زوج رسول الله مارية القبطية بالفاحشة أيضا كان خلفه جماعة من المجتمع الاسلامي الأول، كما جاء في صحيح مسلم في كتاب االتوبة ‏عن ‏ ‏أنس ‏ ‏أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم. ومن بين هؤلاء الذين كانوا يتهمون ذلك الرجل بمارية السيدة عائشة وحفصة وعمر وغيرهم كما اشارت إلى ذلك رواية الحاكم والطبراني. (انظر: مقالي روايات تثير شبهات حول عرض رسول الله)

والغريب أن ثمة جماعة من القرن الأول وقت التنزيل كانت تمارس اساليب التحرش الجنسي وتقوم بأفعال قبيحة عرفا وشرعا بنساء مدينة رسول الله( = صحابيات)، وهذه الجماعة توصف في كتب التفسير بـ(جماعة فساق أهل المدينة)، ولا يخفى أن أفراد هذه الجماعة داخلون في مسمى الصحابة وبالتالى يشملهم مصطلح (رضي الله عنهم) وفق التعريف الكلاسيكي للصحابي، فقد جاء في أغلب كتب التفسير عند قوله تعالى: يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين...أن جماعة من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرّة فكفّوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها. (تفسير ابن كثير)، وقال الضحاك والكلبي نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فان سكتت اتبعوها وان زجرتهم انتهوا عنها.(تفسير البغوي) وعن الحسن قال كن إماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا كن يخرجن فيتعرض لهن السفهاء فيؤذوهن فكانت المرأة الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة فيتعرضون لها ويؤذونها فأمر النبي المؤمنات أن يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن من الإماء أنهن حرائر فلا يؤذين.( تفسير الصنعاني )

2-الانفلات الاخلاقي على المستوي الفردي.

هذا على مستوى الجماعة، أما على مستوى الفرد فالقصص والحوادث كثيرة جدا في كتب التاريخ والتراجم والطبقات حيث تجد الفرد يجمع بين ارتكاب الفاحشة أو مقدماتها مع إمامة الناس في الصلاة كما حدث ذلك مع المغيرة ابن شعبة أمير الكوفى في عهد عمر وهو من كبار الصحابة ومن الذين شهد بيعة الرضوان، فقد قال ابن خلكان بعد أن سرد قصة المغيرة مع أم جميل بتفاصيل المشاهد الجنسية للمواقعة، وبعد قضاء المغيرة وطره من أم جميل وكان وقت صلاة الظهر قد حان؛ فذهب ليصلي بالناس إماما في المسجد(... وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر. فقال له: لا والله لا تصل بنا وقد فعلت ما فعلت بأم جميل !! . ومعلوم أن الرافض لإمامة المغيرة كان أبو بكرة الثقفي وهو أحد شهود هذه المواقعة. ( انظر:وفيات الاعيان، ابن خلكان، وتاريخ الطبري)

كذلك فعل صحابي أخر جمع بين فعل مقدمات الزنا ومع إقامة الصلاة، قال ابن مسعود أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت. فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فذهب الرجل. فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه. فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، ثم قال: ردوه علي . فردوه عليه فقرأ عليه: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين.فقال معاذ: وفي رواية عمر يا رسول الله أله وحده، أم للناس كافة؟ فقال: بل للناس كافة. (رواه مسلم).

وثمة حوداث متفرقة لصحابة وصحابيات تشبه قصة صاحب البستان السابق من حيث الشكل والمضمون، من ذلك قصة الصحابي الذي خرج يصلى صلاة الصبح خلف النبي وهو في طريقه إلى المسجد في ظلمة الليل إذ بصحابية عابدة محجبة أمامه متوجهة لأداء صلاة الفجر خلف رسول الله، فلم يتمالك الصحابي نفسه من الانقضاض عليها وممارسة مقدمات الجماع معها، ثم لاذ بسواد الليل مختفيا وفارا من المساءلة الشرعية والعرفية.

