مقاربة نقدية لحديث خير القرون قرني (7)


عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن - العدد: 2970 - 2010 / 4 / 9 - 13:09
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مقاربة نقدية لحديث خير القرون قرني (7)

خلاصة المقاربة

يبدو أن حادثة السقيفة ومقتل عثمان قد فسحتا المجال لما تلاها من الفتن والحروب الداخلية التي أودت بكيان المسلمين ووحدتهم، ومهدت إلى قيام عقائد وإسلامات متعددة داخل الدين الواحد، فثمة إسلام سني ، وشيعي، وخارجي، واعتزالي، وصوفي، وفلسفي، وعربي، وفارسي، وتركي، وهلم جرا .

مما يثير الاستغراب أن شبكة المفاهيم الاستراتيجية التي يقترحها رجالات الاسلام التاريخي كعقيدة راسخة كلها مستوحاه من منطق الصراع والاحتراب والتدافع بين جيل القرن الأول، ومن تلك المفاهيم الاستراتيجية مفهوم عدالة الصحابة، ومفهوم عصمة الأئمة، ومفهوم عصمة القرون الثلاثة، ومفهوم لا تجتمع أمتي على ضلالة، ومفهوم لن يصلح حال الامة إلا بما صلح بها أولها، ومفهوم الاعتقاد بحتمية التدهور التاريخي؛ لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه ....وغير ذلك من المفاهيم الاستراتيجية المشهورة في الفكر الديني ومقررة عند العامة فضلا عن الخاصة.

ولعل نظرة سريعة إلى المفهوم الاستراتيجي المحفوظ لدى الجميع والمكرور على كل المنابر وفي جميع المناسبات؛ وهو الاعتقاد بخيرية القرون الثلاثة( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) وبالتالي الاعتقاد بـ(حتمية التدهور التاريخي). أقول الوقوف على هذا المفهوم بعقلانية نقدية تعتبر السياق التاريخي والمساق الثقافي والسياسي والتدافعي تجعل مكونات هذا المفهوم كمفهوم اعتقادي في مهب الريح من حيث عدم صموده أمام وقائع تاريخية الجيل الأول الموسوم بالخيرية وذلك على مستوى الوقائع السياسية، وعلى صعيد القيم الاخلاقية الفردية والجمعية، ناهيك عن مستوى الانتاج المعرفي. وهذا لا يمنع من وجود أناس في القرون الثلاثة من ذوي الأخلاق الرفيعة والإيمان الراقي ولكن المعروف عرفا بأن الأحكام تبنى على الغالب الأعم وليست على النادر اليسير.

فإذا كان هذا الاعتقاد والمفهوم الاستراتيجي لا يمكنه الصمود والتماسك من خلال الوقائع التاريخية كما جاء في هذه الدراسة، فإنه لا يمكنه البتة المنافسة والتميز أمام العقل الانساني ومنتجاته الحديثة سواء في الفكر السياسي من تداول السلطة، ومحاسبتها، وإقالتها، وحقوق المعارضة، وحق المرأة في تولي السلطة. أو في الجانب الدستوري والقانوني حيث القوانين التي تحمي الحريات العامة، وتحفظ للانسان حقوقه ومقدساته من الهدر والاستخفاف والتدمير؛ كحرية الاعتقاد، وحرية التعبير، وحماية الاطفال، وحقوق النساء، وحقوق العمال وما شاكل ذلك من قوانين تعد معلم من معالم منتجات العقل الانساني الحديث. أما إذا ولينا وجوهنا صوب منتجات الحداثة في الجانب الفلسفي والمعرفي من نظريات وتكلونوجيا مقارنة بمنتجات الفكر الاسلامي في القديم والحديث فتصبح المقارنة يصدق عليها العبارة المشهورة ( القياس مع الفارق)!!

