أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - الملائكة تتكئ على عصا















المزيد.....

الملائكة تتكئ على عصا


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 1935 - 2007 / 6 / 3 - 09:25
المحور: الادب والفن
    



كان عبد الباسط في منتصف الستينيات من عمره، يمشي مستنداً على عصا خشبية متآكلة مثل أسنانه السوداء. ملابسه رثّة، قديمة، لكنها نظيفة دائما. كان يرتدي جلباب أهل الريف و يحتفظ فوق رأسه بطاقية رمادية لا يخلعها عن رأسه أبداً, كانت تلك الطاقية تخفي أثر ندبة طالت جزء من جبهته أيضاً. لم يكن وجهه مريحاً أبداً خاصة تلك الندبة العميقة تحت جفن عينه اليمنى.

لم أكن أدرك ما الذي يعمله عبد الباسط تحديدا، و لكن من المفترض أنه يعمل حارساً للبناية المقابلة لمنزلنا. كنت ألاحظ أنه يقوم بأعمال كثيرة لا تحصى كتنظيف سيارات السكان و شراء حاجيتهم من السوق وإن لزم الأمر فإنه قد يعمل لدى السكان كنجّار أو سبّاك أو كهربائي أيضاً.

كان الأمر يبدو مضحكاً كثيراً لنا كأطفال لم يتجاوزا العاشرة من العمر بعد لمّا كان عبد الباسط يمر من أمامنا و بيده سلة مشتريات أو أنبوبة غاز، بينما اليد الأخرى تستند على عصا..! كان الأمر منبع قهقهاتنا و مرحنا يغذيها بالطبع شكله المتآكل.

لم يكن العجوز عبد الباسط يبدي أيّ انزعاج من ضحكاتنا و مرحنا وحتى سخريتنا منه و هو يسير على هذا النحو غير المألوف .. بل كان يرسم ابتسامة فيها شيء من الارتباك تحمل في طياتها الكثير من الطيبة و الألفة التي لا تتماشى مع تلك الندابات التي يحملها و جهة الأسمر.

وذات يوم ممطر جاء عبد الباسط كالعادة يحمل سلة من البيض و الطماطم و الخبز لأحد سكان البناية ، وما أن مرّ من أمامنا ، حتى بدأنا كالعادة في طقوس الضحك و المرح و التفت عبد الباسط لنا كالعادة مبتسماً و لكنة فقد توازنه و تزحلق و سقط بسلة المشتريات فتعالت ضحكاتنا أكثر و أكثر.

نادتني جدتي و قالت لقد شاهدت ما حدث لعبد الباسط اليوم و شاهدتك أنت و أصحابك و أنتم تقهقهون و تمرحون.

- لماذا كنتم تضحكون..؟

فقلت وأنا أضج من الضحك: يا جدتي انه رجل مضحك جداً.. أما لاحظت كيف سقط فارتطم البيض وأفسد الطماطم ..!!

كان ذلك مضحكاً للغاية..!

نظرت لي جدتي نظرة غريبة وأومأت لي بهدوء شديد أن اجلس قربها، وقالت : هل تعرف يا صغيري بأن ثمة ملائكة موجودة معنا .؟؟

قلت : بلى!

اقتربت مني هامسة و عيناها تشع ببريق غريب من الحزم و الحنان في آن واحد و قالت أسمع أن عبد الباسط هو أحد هؤلاء الملائكة.

فاجئني كلامها فجاء رد فعلي عنيفاً: هذا غير صحيح يا جدتي. الملائكة لها أجنحها و هي بيضاء تطير في السماء ، لا تنزل على الأرض و عبد الباسط هذا ليس من الملائكة.. أنا أعتقد أنه هارب من السجن أو من السيرك و لكنه لا يمكن أن يكون من الملائكة أبداً.

قلت ذلك بكثير من الحماس و الثقة و كأن الملائكة من أصدقائي المقربين.



حسناً سأحكي لك حكايات عن ملائكة الأرض و لكن دعنا نبدأ بعبد الباسط – هل تعرف لم يمشي متكأ على عصا؟ هززت راسي نفياً و قد بدأ الفضول يتسلل جوارحي.

كان عبد الباسط يعمل في قريته حارساً لمخازن القطن ، ذات يوم جاء لصان من الأشرار على شاحنة يريدان سرقة محصول القطن، فتصدى لهم عبد الباسط و حدثت معركة أطلق فيها اللصان النار على عبد الباسط فأصابته رصاصة في ساقه اليسرى. لقد استطاع عبد الباسط حماية محصول القطن للسيد الذي يعمل لديه، ولكنه لم يستطيع أن يحمي رجله، فعاش بعد ذلك و هو يعرج كما ترى..

