|
|
سيبويه مستشرق الشرق
رضا علي حسن
الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 09:13
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
اختلف القدماء والمحدثون من المهتمين بالفكر اللغوي بين مؤيد ومعارض حول كتاب "سيبويه" في بعض أفكاره وقضاياه اللغوية أو في كامل منهجه. وانشغل المؤيدون له والمخالفون بكتابه عن سيرة حياته التي أحيطت بالغموض والتغافل أو لحقها التدمير الذي ابتُلي به التراث العربي المكتوب بعد الاجتياح المغولي. وبلغ حدّ تأييد الأقدمين له إلى تقديس "الكتاب"، إنجازه الفريد، كما بلغ حدّ انتقاد المحدثين له اتّهامه بأنه سبب تخلّف الدراسات اللغوية العربية والعائق من وراء نموها وتطورها. وبين التأييد والرفض، ظلّت سيرة "سيبويه" حبيسة الروايات المتضاربة، والتأريخ المتناقض أو المنقوص. وكأن قلم التاريخ يأبى أن يعمل في سيرته إلا بالشطب والإهمال، ذلك القلم الذي اهتم بالكتاب ونسي سيرة صاحبه، هو ذاته القلم الذي رحّب بإنجاز العربية الفريد ونقده على حساب الصبي الفارسي الذي جاء من الشرق إلى بلاد العرب ليتفقّه في الدين فغدا رائدًا للعربية وسببًا من أسباب حفظها. فكيف يحفظ التاريخ تفاصيل أخطاء النطق التي وقع فيها متعلّم أعجمي للعربية، وكيف يحتفي بدقائق تفاصيل المناظرة القاتلة التي انزوى بعدها ومات، ولم يحافظ على أسس سيرة حياته البسيطة في مسقط رأسه في بلاد فارس، وطبقة أسرته، والتواريخ الدقيقة لسنوات ميلاده وانتقاله إلى البصرة ووفاته، وغيرها من التفاصيل الأخرى التي قد تُعين الباحث في تتبّع السياقات الاجتماعية والنفسية والثقافية التي مكّنته من تأليف كتابه "الكتاب"، والتي من الممكن أن تزيد من فهمنا له أو تُصوّبه. السطور القادمة هي محاولة للفهم، ربما تشقّ الطريق إلى استيعاب جديد لظاهرة "سيبويه" الفريدة في التاريخ اللغوي، لعلّها تُلقي للدارسين بصيصًا من الضوء يهتدون به في ضربٍ طويلٍ وشاقٍّ من ضروب ثقافتنا العربية، ولعلّهم يُخرجون اللغة العربية وقواعدها من ثوب الماضي المترهّل ويضعونها في ثوبٍ يليق بالجانب المستنير من ثقافتها.
سيبويه كنية فارسية "سيبويه"، لقب اشتهر به "عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي" واستقرّت نسبته في عقول المشتغلين باللغة والنحو، متفوّقًا على الكنى التي أطلقها عليه العرب مثل "أبو بشر" و"إمام النحاة" و"رئيس البصريين" و"حجة العرب"! تعود هذه الكنية الأشهر إلى الأصل الفارسي "سيب" أي "التفاح"، وأضيفت إليه اللاحقة "وَيه" لتدل على التصغير واللطافة. وتفنّن العرب في ردّ هذه الكنية إلى أسباب كثيرة تتعلّق بصفاته، فمن قال إن فمه يفوح برائحة التفاح، ومن قال إن وجهه المشرق الأبيض مخضّب بحمرة التفاح، ومن قال إنه كان يحب التفاح ويحمله دائمًا! والحقيقة أن كلمة تفاح تعني في الهندية والفارسية "سيب" وأن رائحته تعني في الهندية "ماهاك" بتفخيم الميم، وتعني "رائحة" في الفارسية، فكيف انتقى العرب من صفات التفاح رائحته ليؤولوا به اسمه؟ وتتلخص الإجابة في أن التأويل عند العرب يخضع لمخزونهم الثقافي وليس المعرفي، حيث تُنسب الأشياء للصفات التي يحبونها أو يكرهونها، وليس لمدلولها الثقافي أو المعرفي في لغات الأعاجم الوافدين. ولا يقتصر ذلك الطابع على العرب فقط، إنما يشمل ذلك أيضًا أصحاب الحضارات المتفوّقة أو المنتصرة، ولا سيما الحضارات الدينية. ولا شك أنه كان يحمل لقب "سيبويه" عندما قدم إلى البصرة في سن الرابعة عشرة. وهذا يعني أن أمه أو أسرته هي التي أطلقت عليه هذه الكنية قبل انتقاله إلى العراق، ربما لتوافق صفة لديه مع صفات التفاح كاللون أو النضارة أو الرائحة الزكية أو استدارة الوجه وتناسقه، أو أنه كان اسمًا لآخر تتبرك به الأسرة، أو تريده أن يحذو حذوه. ولا يوجد دليل على أن العرب قد عرفوه بهذه التسمية عندما جاء إلى العراق لأنهم قد أطلقوا عليه فيما بعد كنية "أبو بشر"، ربما لأن وجهه كان بشرًا بشوشًا حيث لم يُعرف أنه تزوّج أو كان له ولد، لكن هذه هي عادة العرب في إطلاق الكنى لتمييز الرجل حتى وإن لم يكن له ولد. وفي النهاية، بعد إنجازه الفذ في النحو العربي، تغلّبت كنيته الفارسية على كنيته العربية "أبو بشر" وعلى اسمه العربي "عمرو بن عثمان"، وعرفه الجميع عربًا وعجمًا بكنيته الأصلية التي جاء بها ليتعلّم في بلاد الدين الجديد وحضارته الجاذبة. ويُعدّ اشتهاره بهذه الكنية الفارسية دليلًا على بداية تشكّل وعي حضاري إسلامي جديد يعترف على استحياء بالتفوق الأجنبي في ذلك العصر، ويناهض الشعوبية العربية المتنامية التي عانى منها "سيبويه" وأمثاله من المسلمين غير العرب على مدار حياته القصيرة في العراق رغم إنجازه الفريد. ولا شك أن ثمرة هذا الجهاد اللغوي قد صبّت في صالح انفتاح اللغة العربية على الثقافات المحيطة، وإثراء معجمها، ومن ثم حفظ اللغة العربية وانتشارها، لغة القرآن الذي حثّ على نبذ الشعوبية، ولم يفرّق بين الناس على أساس العرق أو الهوية. نشأته الغامضة إن الغموض الذي يكتنف سيرة "سيبويه" رغم الشهرة الطاغية التي حظي بها كتابه بعد موته يستدعي الظن في محاولة طمس هويته الفارسية. كيف حظي "الكتاب" بهذا القدر من الشهرة والتبجيل والاحترام الذي وصل إلى حد التقديس في حين تغافل تلاميذه وكتّاب السير والمهتمون باللغة العربية عن تتبّع نشأته وأصله أو حتى المعلومات الأولية الدقيقة عن تاريخ ميلاده وزواجه ووفاته أو اسم أمه التي قيل إنها أطلقت عليه هذا اللقب أو أخيه الذي ضمّه إلى حضنه قبل وفاته؟ يثير السؤال السابق مفارقةً عجيبةً تستدعي الوقوف على ما هو معلن من سيرته لطرح المزيد من التساؤلات عمّا خفي منها. ولد "أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي" الملقّب بسيبويه في بلدة "تل بيضاء" الفارسية الواقعة على بُعد 42 كم شمال غربي "شيراز"، ويرجَّح أنه وُلد فيها سنة (140 هـ) ويُقال (148 هـ)، ورحل منها إلى البصرة في سن الرابعة عشرة مع أبيه أو أسرته – كما ذكرت الروايات المتضاربة – قاصدًا تعلّم القرآن والحديث، ودُفن في "شيراز" حوالي (180 هـ) ويُقال في (195 هـ). كان مولى بني الحارث بن كعب، وقيل إنه من موالي آل الربيع بن زياد. اتجه "سيبويه" إلى دراسة الفقه والحديث عند "حماد بن سلمة البصري" (91 هـ - 167 هـ)، وكان من رواة الحديث، يُلقَّب بالإمام شيخ الإسلام "أبو سلمة النحوي". خطّأه شيخه حماد عندما كان يُملي عليه حديثًا جاء فيه: "قال صلى الله عليه وسلم: ليس من أصحابي أحد إلا لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدَّرداء"، فقال سيبويه: "ليس أبو الدَّرداء"، ظنّه اسم ليس، فصاح به حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، إنما هو استثناء. فقال سيبويه: "لا جَرَم والله لأطلبنَّ علمًا لا تُلَحِّنَنِّي فيه أبدًا"، وقرّر تعلّم النحو عند إمام العربية وشيخها "الخليل بن أحمد الفراهيدي" (100 هـ – 173 هـ)، وهو شاعر ونحوي عربي بصري أصله من عُمان، وهو واضع علم العَروض، وأول من قدّم نظام علامات التشكيل، وصاحب قاموس "العين" أول قاموس في العربية. وكان "الفراهيدي" زاهدًا ورعًا سمحًا ومتقشّفًا، فصار "سيبويه" يُلازمه كالظلّ، وتأثّر به، واستشهد به كثيرًا في كتابه. ولم يكتفِ "سيبويه" بشيخه "الفراهيدي" في علوم النحو والعربية، فأخذ العلم عن "أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب الضبي" (90/80 هـ - 192/193 هـ)، وهو نحوي ولغوي من تلامذة "حماد بن سلمة" وواحدٌ من أساتذة "الفراهيدي"، ومن أهم كتبه "المعاني". وكذلك "عيسى بن عمر الثقفي البصري" (تـ 149 هـ) وهو قارئ نحوي من موالي بني ثقيف وواحدٌ من الذين تأثّر سيبويه بعلمهم كثيرًا، وكان أستاذًا للفراهيدي أيضًا. ومن المعروف أن "علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن" (120 هـ - 189 هـ) وشهرته الكسائي، و"أبو زكريا يحيى بن زياد الديلمي" (144-207 هـ) وشهرته الفراء، إماما مدرسة الكوفة، من تلامذتهم أيضًا. وقد تأثر "سيبويه" بالثقافة المحيطة به واتجاهات أساتذته وزملائه المتنوعة، حيث كانوا جميعًا يَدرُسون ويُدَرِّسون ويختلفون في آرائهم حول قضايا النحو واللغة، وأدى ذلك إلى توسّع معرفته بعلم النحو والصرف والعَروض لأنه تربّى علميًا على ذلك التنوع الثقافي، ومكّنته هذه المعرفة المتنوعة من أن يتبوأ مكانةً علميةً فريدةً في تخصصه. رحل "سيبويه" إلى بغداد للقاء "الكسائي" شيخ الكوفيين وتلميذه "الفراء"، ووقعت بينهما مناظرة في النحو تُسمّى بـ "المسألة الزُّنبورية" وقد تغلّب فيها "الكسائي" على "سيبويه"، غير أن "سيبويه" لم يبقَ في بغداد بعد هذه المناظرة، وقيل إنه لم يعد إلى البصرة بل اتجه عائدًا إلى مسقط رأسه في فارس، ومات متحسّرًا في بلدته في شيراز بين ذراعي أخٍ له تغافلت المصادر عن ذكر اسمه. بعد وفاة "سيبويه" قام تلميذه "الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة" (140/150 هـ - 215 هـ) بنشر كتابه على العلماء وتدريسه للطلاب. وكان "الأخفش الأوسط" مثل أستاذه فارسي الأصل من الموالي من مواليد مدينة "بلخ" شمال فارس. ولقد أولى "الأخفش الأوسط" اهتمامه الأول بإخراج الكتاب الذي كتبه أستاذه قبل موته وفاءً له حتى لا يضيع جهده هباءً، ليثبت للكوفيين قدر ومكانة أستاذه، خاصةً بعد موته المؤسف. وكان "الأخفش الأوسط" التلميذ الأقرب إلى "سيبويه"، ويُعتبر وريثه العلمي، حيث اقتنى النسخة الوحيدة من كتابه، وأكملها، ودرّسها لتلاميذه، ومن خلاله وصل الكتاب إلى "المبرّد أبو العباس محمد بن يزيد" (207-285 هـ) من مدرسة البصرة وهو من كبار شُرّاح الكتاب، و"ثعلب أبو العباس أحمد بن يحيى" (200-291 هـ) من مدرسة الكوفة ورأس مدرستها بعد "الكسائي" و"الفراء"، و"ابن السراج أبو بكر محمد بن السري" (211-316 هـ) وهو من أعمدة المدرسة البغدادية التي وفّقت بين مدرستي الكوفة والبصرة.