كذلك قصة الصحابي أو الصحابة الذين كانوا يتأخرون في الإلتحاق بصفوف الصلاة الأمامية خلف رسول الله من أجل الصلاة في الصفوف الخلفية لمعاكسة صحابية جميلة كانت تصلى في الصفوف الأمامية للنساء، كما ذكر أبو الجوزاء عن ابن عباس، قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة، قال ابن عباس: لا والله ما رأيت مثلها قط! فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا نوح بن قيس؛ وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا نوح بن قيس، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصف، فأنزل الله في شأنها: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين.(انظر ابن جرير الطبري في تفسيره، وقد ذكر تفسيرات عدة ، ولكن هذه الرواية ذكرها ابن ماجة، والنسائي، وأحمد، وصححها الالباني في السلسلة الصحيحة)

3- وللخمر نصيب وحضور:

يبدو أن تعاطي الخمر ومقدماته من أنبذة ومشروبات تؤول للسكر كانت منتشرة بمستويات مختلفة في الجيل الذي عايش عهد التنزيل، فمن هؤلاء على سبيل المثال الصحابي النعيمان بن عمر ممن شهد بدرا وأحدا وكان يشرب الخمر على عهد رسول الله (انظر البخاري باب الضرب بالجريد والنعال) كذلك عبدالله ابن حمار، وأبو جندل، وقدامة بن مظعون، وعلقمة بن علاثة، والوليد ابن عقبة، وربيعة ابن أمية، وضرار ابن الازور، وعقبة بن الحارث بن عامر، وضرار بن الخطاب.(انظر مصنف عبدالرزاق،وأسد الغابة لابن الاثير، والاصابة لابن حجر)، أيضا معاوية ابن أبي سفيان كما ذكر أحمد ابن حنبل في مسنده،عن عبد الله بن بريدة قال: دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم أُتينا بالطعام فأكلنا، ثم أُتينا بالشراب فشرب معاوية، ثم ناول أبي ثم قال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك عبدالرحمن بن عمر بن الخطاب، وأبو سروعة عقبة بن الحارث، فقد ذكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني في مصنفه من طريق معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: شرب أخي-عبد الرحمن بن عمر- وشرب أبو سروعة عقبة بن الحارث، وهما بمصر في خلافة عمر فسكرا فلمَّا أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر، فقالا: طهرنا فإنَّا سكرنا من شراب شربناه فقال عبد الله فذكر لي أخي أنَّه سكر، فقلت له ادخل الدار أطهرك ، ولم أشعر أنَّهما أتيا عمروا، فأخبرني أنَّه أخبر الأمير بذلك فدخل الدار، فقال عبد الله: لا يحلق القوم على رؤوس عامة النّاس، ادخل الدار احلقك -وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحدود- فدخل الدار، فقال عبد الله: فحلقت أخي بيدي ثم جلدهم عمرو ، فسمع بذلك عمر ، فكتب إلى عمرو أن أبعث إليَّ بعبد الرحمن على قتب ، ففعل ذلك فلمَّا قدم على عمر جلده وعاقبه لمكانه منه ثم أرسله، فلبث شهرا صحيحا ثمَّ أصابه قدره فمات، فيحسب عامة النَّاس إنما مات من جلد عمر، ولم يمت من جلد عمرو. وذكر ابن عبد ربه في عقده الفريد أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر فحده هناك عمرو بن العاص سراً‏.‏ فلما قدم إلى عمر جلده حداً آخر علانية‏.‏ ومنهم العباس بن عبد الله بن عباس كان ممن شهر بالشراب ومنادمة الأخطل الشاعر‏ . (العقد الفريد لابن عبد ربه)

4- ظاهرة الافتتان بالغلمان:

