كان من سوء حظنا ، نحن جيل الخيبات ، ان نصل الاتحاد السوفياتي ونزوره في أيام انهياره ، لنكون شهودا على هذا الانهيار الذي ترك أثاره على مصائر الحياة الفكرية والاقتصادية لدول ومؤسسات وأفراد في كل مكان . وفي تلك الأجواء كان لقائي مع الصديق الفنان احمد النعمان ، وكانت لنا ذكريات طيبة، أشار لها في كلماته الجميلة التي خطها بأنامله البارعة على صدر صفحات كتابه الانهيار( دار الكنوز الأدبية 2002 ) الذي حمله البريد الي كهدية عزيزة وغالية ، واحاول هنا تسجيل بعض من انطباعاتي بعد قراءة الكتاب . يعتبر فشل تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي ، وبالتالي زوال امبراطورية تمتد على سدس الكرة الأرضية ، واحدة من ابرز الهزات السياسية التي حدثت في القرن العشرين. وظهر عدد لا يحصى من الكتب والدراسات الاقتصادية والسياسية لتحديد أسباب فشل التجربة، ورغم ذلك فكل يوم يظهر كتاب جديد ليلقي أضواء جديدة على زاوية أو مكان ما من الخارطة المتشابكة الخطوط لتلك التجربة ، التي وان فقدت جاذبيتها لفترة ، لكنها ما تزال تملك بريق الحلم الإنساني في سعيه الدائب من اجل مجتمع اكثر عدالة وإنسانية، خصوصا مع تزايد الوعي الاجتماعي بكون الرأسمالية ستظل عاجزة عن إيجاد الحلول للمصائب التي أنتجتها هي نفسها في سياق تطورها. ويأتي كتاب الدكتور احمد النعمان شهادة تحمل وجهة نظر حول جوانب من أسباب فشل تجربة البناء الاشتراكي ، وتوافقا مع الألم الذي ولده زوال الاتحاد السوفياتي في قلوب الكثيرين ، وردود الفعل الفكرية التي طالت مؤسسات وأفراد . جاء عنوان الكتاب ، من كلمة واحدة " الانهيار " وكأن الفنان النعمان يريدها ان تسقط كالحجر على رأس القارئ ليفيق وينتبه، وربما مع قليل من الألم يتناسب وحصانة "رأس " القارئ الفكرية . وبحرفة عالية يقوم النعمان بأختيار واحدة من القصص المرعبة التي شغلت ولفترة وسائل الأعلام الروسية ، إلا وهي قصة اعترافات الوحش البشري ( اندريه جيكاتيلا ) الذي اغتصب وقتل 53 مراهقا ومراهقة ، وظل طليقا لفترة تمتد لعشرين عاما دون ان تهتدي اليه الأجهزة الأمنية المتعددة للدولة التي دوخت العالم بقدراتها الاستخباراتية . ان واحد من الأسباب التي ساعدت سفاح مثل جيكاتيلا ان يستمر في نشاطه المرعب عشرين عاما ، والتي تقودنا لها مادة الكتاب ، هو فساد الأجهزة الأمنية للدولة السوفياتية ، وعزلتها عن المواطن ، وعدائها للشفافية في التعامل مع نشر المعلومات بحيث يتم التستر على كل معلومة ، وبدون اعتبار لأحقية المواطن ليعرف ما يجري ويدور حوله ، وظلت المعلومات حبيسة أدراج الموظفين والمسؤولين البيروقراطيين ، كأسرار دولة مقدسة ، مما وفر للمجرم حرية الحركة وسط المجتمع الجاهل بأعماله وما يقترف من جرائم مروعة . وبمجرد الانتهاء من قراءة الكتاب ، فالسؤال الذي يخطر بذهن القارئ : هل الكتاب رواية ، مثلما كتب الناشر على غلافه ؟ باعتقادي ان الكتاب عمل صحفي إبداعي ، بلمسات قصصية ، سجلت ببراعة تامة، ويمكن ان نسميه " ريبورتاج روائي "، أو ما يشبه ذلك ، إذ رغم اللمسات القصصية ، والتي كان بعضها بارعا ومتميزا ، ظلت المادة الصحفية هي الغالبة على الكتاب ، ليس في عناوين فصوله فقط ، بل وفي قوام مادته الصحفية الغالبة على فصول الكتاب . فالنعمان بنى مادة كتابه بأسلوب مشوق ، بكثير من الدراية في تكنيك الكتابة البوليسية ، معتمدا على محور أساسي هو القصة الحقيقية للمجرم السفاح وعملية الإيقاع به من قبل رجال شرطة سوفيت ، رغم فساد الأوضاع ظلوا مخلصين لمهنتهم وانسانيتهم ، ونثر حول قصة المجرم وببراعة ، كم لا يستهان به من المواد الصحفية الوثائقية، التي بذل جهدا واضحا في اختيارها وتشذيبها. ففي الكتاب سنجد قصص اخرى عن مجرمين اخرين يمكن ان نصادفها في أخبار الحوادث في الصحافة اليومية ، وتراجم صحفية لحياة عدة شخصيات ، وفيها لم ينس الكاتب ان يقدم لنا تواريخ ميلادهم ووفاتهم ، مثل الراهب المشعوذ راسبوتين ، المركيز دي ساد ، والقائد السياسي خروشوف ، وتمتد هذه التراجم على صفحات عديدة من الكتاب . ونجد معلومات تقريرية وانطباعات صحفية عن الحياة في الاتحاد السوفياتي ، وبل سنجد العديد من الطرائف المتداولة بين الناس ، واحكام فكرية مباشرة عن بعض الشخصيات ، ينسى الكاتب خلال بعضها أحيانا دوره المحايد كراوية ويقدم موقفه الفكري بنبرة صحفية عالية ( الحديث عن زوغانوف مثلا ) . ان استخدام هذا الكم من المادة الصحفية الوثائقية ، بأعتقادي سجن الكاتب ووضعه في قيد الارتباط بحقيقة ووثائقية المادة ، مما حد من قدرته على بناء عالم فني متخيل ، يسمح فيه للفنان الكاتب ان يحلق ليرسم مدارات قصصية ارحب . وهذا يقودني الى القول ، ان وظيفة المبدع هي ليس في تسليط الضوء وكشف مساوئ الحياة الإنسانية بشكل عام ، وهذه نجح فيها النعمان بجدارة ، بل مهمة الكاتب ان يسعى لرسم صورة تحث القارئ لتغيير هذا الواقع المرفوض ، وهذا باعتقادي ما يطمح اليه النعمان من خلال كل جهده ونشاطاته المتعددة الأوجه ، ونلمس ذلك أيضا في إهدائه كتابه الى الأجيال الناشئة التي تمنى "ان تأخذ مكانها تحت الشمس بأقل الخسائر ". وفي الكتابة الفنية يمكن ان يكون هذا من خلال طرح رموز أو إشارات أمل لتخطي مساحات الألم والفشل الإنساني ، فأين هذا في كتاب "الانهيار" ؟ ربما يمكن القول انها شخصية ( الضابط بيتورن) ، ولكن بأعتقادي هي شخصية إيجابية عامة ، فهو رجل قانون ونظام نزيه وشريف ، ويمكن ان نلتقيه في أي بلد اشتراكي أو رأسمالي. وبحكم كون كتاب النعمان مساهمة في البحث عن عالم افضل ، كنت ــ وكقارئ ــ اطمح لوجود شخصية ، تحمل شيئا من وجع الفنان النعمان ذاته ، وتظل تشير الى كون حلم افلاطون يمكن له ان يهبط يوما من صفحات الكتب وأحلام الفلاسفة الى الواقع حيث الإنسان يفهم قيمة الإنسان الآخر. وهذا الذي أقوله لا يمكن أبدا ان يقلل من قيمة الكتاب الذي جاء كشهادة تعكس الحس الإنساني للمؤلف ، وموقفه الفكري الذي نتلمسه من خلال حسرته على انهيار البناء الشامخ لدولة كانت قبلة للثوريين والديمقراطيين والطامحين لتحقيق حلم الثوار الكبار.