من "شيراز" إلى "البصرة" قضى "سيبويه" أربعة عشر عامًا في مدينة "شيراز" التي وُلد فيها قبل انتقال أسرته إلى البصرة في عصر الخليفة "أبو جعفر المنصور" الذي تولى الحكم في (136-158 هـ)، وهي مدينة فارسية غنية ومزدهرة اقتصاديًا حيث كانت تقع على خطوط تجارة الحرير، وقد اشتهرت بالتجارة والزراعة وصناعة النسيج والسجاد والحرف اليدوية ورعاية العلم والعلماء، كما اشتهرت طبقة التجار الأثرياء فيها بإرسال أبنائهم لتحصيل العلم في "البصرة". وكانت بالطبع اللغة الفارسية في "شيراز" هي لغة الناس، بينما كانت اللغة العربية هي لغة العلم الديني والإدارة. وبحكم قربها من مدينة "جنديسابور"، كان بها نشاط للترجمة من الهندية إلى اللغة البهلوية الفارسية مثل ترجمة "كليلة ودمنة" إلى الفارسية قبل ترجمتها إلى اللغة العربية، حيث كانت "جنديسابور" واحدةً من مراكز الترجمة الكبرى قبل دخول الإسلام إلى فارس وبعده. لا توجد أي أخبار عن تعليم "سيبويه" الأول في شيراز أو الطبقة التي تنتمي إليها أسرته، أو الأسباب التي دفعت هذه الأسرة إلى اختيار البصرة كوجهة للهجرة، لكن تاريخ نشأة البصرة والكوفة قد يوحي بسبب اختيار المهاجرين إليها، وخاصة المهاجرين من بلاد فارس، إذ تأسست البصرة، المدينة الأولى التي أنشأها المسلمون في (14 هـ) في عهد الخليفة "عمر بن الخطاب" (40 ق.هـ - 23 هـ) لوقوعها على البحر وعلى حدود فارس، لتكون قاعدةً عسكريةً ينطلق منها الجنود لفتح فارس، ثم تحولت إلى مدينة علمية وتجارية، وأصبحت مركزًا للحديث والفقه واللغة، وضمت العديد من الثقافات والأعراق كالعرب، والفرس، والسريان، واليهود، والأحباش، والهنود، واليونانيين، وكذلك عرق "الزط" - أو "الجات" بالهندية - الذين جلبهم "الحجاج بن يوسف الثقفي" (40-95 هـ) من السند والبنجاب إلى الأهوار في جنوب العراق لتربية الجواميس ولحفظ الأمن. وتأسست من بعدها مدينة الكوفة غربي البصرة بما يقارب 370 كم كقاعدة عسكرية أيضًا في (17 هـ)، وفضّل العرب الإقامة بها نظرًا لبعدها عن فارس وعن البصرة لأسباب أمنية، وأصبحت مركزًا إداريًا وسياسيًا بعد أن سكنها الخليفة "علي بن أبي طالب" سنة (36 هـ) ونقل إليها عاصمة الخلافة حتى وفاته سنة (40 هـ). وكان يغلب على الكوفة تفوّق الطابع القبلي العربي، حيث كان العرب فيها هم أصحاب الأغلبية العددية بالمقارنة بالبصرة. وتفيد المقارنة بين البصرة والكوفة، تصور الطابع الأساسي الذي انصبغت به المدينتان، حيث انعكس انفتاح البصرة الثقافي وتعدديته المعرفية واللغوية على مؤسسي مدرسة البصرة اللغوية، وهي المدرسة الأقدم بما يزيد عن مئة عام عن مدرسة الكوفة، بدايةً بـ "أبي الأسود ظالم بن عمر بن سفيان" (16 ق.ه - 69 هـ)، الشهير بـ "أبي الأسود الدؤلي" واضع علم النحو، وتلاميذه من علماء الطبقة الأولى في القرن الأول الهجري مثل "عنبسة بن معدان المهري" ويُلَقَّب بـ "عنبسة الفيل"، و"نصر بن عاصم الليثي الكناني" و"يحيى بن يعمر العدواني القيسي"، ثم المؤسس المنهجي لها وهو "الخليل بن أحمد الفراهيدي" وتلميذه "سيبويه". وانعكس الطابع القبلي الأصيل وانغلاقه على مدرسة الكوفة، بدايةً من "المفضل بن محمد بن يعلي الضبي" (100-178 هـ) وهو من أصدق رواة الشعر والحديث وأبرز علماء اللغة في الكوفة، وأستاذ "الكسائي" و"الفراء". وانعكست هذه الطبيعة الثقافية على تناول الفريقين للقضايا اللغوية، وتغلب التناحر الشعوبي المكتوم بينهما، وهو تناحر يغلفه الاجتهاد وسعة الأفق والمنهجية من قبل مدرسة البصرة بمن فيها من علماء عرب وموالي، والشعوبية والانتقائية والتآمر من قبل مدرسة الكوفة، التي تعلّم معظم أئمتها على أيدي العلماء المؤسِّسين من مدرسة البصرة. وبعدما شاع "الكتاب" واعترف به علماء البصرة والكوفة ملأ اسم "سيبويه" الآفاق بعد موته، وصار الكتاب عمدة كتب اللغة العربية، حتى قيل على سبيل مبالغة العرب المعروفة آنذاك إن اللغويين وضعوه موضع التقديس وأن الدارسين كانوا يحفظونه كالقرآن والحديث، وأطلقوا عليه اسم "الكتاب" لأن "سيبويه" وتلميذه "الأخفش" لم يحدّدا له اسمًا، فاشتهر كتابه باسم "الكتاب" بلا إضافة، لكنه عُرف أيضًا بـ "كتاب سيبويه" و"أم الكتب في النحو" و"أصل النحو" و"كتاب النحو" و"كتاب العربية"، وبالغ المُحدَثون بأن أطلقوا عليه "قرآن النحو"، بينما ظلت سيرة مؤلف الكتاب صاحب الأصل الفارسي حبيسة الصدور، وأهمل الرواة في بحثها، ربما لكراهية ذكر وترديد أصل العالم الفارسي الذي جاء ليعلّم أهل اللغة العربية لغتهم، بل تفوّق عليهم، وانصب اهتمامهم بسيبويه على كتابه فقط. والأمر لا يتطلّب في هذا الصدد التركيز على دور الشعوبية والتنافس المكتوم بين العلماء في طمس الهوية الثقافية للعلماء الموالي من العجم في القرون الأولى في الدولة الإسلامية، طالما اعترف الجميع بإنجازاتهم العلمية التي