ولا يفوتني التأكيد على أن الفكر الانساني المعاصر قد مر بذات التجربة التي مر بها الفكر الإسلامي منذ بدايته من قتال وحروب أسرية استخدم فيها الدين كمطية لتثبيت السلطة السياسية، كذلك مر بعملية توريث السلطة ومنع المعارضين وقتلهم، أيضا تبنى إزدراء المرأة وحرمانها من حقوقها الخاصة والعامة باسم الدين، ويقال كذلك في مسرح صراعات رجال الدين ورجال العلم، ولكنه –العقل الانساني المعاصر- استطاع بقراءة نقدية متقدمة التخلص من سطوة الماضي وتقديسه، مع الاستفادة من تجارب ومصائب الماضي، والعكوف على فهم الحاضر ومتطلباته وكيفية إعادة تشكيله وفق منظومة الحقوق والواجبات والحريات، بغية استشراف مستقبل أفضل للإنسان والحيوان والكون، ولعل في نموذج الاتحاد الاوروبي بمؤسساته السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية خير دليل على تخلصه من سلطة الماضي، وسطوة تجارب الأسلاف، وتوظيف الدين في السياسة والشأن العام. ولكن للاسف الشديد أن العقل المسلم لم يقرأ الماضي كموضوع للقراءة والنقد، ولم يفصله عن ذاته، وإنما تلقاه كمقدس ينبغي قبوله ومحاكمة حاضره من خلال وقائعه ومقولاته، حتى صار المسلم المعاصر ليس له حاضر لأنه أمتداد لماضي لم ينقطع؛ فصانعي الماضي هم الذين يديرون حاضرنا ويشكلون مستقبلنا .

ويبدو لي أن هذه الروايات والاحاديث تم إعدادها وإخراجها وتنسيبها للرسول بعد استقرار الدولة العباسية والتي كانت بحاجة إلى سلطة تاريخية تستخدمها كسيف تضرب به خصومها من المتمردين على سلطانها، وهذا ليس بغريب على انظمة جاءت بفضل تلك المعاركة الضارية التي ازهقت فيها ارواح غفيرة من المسلمين من الصحابة وابناءهم وكبار التابعين، علما بأن دولة بني أمية في تثبيت سلطانها قد سبقت دولة بني عباس في توظيفها للخطاب الديني لصالح مصالحها السياسية حيث استخدمت روايات وأحاديث عن أبي هريرة بمثابة جهاز إعلامي رسمي، كذلك فعلت دولة بني عباس حين استعملت روايات منسوبة لجدهم ابن عباس كجهاز إعلامي لثبيت سلطتها وملكها وسحق معارضيها.

ومن هنا فإن المتلقي لهذه الروايات بمعزل عن استنطاق تاريخيتها وفهما عبر سياقاتها التاريخية ومساقاتها السياسية والثقافية والاجتماعية يقع في شباك سلطة التاريخ وتاريخ السلطة ويصبح اسيرا للماضي الذي يمنعه بالوازع الديني من النهوض بحاضره ورسم مستقبله فيصبح الماضي هو الحاضر بل والمستقبل، ويردد حينئذ شعار العقل التمجيد المفضل (لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها) ، وهو لا يدري أن صلاح أولها – كما مر في ثنايا الدراسة – لم يكن إلا بإراقة الدماء، وانتهاك المقدسات، واستباحة المحارم!!

واللافت للنظر أن العقل التمجيدي تلقى مفهوم خيرية القرن الأول كمفهوم استراتيجي عقدي بالمنطق التسليمي الكهنوتي (= إقرار وإمرار) دون محاولة استعمال العقل ومنطق النقد في إمكانية إعادة النظر في مكونات وسياقات انتاج هذه الروايات والمفاهيم. وأحسب أن عدم محاولة استخدام العقل وطرائق البحث العلمي الحر في المفاهيم الاستراتيجية التي ترسخت بمنطق الطقوس والتكرار (= إذا تكرر تقرر)، يعود إلى أن إعادة النظر في هكذا مفاهيم ومسلمات يثير حزمة من الاسئلة والاشكالات المنطقية على صدقية وصوابية تلك المسلمات، وعلى الرغم من أن هذه الاسئلة تبدو منطقية وعقلانية إلا أنها في الوقت ذاته تعتبر من الاسئلة المحرمة والمجرمة عند العقل التمجيد الإحالي. ومن هذه الاشكاليات، سؤال حول حقيقة حفظ الله للذكر (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له حافظون)، فهل الحفظ يراد به حفظ الحروف، أم المعاني، أم صوابية التطبيق، أم ماذا، لأن ما دار بين الصحابة في حادثة السقيفة وبعدها من مقتل عثمان، وقتال أصحاب الجمل والصفين، وما تابع ذلك من استباحة المدينة، وحرق الكعبة، واستباحة دماء آل بيت رسول الله في كربلاء، كل هذه الوقائع تشير إلى أن معاني الوحي، وصوابية التطبيق قد أهدرت على أيدي من تنزل عليهم الذكر، فما بقى إلا حفظ حروف الذكر، وأحسب أن حفظ حروفه لم يكن المقصد الاصلي من قوله (إنا نحن نزل الذكر وإنا له لحافظون).