أما تلك الندبة التي تعلو رأسه، فتلك قصة أخرى .. تنهدت جدتي تنهيدة عميقة و كأنها تستحضر

ذكرى مؤلمة لا تحبذ أن ترويها لي و لكنها تابعت قولها: عندما شبت النار في بيت جيرانه، لم يستطيع سكان القرية إطفاء النيران المشتعلة و كان هناك أطفال لا يزالوا داخل البيت, فاقتحم عبد الباسط الكوخ بكل نخوة كي ينقذ من بداخله و لكن و هو في طريقه لإنقاذ آخر الأطفال سقط جزء من خشب السقف فوق رأسه و رغم الوجع تابع إنقاذ الجميع ، وبعدها ذهب في غيبوبة طويلة ظن فيها الناس أنه سيموت و لكنة لكنه عاد للحياة ثانية حاملاً تلك الندبة كعلامة محبة من الله و وسام جديد تباركه السماء يتوسط رأسه..!

كان حديث جدتي عن عبد الباسط يمثل لي نقطة تحول مثيرة لأن حديثها شكل لي صدمة لمفهوم الإدراك لما غالباً ما يقرره خيالي بعدما تراه عيناي.. و لذلك قررت أن أقاوم جدتي و قلت بلهجة فيها تحدي الرمق الأخير.. و ماذا عن تلك الحفرة العميقة في وجهه؟

ابتسمت جدتي و كأنها أدركت بأن هذا السؤال هو آخر ما في جعبتي و قالت: حسنا أنت تريد أن تعرف سر ذلك أيضاً .. هذه الندبة العميقة تحت عينه قصتها كانت هنا و في حينا هذا, فقد تبع بعض الشبان ابنة جارنا الخواجة اليوناني كاريكاس محاولين التحرش فتصدى لهم عبد الباسط مدافعا عن الفتاة كالملائكة ، و نجم عن المعركة ندبة عميقة تحت عينه، بل أن احد هؤلاء الشبان الأشرار ضربة بسكين و شق بطنه و رغم ذلك ها أنت تراه حيّا يعمل بجد و نشاط ومحبة مستعد لحمايتنا من الشرور .
..

لم أستطع النوم تلك الليلة، فقد انتابني الحماس بأن يأتي الصباح سريعاً كي أقف لأرى شكل

الملائكة الحقيقي.. كنت اشعر بأني أصبحت أكثر وعياً و إدراكاً و حكمة فأنا أعلم سر عبد الباسط.. و بأني قد ارتكبت معصية في سخريتي من أحد الملائكة.

في الصباح نهضت باكراً لكي أرى عبد الباسط يمشي وهو يحمل حاجيات السكان كالعادة.. كنت أريد أن يراني و أنا لا اضحك علية هذه المرة بل كنت أود أن أرفع يدي لتحيته من بعيد لعلة يعلم بأني أيضاً أحب الملائكة و بأني عندما كنت أضحك علية لم أكن أعلم بأنة واحداً منهم – و انتظرت - و لكنه لم يأتي.. تشجعت و ذهبت إلى مدخل البناية و بدأت أنادي: عبد الباسط .. عبد الباسط .. و تذكرت بأن الملائكة لابد أن تستحق مزيداً من الاحترام و لا يجب أن نناديها بأسمائها مجردة هكذا – تلعثمت و أنا أبحث عن كلمات شاردة و لكن في النهاية صحت قائلاً: عم عبد الباسط.. عم عبد الباسط .. و جاء صدى صوتي .. باسط .. باسط .. ثم لا شيء سوى صمت غريب طويل- لم يقطع هذا الصمت سوى طرقات حذاء سيدة تحمل في يدها حاجيات تسوقها من خضار و خبز و لفافات حلوى – نظرت برقة إلي ثم أخرجت قطعة من الحلوى و مدت يدها لتعطيني إياها قائلة: لا تتعب نفسك فهو لن يرد عليك.. لقد رحل عبد الباسط و لن يعود مرة أخرى بعد اليوم.. جاء أهله وأخذوه فجراً.. لقد كان مريضا جدا ...



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسنان البحر
- المحظورات و أول و آخر صفعة
- أوروبا تعزز المعرفة الفيزيائية بين شعوبها
- فوضى الزحف إلى المدن
- صياغة العقول تبدأ من توم وجيري
- طقوس و تنوع الانتحار عبر التاريخ
- براكين عصرية
- قراءة في رواية الطريق الوحيد
- البحث عن مدينة أخرى
- شقيقا روح
- الصناعات البلاستيكية و سلامة البيئة
- إغتيال كوكب الأرض
- نعانق الضوء خارج القفص
- الشعر الكثيف يفسد العقل
- أريد أباً
- !! ومن السر ... ما قتل


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - الملائكة تتكئ على عصا