نُسبت في النهاية إلى الحضارة الإسلامية. وقد خَفَتَت الشعوبية بعد الاجتياح المغولي للدولة العربية، وبقي الإنجاز الحضاري الإسلامي وتنامى ازدهاره. الحافز على دراسة اللغة العربية كان ذلك الحافز الذي دفع "أبو الأسود الدؤلي" لتنقيط الحروف تجنّبًا لأخطاء قراءة القرآن من قبل المسلمين من غير العرب، وهو ما يُعرف اصطلاحيًا بـ "اللحن"، هو نفسه الحافز الذي دفع "سيبويه" لتأليف كتابه الشامل في قواعد اللغة العربية، ووضع التشكيل فوق حروفها وضبط حركات إعرابها، لتعليم غير العرب قواعد لغة دينهم الجديد. وقيل إن "أبا الأسود الدؤلي" تعلّم هذا من "علي بن أبي طالب" عندما قال له: "أنحو هذا النحو"، حيث عُرفت لذلك دراسة قواعد اللغة العربية باسم "النحو". يتعلق الحافز الأسمى بعقيدة "سيبويه" الراسخة وورعه الشديد وخوفه من الخطأ في قراءة القرآن والحديث والكلام بالعربية، حتى أنه كان يغضب كلما خطّأه شيخه "حماد بن سلمة". وقتلَه غضبه وحرصه على تجنّب الخطأ بعد أن تعمّد "الكسائي" و"الفراء" تخطئته في المناظرة الشهيرة بحيلةٍ ماكرةٍ من حيل العرب ودهائهم، ومات سيبويه حزنًا على خطئه، وقد كان على صواب. ويتمثل الحافز الثاني في جهاده ليتعلم قواعد لغة غير لغته الفارسية أنه كان حريصًا على تعليم موالي الفرس المسلمين اللغة العربية كي تمكنهم من تعلم دينهم وتسهّل عليهم الانخراط في المجتمع العربي المغرق في الشعوبية والتحزّب لكل ما هو عربي. وآخر تلك الحوافز التي رُويت عنه، والتي تتعارض مع ما رُوي عنه من ورعٍ وتقشّفٍ اقتداءً بأستاذه "الفراهيدي"، رغبته في التقرب إلى الخليفة "هارون الرشيد" ووزيره "يحيى بن خالد البرمكي" حتى يُحسِن من وضعه المالي، حيث لم تُعرف له صنعة غير العلم، وكان فقيرًا يعيش على الكفاف مثله مثل أستاذه "الفراهيدي". ولو كان الحافز الأخير صحيحًا، لاستغل اتفاق الأصل الفارسي مع يحيى البرمكي في التودد إليه. ولم تُسعف المعلومات المتاحة عن سيرته لترجيح رغبته الحقيقية في التقشّف على استعداده لكسب المال من علمه كباقي علماء عصره، وخاصةً من علماء الكوفة. خلقت هذه الحوافز الثلاثة إرادةً فولاذيةً لطفلٍ أعجميٍّ قدم من فارس في سن الرابعة عشرة ليتعلم الحديث والقرآن، ثم انصرف إلى تعلم اللغة العربية عندما أدرك أنها السبيل الأقوم والوسيلة المثلى لتعلم وفهم القرآن والحديث، حتى أجاد اللغة العربية ووضع بها وفيها كتابًا فريدًا ونفيسًا يصف فيه بنيتها، وقواعد إعراب كلماتها وتصريفها، ودلالات معانيها، وطوّر من نظام التشكيل وحركات الأصوات الذي وضعه أستاذه الفراهيدي، ليضبط به نطق حروفها ليُيَسِّر قراءتها، ويميز معاني كلماتها.
المناظرة النحوية القاتلة ولدت لديه هذه الحوافز مجتمعةً إرادةً قويةً دفعته أن يتحدى نفسه أولًا ليبرع في قواعد اللغة العربية، ويكتب فيها كتابًا شاملًا يؤسس به علم النحو في إطار معرفي منظم، كما ولدت لديه روح النقاش مع شعراء العربية وعلمائها الأقحاح في مسائل لغوية دقيقة، رغم حبسة لسانه التي عُرِف بها والتي وصفه بها "الأصمعي" و"السيرافي" و"ابن خلكان". ويقال في وصف هذه الحبسة اللغوية إنها لكنةٌ خفيفةٌ أو تأخرٌ في نطق بعض الأصوات التي تثقل على من يتعلم العربية من العجم، وإن أجادها. والمعروف علميًا أن أصحاب اللكنات أو حتى الذين يثقل لسانهم في لغاتهم الأم متميزون وبارعون في أفكارهم، كأنهم يعوضون قصورهم في الجانب الشفهي بوضوح في الكتابة، وترتيب الأفكار، والدقة العلمية والمنهجية. اشتهرت مناظرة "سيبويه" و"الكسائي" باسم "المسألة الزنبورية" نسبةً إلى موضوع العبارة محل المسألة النحوية التي طرحها عليه غريمه "الكسائي": "قد كنت أظنّ أن العقرب أشد لسعًا من الزنبور فإذا هو هي - أو إياها". وهي قضية نحوية تتعلق بما يأتي بعد "إذا الفجائية"، حيث أصرّ "سيبويه" بأن الصحيح هو الرفع (فإذا هو هي)، بينما أصرّ الكسائي على جواز النصب (فإذا هو إياها). وكان "سيبويه" يرى أن ما يأتي بعد "إذا الفجائية" لا يجوز فيه النصب، قياسًا على ما ورد بالمثل في شواهد من القرآن، والصواب هو الرفع (فإذا هو هي)، بينما يفيد موقف الكسائي بجواز النصب (فإذا هو إياها)، وأن الوجهين جائزان. وحضر المناظرة "الفراء" الذي ساند أستاذه "الكسائي"، و"يحيى بن خالد البرمكي" الذي آثر الصمت لأنه من أصول فارسية، ولأنه وزير "هارون الرشيد" الذي صنع من أجله الحركة الثقافية في بلاطه وجلب له الشعراء والعلماء ومن ضمنهم "سيبويه". وحكم بينهما الأعراب الذين جاء بهم "الكسائي" من البادية ليؤيدوا وجهة نظره، وغادر "سيبويه" مجلسهم حزينًا. ولكن الأعراب تهرّبوا عندما طُلِب منهم النطق بالجملة، مما يشير إلى صحة رأي سيبويه، بل أشاروا لاحقًا بصواب رأيه، لكن الأوان كان قد فات بعد أن ترك لهم "سيبويه" العراق وعاد ليموت منكسرًا من الحزن في بلدته شيراز.