الكبت الجنسي في أي مجتمع إنساني يولد بالضرورة ظواهر سلبية تسبب في عدم استقرار المجتمع حيث تسهم بصورة ما في اهتزاز البنى الاخلاقية لذلك المجتمع ، ومن تلك الظواهر ظاهرة المثلية الجنسية بين الذكور وبين الإناث، و تسمى بالشذوذ الجنسي؛ أي ميل الذكر إلى جنسه والأنثى إلى جنسها، ويكمن وراء هذه الظاهرة عدة عوامل منها الجانب الوراثي، ومنها خلل اجتماعي في البني الثقافية والسلوكية للمجتمع. ويبدو أن ظاهرة المثلية كانت منتشرة في مجتمع القرون الثلاثة الموسمة في الرواية بـ( الخيرية) وعند الاسلاف بـ(المعصومة)، ويمكن تلمس حجم انتشار هذه الظاهرة من خلال خطاب العباد والزهاد ورجال الفقه الذي يحذر من اندياح وانسياب ظاهرة الافتنان بالغلمان والمردان من فضاءات الفساد والغواية إلى ساحات الطهر والتقى والنسك المتمثلة آنذاك في المساجد ودور التعليم، وبالتالي جاء خطاب رجال الدين والزهد بمضامين صحيحة وعبارات صريحة لأتباعهم؛ من العلماء والزهاد والعباد، بالتحذير والتجريم والتأثيم لمن تسول له نفسه بالميل إلى المردان ومجالستهم والخلو بهم. كما قال أحد العباد في عهد التابعين: ما أنا على الشاب الناسك من سبعٍ ( أي أسد) يجلس إليه، بأخوف مني عليه من حدث يجلس إليه. فإذا كان ذلك كذلك في ساحة العبادة والتعليم والنسك، فكيف يكون الحال في الساحات العامة وساحات الغواية؟!

يؤكد سفيان الثوري أن الافتتان بالغلمان والمردان أخطر من فتنة البنات فيقول: إن مع المرأة شيطانا، ومع الحدث شيطانين. وقال ابن تيمية: كان مالك بن أنس: يمنع دخول المرد مجلسه للسماع، فاحتال هشام فدخل في غمار الناس مستترا بهم؛ وهو أمرد، فسمع منه ستة عشر حديثا، فأُخبر بذلك مالكا، فضربه ستة عشر سوطا، فقال هشام: ليتني سمعت مائة حديث وضربني مائة سوط. وقال الجنيد بن محمد: جاء رجل إلى أحمد بن حنبل، ومعه غلام أمرد حسن الوجه، فقال له: من هذا الفتى؟ فقال الرجل: ابني، فقال: لا تجيء به معك مرة أخرى .فلامه بعض أصحابه في ذلك، فقال أحمد: على هذا رأينا أشياخنا، وبه أخبرونا عن أسلافهم .

وذكر ابن تيمية : أن حسن بن الرازي؛ جاء إلى أحمد ابن حنبل ومعه غلام حسن الوجه، فتحدث معه ساعة، فلما أراد أن ينصرف، قال له أحمد: يا أبا علي!، لا تمش مع هذا الغلام في طريق، فقال: يا أبا عبدالله!، ابن أختي، قال: وإن كان: لا يأثم الناس فيك، أو لئلا يظن بك من لا يعرفك ولا يعرفه سوءاً. قال يحيى بن معين: ما طمع أمرد أن يصحبني، ولا أحمد ابن حنبل في طريق. قال سعيد بن المسيب: إذا رأيتم الرجل يلح بالنظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه .

وقال الحسن بن ذكوان: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صورا كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى. قال أبو يعقوب: كنا مع أبي نصر بشر بن الحارث الحافي فوقفت عليه جارية ما رأينا أحسن منها، فقالت: يا شيخ أين مكان باب حرب. فقال لها هذا الباب الذي يقال له باب حرب، ثم جاء بعدها غلام ما رأينا أحسن منه، فسأله فقال: يا شيخ أين مكان باب حرب، فأطرق الشيخ رأسه، فرد عليه الغلام السؤال، وغمض عينيه، فقلنا للغلام : تعال إيش تريد؟ فقال: باب حرب، فقلنا له: ها هو بين يديك، فلما غاب قلنا للشيخ : يا أبا نصر جاءتك جارية فأجبتها وكلمتها، وجاءك غلام فلم تكلمه، فقال : نعم . يروي عن سفيان الثوري أنه قال : مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسي من شيطانيه. ( المصدر شبكة نور الإسلام)

وقد جاء في طوق الحمامة في الألفة والألاف لابن حزم الكثير من قصص المثلية، منها قصة ابن قزمان ومعشوقه أسلم، قال ابن حزم: لقد حدثني أبو السرى عمار بن زياد صاحبنا عمن يثق به، أن الكاتب ابن قزمان امتحن بمحبة أسلم بن عبد العزيز، أخى الحاجب هاشم بن عبد العزيز. وكان أسلم غاية في الجمال، حتى أضجره لما به وأوقعه في أسباب المنية. وكان أسلم كثير الإلمام به والزيارة له ولا علم له بأنه أصل دائه، إلى أن توفي أسفا ودنفا.