والإشكال الثاني، أين أثار التربية النبوية في ذلك الجيل؟ أين البعد الإيماني والاخوي من تلك الاحاديث؟ يدور حول آثار التربية النبوية ومدى رسوخ البعد الإيماني والاخوي في نفوس الصحابة، بمعنى أخر هل استطاع النبي في فترة وجيزة عمرها (23) من تغيير عادات وأنساق المجتمع العربي؟ وهل الصحابي الذي عاش عمرا مديدا في إنساق وأعراف مجتمع تربى على السيف والغزوات والقتل ومنطق السادة ومفهوم الرجولة قد تغير في بضعة أعوام نحو قيم الوحي الانسانية؟ علما بأن سنن الاجتماع تضع شروطا في تغير الانساق الاجتماعية والعقدية والثقافية لمجتمع ما، منها تبديل منهج التفكير والتعليم، ووسائل التعامل مع الاحداث والواقع، وطرق الانتاج وأدواته، والقدرة على انتاج الثقافة وصياغة الفكر والسلوك. ولعل هذا لم يحدث في عهد النبوة إلا لشريحة صغيرة مقربة من رسول الله والتي نالت القسط الأكبر من الرعاية والاهتمام، أما القطاع الأكبر ظل محتفظا بأنساقه وعاداتها الأولى، وهو ما تشير إليها تلك الوقائع التاريخية المريرة التي دارت رحاها بين الصحابة.

وثمة اشكال آخر، مفاده، إذا كان القتال والمنازعة السياسة دارت فصولها بين الصحابة الذين بايعوا بيعة الرضوان، فالسؤال الاشكالي يدور حول المفهوم القرآني للترضي (لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة)، فهل الرضى الإلهي قائم حتى بعد القتال والاحتراب، أما هو مؤقت بتلك الحادثة؟ علما بأن هنالك روايات تشير إلى إرتداد الصحابة كما جاء في حديث الحوض عند البخاري ومسلم، ذكر البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا، ثم قرأ: كما بدأنا اول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين. وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول أصحابي أصحابي. فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم........إلى قوله الحكيم .(البخاري) وفي رواية مسلم ذكر فيها الصياغة التالية...............فاقول يا رب اصحابي اصحابي فيقال انك لا تدرى ما احدثوا بعدك.

ولا يخفى أن هذا الاشكال بدوره يطرح إشكالات عدة حول مفهوم عدالة الصحابة، ومفهوم الاجماع، ومفهوم عصمة السلف، ومفهوم عصمة الأئمة، ومفهوم الإمام الغائب، ومفهوم لا تجتمع أمتي على ضلالة، وأحسب أن هذه المفاهيم تعد من المفاهيم الاستراتيجية العقدية في الفكر الديني السني و الشيعي، وإعادة النظر فيها يعني الكثير الكثير أولها التمرد على سلطة التاريخ، وسطوة الأسلاف، والانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن الحشوية إلى المنطقية، ومن الميثلوجيا إلى العقلانية.

وعلى الرغم من منطقية هذه الاشكاليات والاستفهامات إلا أن الذين يعانون من عقد تبرئة القرون الثلاثة المسماة بالخيرية والافضلية يحرمون أنفسهم من معرفة الحقيقة، ويشوهون قيم الوحي من حيث لا يدركون، حيث يتوهم هؤلاء أن تلك القرون الثلاثة جزء لا يتجزأ من الإسلام وأن رسول الله قد زكاها واثبت سلطتها. ومن هنا يقع هؤلاء الذين يعانون عقد التبرئة تحت سلطة السلف وسلطة الأموات الأحياء فينا، لأن التاريخ ليس مجرد أحداث ميتة طويت صفحتها، بل أحداث تمتد آثارها لتتجاوز عصره، وتلعب دورا في صياغة فكر أجيال وسلوكها لم تعاصر تلك الاحداث.