سيبويه بين أهل العدل وأهل السنة طال الغموض عقيدة "سيبويه" بنسبته تارةً لأهل السنة وتارةً أخرى لأهل العدل والتوحيد. نَسَبه "أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي التميمي" (350-429 هـ) إلى أهل السنة والجماعة، وهو من أشد المتعصبين من الأشاعرة في عصره، وألحق معه "الفراهيدي" و"أبو عمرو بن العلاء" و"الفراء" و"الأخفش". ونسبه "المهدي لدين الله أحمد بن يحيى"، المعروف بـ "ابن المرتضى اليماني" (775-840 هـ) في كتابه "المنية والأمل في شرح الملل والنحل" إلى أهل العدل والتوحيد، ويقصد بهم المعتزلة، ودلّل على ذلك بمروية على لسان أستاذ "سيبويه" "أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري" (122-215 هـ) بأن "سيبويه" لم يكن يشير إليه في "الكتاب" باسمه وإنما بعبارة "بمن نثق في عربيته". وقد تم تأويل هذه المروية بأن "سيبويه" لم يصرّح باسم أستاذه "أبو زيد الأنصاري" لأنه كان من أهل العدل والتشيع، وهناك من قال عنه إنه من القدرية. ويرجّح أن سيبويه خاف من بطش العباسيين الذين خالفوا مبادئ المعتزلة حتى تولّي الخليفة "المأمون" الحكم بعد موت "سيبويه" بثمانية عشر عامًا. وأرجح أن سيبويه عالم النحو فضّل أن ينأى بنفسه عن ذلك الصراع بين أهل السنة وأهل العدالة والتوحيد من المعتزلة، لإدراكه بحسّ العالم التقي الورع فارسي الأصل أن هذا الصراع المتنامي أصله سياسي ومحوره العدالة أو الجدارة بالحكم، بيد أن الصراع اتخذ مسارًا دينيًا ولغويًا للتغطية على الأصل السياسي للصراع في بلاد العرب، لتعمية الشعوب التوّاقة للعدالة عن جوهر قضية الحكم وموقف القرآن المحايد منها.
كتابه الفريد وسط هذا الغموض الذي أحيطت به سيرة "سيبويه"، العالم الإسلامي فارسي الأصل دارس العربية ومعلمها وحافظها للمتكلمين بها، بقي منجزه الوحيد، كتابه "الكتاب"، ناطقًا بمحتواه العربي الفريد وفكره الفارسي الأصيل. وقد أحاط الغموض أيضًا بالتاريخ الذي وُضع فيه الكتاب، ونسخته الأصلية التي كتبها سيبويه بخطه لا تزال مفقودة إلى الآن، وقد حفظها تلميذه "الأخفش الأوسط" ولم ينسبها لنفسه ورواها لتلميذيه "أبو عثمان بكر بن محمد المازني" (175-249 هـ) وزميله "أبو عمر الجرمي" (تـ 225 هـ)، ثم رواها "محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي" الشهير بـ "المبرد" (210-285 هـ) عن أستاذه "المازني". وأقر علماء البصرة والكوفة بأن الكتاب لسيبويه ربما لظهور أبوابٍ منه في حياة "سيبويه"، وراجعه أستاذه "يونس بن حبيب" وأقره قبل موته، وقرأه غريمه "الكسائي" سرًا، وقيل إنه كان يحتفظ به تحت وسادته، وأنه قد اشتراه سرًا من "أبو عمر الجرمي". وقد أُهملت فكرة البحث عن النسخة الأصلية التي خطها "سيبويه" بيده، وهي فكرة منطقية تفرض نفسها بين التلاميذ المخلصين لشيوخهم. ولم تظهر تلك النسخة الأصلية التي هذّبها وأكملها تلميذه "الأخفش الأوسط"، ربما ضاعت أو ضُيِّعت في عصره، أو استولى عليها علماء الكوفة وحفظوها لديهم، ثم فُقدت أو حُرقت من جراء التخريب المغولي لتراث العرب ومكتبات العباسيين. تناقلت رواية "الأخفش الأوسط" لكتاب أستاذه "سيبويه" في القرنين الثاني والثالث الهجري، وظهرت أجزاء منسوخة منه في القرن الخامس في أماكن متفرقة، وهي أقدم المخطوطات، ثم ظهرت نسخ كاملة في إيران وتركيا في القرن السادس، كما ظهرت نسخ مدرسية منه بين القرنين السابع والثامن. وأخيرًا طُبعت هذه النسخ بدايةً من القرن الثالث عشر الهجري، حيث ظهرت أول طبعة للكتاب في باريس للمستشرق الفرنسي "هرتويغ درنبرج". اتبع "درنبرج" منهجًا في جمعه لأقدم المخطوطات من مكتبات في إنجلترا وألمانيا وهولندا وما وصل إليه من مخطوطات عن طريق المستشرقين، وقارن بينها، واعتمد النسخة الأقدم، وأعاد ترتيب بعض الفصول، وبرر ذلك في مقدمةٍ نقديةٍ رصينةٍ أوضح فيها تاريخ الكتاب، ورواياته، ومخطوطاته، ومنهجه في التحقيق، مع دراسة نقدية لسيبويه، وصدرت في جزئين في (1881-1885 م). ثم توالت الطبعات في كلكتا بالهند ثم ألمانيا. وصدرت طبعة بولاق في المطابع الأميرية بمصر في جزئين أيضًا، وهي الطبعة العربية الأولى سنة (1316 هـ-1898 م) والتي حققتها لجنة مؤسسية مؤلفة من علماء الأزهر. لم تعتمد هذه اللجنة سوى على مخطوطتين، وكان منهجهم هو الحفاظ على الشكل الأصلي للكتاب دون مقارنةٍ للمخطوطات، حيث غلب على منهجهم التثبت من الرواية الأصلية للكتاب وليس تحقيقه بالمعنى المعروف في المناهج العلمية