وقصة ابن الطنبي والفتى الجميل ذكرها ابن حزم فقال: سألت أبا عبد الله بن الطنبي عن سبب علته، وهو قد نحل وخفيت محاسن وجهه بالضنى فلم يبق إلا عين جوهرها المخبر عن صفاتها السالفة، وصار يكاد أن يطيره النفس، وقرب من الانحناء، والشجا باد على وجهه، ونحن منفردان. فقال لي : نعم : أخبرك أني كنت في باب داري بقديد الشماس في حين دخول علي بن حمود قرطبة، والجيوش واردة عليها من الجهات تتسارب، فرأيت في جملتهم فتى لم أقدر أن للحسن صورة قائمة حتى رأيته، فغلب على عقلي وهام به لبي، فسألت عنه فقيل لي : هذا فلان بن فلان، من سكان جهة كذا، ناحية قاصية عن قرطبة بعيدة المأخذ. فيئست من رؤيته بعد ذلك. ولعمري يا أبا بكر لا فارقني حبه أو يوردني رمسى.انظر باب (سلو) وباب (الموت) طوق الحمامة. وللمزيد من هذه القصص يمكنك مراجعة رسائل الجاحظ، والامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.

ويبدو أننا أمام ظاهرة بحاجة إلى دراسة معمقة في فضاءات مجتمع القرون الثلاثة وإن كانت هذه الظاهرة من الظواهر المسكوت عنها والتي تقع في المناطق المحرمة في الفكر الديني. ولعدم توجه هذه المقاربة إلى تحليل هكذا ظواهر نكتفي بما ورد من إشارات وعلامات لوجود أزمة أخلاقية في النسق الاخلاقي الجمعي لتلك القرون الثلاثة الفاضلة للتدليل إلى إنسانية تلك المجتمعات وما تعانيها من دوافع وشهوات ورغبات كأي مجتمع إنساني فيه الصالح والطالح، والعابد والفاسد، وأن العيش في تلك القرون مصادفة أو مثقافة لا ترفع الانسان إلى مصاف العصمة والملائكية.

علما بأن الأخلاق جزء أساس من ثقافة المجتمع، وأنها المحرك الاساسي للفعل والانتاج الانساني، فهي القيم والقواعد التي يفرضها الاعتقاد أو العرف على منتسبي مجتمع ما، وفي تقديري أن منظومة القيم الأخلاقية الدينية في مجتمع القرن الأول العربي في نسقها الاجتماعي لم تكن بذلك الرسوخ والتماسك والتكامل في نفس العربي الذي عاش ردحا من الزمان على منظومة أخلاق وأعراف المجتمع العربي في الجاهلية، لذا فإن منظومة القيم الاخلاقية السماوية لم تصمد طويلا أمام النسق الاخلاقي الضارب بأطنابه في عمق التاريخ والنفس العربية. والواقع أن هذا الاختلال الذي يعاني منه مفهوم القيم الأخلاقية داخل النسق الاجتماعي على المستوى الفردي أو الجمعي هو الذي أدى إلى ظهور انفلاتات في نسيج منظومة الأخلاق الدينية، وبروز مظاهر انكفاء المنظومة السياسية إلى أنساق مجتمع ما قبل الاسلام. ولعل من المناسب عرض بعض مظاهر انكفاء المنظومة السياسية في القرن الأول وما دار من صراعات جهوية وسلطوية وقبلية تضع مفهوم عصمة القرون الثلاثة وخيريتها محل نظر وشك. والمفارقة المثيرة للانتباه هي أن مدونات السنة والشيعة حافلة بروايات عديدة تضع مفهوم العصمة؛ عصمة الاكثرية(=عدالة القرون الثلاثة)، أو عصمة الأقلية(= عصمة الأئمة) في موضع الارتياب والرفض وليس في موطن الاعتقاد والتقديس والتصنيم، وعلى الرغم من تلك الروايات والاسانيد التي تشير بوضوح إلى إنسانية ذلك الجيل وأن له مكسب وعليه ما اكتسب، نجد أن الطائفتين؛ السنية والشيعية منذ ذاك الزمان الغابر لم يخرجا بتاتا عن الرؤية التاريخية المؤدلجة التي لا زالت تحكم منظورهما الديني في القرن الحادي والعشرين!!

يتبع