إن نظرة عقلانية نقدية موضوعية لتلك الأحداث التاريخية التي مزقت كيان الأمة وشرذمت وحداتها إلى سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة، والتي لا تزال حاضرة في المشهد الديني الاسلامي المعاصر. إن تلك النظرة تتطلب منا رفض سلطة الأموات الأحياء فينا، على الرغم من اندثار أؤلئك الفاعلين في تلك الاحداث بيولوجيا إلا أنهم يمارسون سلطتهم علينا أكثر من الأحياء ممن بيننا، فدم الحسين لازال يسيل دماء ودموع اتباعه إلى يومنا هذا، وبيعة السقيفة وما تلاها من بيعات لازال يدعى إليها من فوق منابر خطب الجمعة، ولا زال قبولها والرضى بها المدخل الاساسي لبيت أهل السنة والجماعة، ورفضها لا زال العنوان والوصمة الجاهزة بالرافضية والشيعية !!

وهكذا تبدو صورة القرن الأول. فلم تكن كالصورة الوردية التي يقدمها خطباء المذاهب الاسلامية، فهي بشرية بكل مكونات النفس الانسانية من نوازع الخير والشر، وحب السلطة والتملك، حيث كان تعاطيهم مع قيم الوحي بنفوس كانت في حالات احتراب وتدافع سياسي بل وقبلي وجهوي، وبهذه النفوس وتلك المكونات الانسانية تأسس في الفكر الديني بما يمكن تسميته بالإسلام المؤول وهو بالضرورة غير الاسلام المنزل المطلق من إكراهات البيئة والتدافع البشري، يعني أن ثمة نصوص ونفوس؛ نصوص قيمية ونفوس إنسانية، نصوص سماوية ونفوس طينية، نصوص معيارية فوقية لا تتأثر ببعدي الزمان والمكان الجغرافية والتاريخ، ونفوس متأثر ومتشكل أصلا بالمكان والزمان؛ ثقافيا وسياسيا واجتماعيا وسلوكيا، ولعل التاريخ حجة، ووقائعه سندا، وأحداثه دليلا على أننا أمام مفاهيم وعقائد كانت نتائج( الإسلام المؤول) وليست من منتجات (الإسلام المنزل).

ومن تلك الفترة، فترة تطويع النفوس للنصوص بدأت ظاهرة التوظيف الديني لصالح السياسة والقوميات والجهويات والاثنيات والطائفية، فكان ذلك التشرذم والتمزق والاحتراب والاقتتال بين المسلمين إلى يومنا هذا ؛ انظر إلى ما يجرى في الصومال، واليمن، وباكستان، والسودان، وأفغانستان، وفلسطين، والعراق، وإيران. على الرغم من أن قيم الوحي المعيارية تقرر قيم حرمة الانسان في ذاته بعيدا عن معتقده ولونه وعرقه ( ... من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحياء الناس جميعا)،( ولقد كرمنا بني آدم) لدرجة أن حرمة الانسان أعظم عند الله من حرمة الأماكن المقدسة كالكعبة كما جاء بن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما اطيبك واطيب ريحك ما اعظمك، واعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيدة لحرمة المؤمن اعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه (ابن ماجة)، ولكن الإسلام المؤول منذ القرن الأول لم يبق على شيء من ذلك، فقد أراق دماء المسلمين من صحابة وتابعين، ورمى الكعبة حتى أحترقت وهدمت منها أجزاء، واستباح مدينة رسول الله بكل معاني الاستباحة والاجتياح العسكري.

فهل أن الأوان للتخلص من تلك الاكراهات التاريخية، وسلطة السلف، وسطوة الماضي، والخروج من حالات التخلف إلى مساحات قيم الوحي الانسانية التي تتقاطع مع منتجات الحضارة التي تحترم الانسان والاديان والاوطان؟!!

www.a-znaqd.com