للتحقيق، وطُبعت بحروف واضحة تسهيلًا على الدارسين، كما تمت مراجعتها وتدقيقها جيدًا. وخصص الجزء الأكبر من الصفحة للمتن الأصلي، وترك جزءًا يسيرًا في الهامش لشرح "أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى" الشهير بـ "الأعلم الشنتمري" (410-476 هـ) الذي اعتمدوا فيه على كتابه "تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب". وتُعد طبعة بولاق الأقرب للأصل، لكنها تفتقر إلى النزعتين المقارنة والنقدية التي ميزت طبعة باريس. واعتمد "عبد السلام هارون عبد الرازق"، أستاذ اللغة العربية في جامعة الإسكندرية (1909-1988 م)، في طبعته الشهيرة للكتاب الصادرة عن دار مكتبة الخانجي بالقاهرة في (1966)، على طبعة بولاق حيث أضاف لها عددًا من النسخ والمخطوطات لتحقيقها ومقارنتها، وتلاشى بعض مواضع السقط فيها، كما اعتمد على شرح السيرافي في التعليقات، وأضاف لها فهارس للشواهد والأعلام لتُسهِل البحث على الطلاب، وصوّب أخطاء طباعتها. ويوجد كتاب حديث في أربعة أجزاء باسم "حواشي كتاب سيبويه" اعتمد فيه محققه الدكتور "سليمان العيوني" من السعودية على الشواهد التي جمعها "الحسن بن أحمد الفارسي" (288-377 هـ) و"محمود بن عمر الزمخشري" (467-538 هـ) للعديد من النحويين مثل "الأخفش" و"الزجاج" وغيرهم. يتألف "الكتاب" من جزئين فيما يقرب من ستمئة باب، وليس به مقدمة لمؤلفه "سيبويه" أو الراوي عنه تلميذه "الأخفش الأوسط". وتُعتبر السبعة أبواب الأوائل في "الكتاب" بمثابة الخطة والمنهج اللغوي الذي تقوم عليه الأبواب التالية التي غطت معظم قواعد النحو والصرف والصوت. تناول سيبويه في هذه الأبواب المفتاحية السبعة تعريف الكلام في العربية وأقسامه، و"مجاري الكلمات" أو علامات الإعراب في العربية وتشكيلاتها وهي النصب والفتح، والجر والكسر، والرفع والضم، والجزم والوقف، وباب المسند والمسند إليه يفسر فيه إجمالًا وضع الجملة في العربية وتركيبها، وباب في المعاني واختلافها مع الألفاظ أو اتفاقها، وباب يسميه سيبويه بـ "الأعراض" ويقصد بها السمات الصوتية المتغيرة في اللهجات وهي سمات غير أصيلة في البنية القياسية للكلمة كالتي تُضاف في لهجة وتُحذف في أخرى، وباب "الاستقامة من الكلام والإحالة" الذي ضرب فيه أمثلة واضحة أهمها عن تعريف الصحيح في بنيته لكنه قد يتفق أو لا يتفق في معناه واستخدامه بين الناس مثل "أتيتك أمس"، و"سآتيك غدًا"، و"أتيتك غدًا"، و"سآتيك أمس". ووضّح "سيبويه" هدفه من الأبواب السابقة في الباب السابع الذي فرّق فيه بين الكلام بغرض الاستعمال والتواصل والكلام المجازي في الشعر والنثر الأدبي الذي تقتضي جمالياته البلاغية الحذف والتقديم والتأخير والإبدال والتشبيه والمحسنات الأخرى. وتمثل هذه الأبواب السبعة منهجه العلمي في الكتاب، ومن وراء هذا المنهج نظرية حاكمة التزم بها في تفسير معظم الظواهر اللغوية العربية في أبواب كتابه، حيث فرّق بين بنية اللفظ والجملة وبنية المعنى ودلالته، ووضع ضوابط للقياس، وبيّن فروق الاستعمال اللغوي، وطبّق منهجه على شواهد من القرآن الكريم والشعر العربي الأصيل، ليخرج بنتيجة علمية قائمة على القياس والوصف التحليلي للسمات اللغوية في كلام العرب، ثم التعليق والتأويل عند اختلاف الآراء حول الشواهد اللغوية. ولا يمكننا نفي أوجه الشبه الملفتة بين المنهج العلمي الحديث والمنهج الذي اتبعه "سيبويه" في كتابه والذي انتهجه من بعده فلاسفة اللغة في أوربا منذ القرن الرابع عشر الميلادي، حتى اكتمل هذا التراكم المعرفي عندما فرّق "فردينان دو سوسور" (1857-1913 م) ثم نعوم تشومسكي (1928 م) بوضوح بين بنية الشكل اللغوي للجملة وبنية المعنى والدلالة، والذي أوضحته في مقالي السابق الذي تناول ترجمة "نعوم تشومسكي". وقد أدرك من قبل أيضًا فلاسفة اليونان مثل "أفلاطون" و"أرسطو" الفرق بين بنيتي الشكل والمعنى، وانعكس ذلك في كتاب "فن النحو" اليوناني لـ "ديونيسيوس التراقي" (170-90 ق.م) الذي ألّفه تقريبًا قبل مئة عام من الميلاد، ثم تُرجم إلى السريانية في مدارس "الرها" و"نصيبين" خلال القرون الأولى للميلاد، ثم نقله "حنين بن إسحاق" (194-260/264 هـ) وتلاميذه إلى العربية في العصر العباسي في القرن الثالث الهجري بعد وفاة "سيبويه" بأكثر من مئة عام. وهذا لا ينفي أبدًا فرضية اطلاع سيبويه على الكتاب في لغته السريانية، أو ربما نُقِل إليه محتواه شفاهةً عن طريق السريانيين الذين كانوا يعيشون في مجتمع البصرة.
كتاب "أشتاديايي" النحو الأقدم في الهند كتاب "أشتاديايي" أو "الثمانية فصول" هو الكتاب الأقدم الذي كتبه "بانيني" الهندي (520-460 ق.م) الذي وُلد في قرية "شلاتور" في دولة باكستان الحالية. وكتب "بانيني" كتابه الشامل في قواعد اللغة السنسكريتية الفيدية القديمة والكلاسيكية، ووصف فيه 3995 قاعدةً مختصرةً ومحكمةً في النحو والصرف والصوت. ويُعتبر كتاب بانيني أول كتاب للقواعد اللغوية عرفه العلماء حتى الآن، كما تُعتبر اللغة السنسكريتية القديمة من أقدم اللغات المتكاملة في نظام قواعدها، وهي لغة دينية مقدسة انبثقت منها العديد من اللغات الهندية الحالية. وقد بدأ علماء الغرب الاطلاع على هذا الكتاب مع الاحتلال الإنجليزي للهند في القرن الثامن عشر، وترجمه إلى الإنجليزية كاملًا القاضي والمترجم الهندي "شريشا تشاندرا فاسو" في (1891-1898 م)، ثم قدم الدكتور "راما ناث شارما" ترجمة وشرحًا دقيقًا له في (2013-2020 م). ومنذ معرفة الغرب بكتاب "أشتاديايي"، تأثر به معظم فلاسفة اللغة مثل "جوتلوب فريجه" (1848-1925 م) و"فردينان دو سوسور" و"نعوم تشومسكي"، وأثر كثيرًا في دراستهم للغة، وأشادوا بعبقرية "بانيني" حتى أنهم وصفوه بـ "سيبويه السنسكريتية"، مع أن كتابه قد سبق كتاب "سيبويه" بأكثر من 1100 سنة تقريبًا، وهو الأفضل تنظيمًا، والأوضح والأدق في استخدام مصطلحاته. تقودنا المقارنة بين الكتب الثلاثة الأقدم في النحو على الترتيب، كتاب "الثمانية فصول" لبانيني، وكتاب "فن النحو" لديونيسيوس التراقي، و"الكتاب" لسيبويه إلى أوجه تشابه كثيرة حيث استخدم المؤلفون الثلاثة منهج الوصف لقواعد لغاتهم الكلاسيكية السنسكريتية، واليونانية، والعربية. واختلفت هذه الكتب الثلاثة في أهداف كتابتها باختلاف محتواها اللغوي وثقافاتها الأصلية، بينما اتفقوا في منهج الوصف اللغوي لحفظ لغاتهم وتعليمها للأجيال القادمة. وكان منهجهم وصف اللغة المستعملة كما هي لا كما ينبغي أن تكون، حيث اعتمد "بانيني" على استخلاص القواعد من النص الديني الأول عند الهنود "ريج فيدا" وصياغتها بأسلوب مختصر ومحكم، واعتمد "ديونيسيوس" على استخلاص القواعد من الشعر اليوناني وتبسيطها وركز على "هوميروس" وكبار الشعراء، بينما اعتمد "سيبويه" على الشواهد من القرآن والشعر العربي الأصيل، للقياس عليها، وتوسع في تحليلها وشرحها، وبيان وجهات نظر النحويين فيها، وتأويل الشاذ منها على منهجه. واتفق النحويون الثلاثة على البدء بقواعد عامة يصفون بها أقسام الكلام وأنواع الجملة وتركيبها ثم وصف دقائقها لاحقًا، ووصف الأصوات والنظام الصرفي. وكان لبانيني السبق في التفريق بين بنية الجملة وبنية المعنى في دقة واختصار، وبينما وضّح وشرح "سيبويه" الفروق بين البنيتين بالأمثلة والشواهد واختلاف أساليب استعمالها وشرحها وتأويلها، اكتفى "ديونيسيوس" بشرح القواعد اليونانية بطريقة تعليمية مبسطة ومختصرة لتمكين طلابه من قراءة "الإلياذة والأوديسا" قراءة صحيحة. وجاءت القواعد في كتاب "بانيني" مختصرة أيضًا وفق نظام أكثر انضباطًا وتنظيمًا وتسلسلًا أشبه بنظام النحو التوليدي عند "تشومسكي"، وعُرضت قواعد اللغة اليونانية مبسطة في ترتيب تدرّجي يضمن سهولة تعليمها للطلاب، بينما اتصف نحو "سيبويه" بالتوسع والشرح والنزعة النقدية على حساب ترتيب الأبواب ودقة المصطلحات، وأدى ذلك إلى تكرار تناول بعض الظواهر في أكثر من باب، وعدم وضوح صياغة بعض المصطلحات. وتميز تحليل "سيبويه" بالجمع بين الشكل اللغوي ووظيفته، والشرح الأكثر عمقًا، وتأويل اختلاف الاستعمال اللغوي للفروق اللغوية الدقيقة. وقد انعكس هذا التعمق في الشرح والتأويل على عدد صفحات كتاب "سيبويه" في نصه الأصلي المطبوع فيما يزيد عن ستمئة ألف كلمة تقريبًا في تسعمئة صفحة، بينما يقترب عدد كلمات كتاب "أشتاديايي" في نصها الأصلي من أربعين ألف كلمة وتزيد عدد صفحاته عن مئتي صفحة. ويقتصر عدد صفحات كتاب "فن النحو" على أربعين صفحة تقريبًا فيما يزيد عن أربعة آلاف كلمة. وتبين مقارنة الأرقام التقريبية بين النسخ المطبوعة لكتب النحو الثلاثة ضخامة كتاب "سيبويه" واعتماده على الشرح والأمثلة المتعددة والرأي الآخر، ويعني هذا تميز كتاب "سيبويه" ككتاب لحفظ قواعد اللغة العربية، وشرحها بغرض تعليمها، ونقدها في ضوء نموذجه القياسي. وينفرد "سيبويه" بدقته في وصف قواعد اللغة العربية، وهي لغته الثانية بعد لغته الفارسية، إذا ما قارناه بـ "بانيني" الهندي و"ديونيسيوس" اليوناني اللذين درسا قواعد لغتهما الأولى وتفوقا في تقعيدها. وينفرد "سيبويه" أيضًا بنموذجه في القياس الذي كان يقيس عليه الشواهد من القرآن والشعر العربي، وكثيرًا ما تعارضت الشواهد مع نموذجه في القياس، لكنه تمسك بصحة نموذجه – أو تعصب – له كما أوضح منتقدوه مثل الدكتور "أحمد مكي الأنصاري" في مقالته "سيبويه في الميزان" وآخرون غيره. ولا يرجع ذلك التعارض مطلقًا إلى الخطأ في الشواهد القرآنية والشعرية، أو الخطأ في نقلها سواء منه أو في روايتها من مصدرها، أو ضعف إيمان سيبويه، إنما يرجع إلى بعض القصور في نموذجه ومنهجيته، ورغبة "سيبويه" القوية وإصراره على التميز العلمي في ظل الصراع الشعوبي المكتوم، وروح السجال بين مدرستي البصرة والكوفة الذي يمكن رده إلى طبيعتين مختلفتين، انفتاح علماء البصرة وأسبقيتهم في دراسة النحو، يقابلها انغلاق علماء الكوفة وتعاليهم ورغبتهم في قيادة النحو بوازع شعوبي وسياسي.
كلمة أخيرة إن الذين تناولوا "سيبويه" بالنقد من القدماء والمحدثين الأجانب والعرب أغفلوا أهمية التراكم المعرفي والانفتاح على الثقافات الأخرى التي ربما ساعدت "سيبويه" على التعرف ولو شفاهةً على نظام كتاب "فن النحو" اليوناني من السريانيين الذين عاشوا معه في البصرة وكتاب "أشتادياي" الهندي من علماء اللغة الفارسية، حيث يقودنا التحليل المنطقي للمعروف من أحداث حياة سيبويه إلى أنه لم ينقطع عن "شيراز"، بدليل عودته إليها بعد انكساره وموته ودفنه بها بعد المناظرة الشهيرة. وتقتضي تحصيل المعرفة العلمية وطبيعتها التراكمية في أي مجال علمي الاطلاعَ المتخصصَ والموسوعيَّ في تراث السابقين ولا سيما في الثقافات الأخرى القريبة والمتاحة، كما في الحالة السيبوية، بدليل أنه روى عن شيوخه وعن أقحاح العرب في مواضع كثيرة ولم ينسب العلم إلى نفسه، ولم ينسبه تلميذه "الأخفش الأوسط" كذلك إلى نفسه. ويعد الانغلاق المعرفي وإغفال دور التراكم المعرفي نقيصةً علميةً كبيرةً في حق المتغافلين من الباحثين والعلماء، ويؤدي ذلك إلى عرقلة نشأة الأفكار العلمية الجديدة أو تأخير وتيرة تناميها. والحقيقة الثانية من حقائق العلم الراسخة، وهي حقيقة منطقية يمكن تبسيطها في أن تشابه المحتوى العلمي يفرض طبيعته الخاصة في تناوله ومنهجيته، حيث يبدأ الباحث الجاد بخطته المنهجية الكلية ليُفصِّل بها الخصائص الدقيقة المستخلصة من البيانات العلمية في الأمثلة والشواهد ليتوقف في النهاية على طبيعة المحتوى الذي يتم دراسته ويخلص منها إلى التأويل والنتائج. ولا تشذ طبيعة البحث اللغوي عن هذه القاعدة العلمية البسيطة. كما أن طبيعة التفكير المجرد حول قضية علمية واحدة، مثل قضية التقعيد اللغوي في حالة الكتب الثلاثة الأقدم في النحو، قد تقود العلماء إلى نتائج متشابهة حتى وإن اختلف المحتوى العلمي للغة ومنهجية تناولها. هذه الحقائق العلمية المستخلصة من منطق التفكير البشري تفسر أوجه تشابه تناول العلماء للقضايا العلمية في المجال الواحد، لكنها لا تنفي تمايز الأفكار وتفردها. وأخيرا كان لتميز "الكتاب" وشموليته وتفرد منهجيته الجديدة وقعٌ كبيرٌ على عقول علماء أهل ذلك الزمان، حيث أصبح هذا التفرد العلمي والمنهجي لكتاب "سيبويه" عاملاً حقيقياً في الجمع بين فرقاء العلم والثقافة في البصرة والكوفة، لإدراكهم جميعاً، رغم تنافسهم وصراعهم المعلوم والمكتوم، أن كتاب "سيبويه" يصب في نهاية الأمر في صالح حفظ اللغة العربية، هدفَ العربِ الصريحَ وهدفَ "سيبويه" الأولَ الذي كأنه خُلِق لينجزه فقط ثم يموت، وهي لغتُهم العربيةُ التي وُلدوا بها وبدأوا في دراستها، حتى انتهى سيبويه الفارسي جاهداً إلى تعلمها وإجادتها وجمع شمل قواعدها وشرحها في ثوبٍ معرفيٍّ ومنهجيٍّ جديد، من أجل لغةِ الدينِ الجديدِ وثقافتِه الناشئة، وقد تحقق له ما أراد. فهل يطيق "عمرو بن عثمان بن قنبر" نعته بلقب "مستشرق الشرق"؟ لعل هذا اللقب الجديد يستفز الدارسين العرب ليقلبوا أوراقه ويعيدوا قراءته بقلب جديد أو يجتهدوا في البحث عما نُسي منها.
#رضا_علي_حسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل العلمانية هي الحل؟
-
نعوم تشومسكي من النحو البنيوي إلى الدولة المارقة
-
ألم الوعي في أعمال صنع الله إبراهيم
المزيد.....
-
مراهقون يباغتون فتاة ويقتلونها أمام شقيقتها في وضح النهار بأ
...
-
أصوات غريبة تثير الرعب في سينسيناتي.. و-دليل- قد يقود إلى حل
...
-
عاصفة تضرب كاليفورنيا متسببة بفيضانات وانهيارات طينية وتساقط
...
-
ما العلاقة بين الحميات الغذائية القاسية وانقطاع الدورة الشهر
...
-
صحف عالمية: إسرائيل تسعى لتحجيم قدرة إيران الصاروخية وواشنطن
...
-
الشرطة الإسرائيلية تعتدي على -بابا نويل- وتثير غضب المنصات
-
إحياء احتفالات عيد الميلاد في بيت لحم بعد توقف عامين بسبب حر
...
-
كيف يؤثر تدهور القطاع الصحي في غزة على حياة المرضى؟
-
إقرار ميزانية التسلح في ألمانيا يثير جدلا ومخاوف
-
غزة تواجه كارثة إنسانية ومجاعة وشيكة بسبب الحرب
المزيد.....
-
معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د
...
/ صباح علي السليمان
-
ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W
...
/ صباح علي السليمان
-
السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020)
/ صباح علي السليمان
-
أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح /
...
/ صباح علي السليمان
-
الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017)
/ صباح علي السليمان
-
الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ
...
/ صباح علي السليمان
-
جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط
...
/ صباح علي السليمان
-
اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال
...
/ صباح علي السليمان
-
محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف
...
/ صباح علي السليمان
-
محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط
...
/ صباح علي السليمان
المزيد.....
|