أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد عاطف - الضاحك معلم البلاط














المزيد.....

الضاحك معلم البلاط


ماجد عاطف

الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 00:25
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة/ ماجد عاطف

هو الآن في ذمة الله.
وقتها كان معلم بلاط، تجاوز الخامسة والخمسين من عمره. صناعي محترف ولا يطمع في الكثير من الأجرة. بحث إسماعيل عمّن يطلب أقل للمتر المربّع الواحد ووجده. وهو ماهر. يمكنه أن يعمل بمواد قليلة، وإذا احتاج مسامير لا يتكبّر على تقويم اعوجاجها واستعمالها. لا ينتظر صنائعيا آخر لأمرٍ يستطيع هو فعله حتى من دون بدل إضافي من إسماعيل. في لحظة هو معلم، وفي الثانية عامل يخلط بنفسه اسمنته. يستطيع إذا نسي المنشار الآلي، أن يتدبر نفسه ببترٍ يدويٍ عبارةٍ عن فراغٍ أسفل البلاطة البلدية وقالبِ حجرٍ ضاغط. يعرف تفاصيل الورش كلها وحاجاتها، ولولا تخصصه لعمل في أي متاح آخر.
كان مطلقا وله أولاد -تحت الخامسة عشرة- يعيشون مع طليقته، ويبحث عما تيسّر من أعمال قريبة في المدينة. وارتد أعزبَ بعد زوجية طويلة وصار منتقّلا، كالمتشرد، بين الورش وأماكن البيات. أصلع الجمجمة مع شعر رقيق على الجانبين، ضحوك طيب النفس بشوش ومتبسّم، يحلو السهر معه وتبادل الأحاديث.
عائلته تعيش في المخيم، وفيها الصنائعي وفيها المسيّس. أصغرهم، المسيّس، كان زميل إسماعيل. فلما توصّل إليه ليبلط له ورشةً من غرفتين بسعرٍ زهيد، طلب زميله أن يغدّيه وألا يبخل عليه بطبخات المنزل. كان واضحاً أنه يحاول تعويضه عن اختلال حياة أخيه اليومية، حين تطلق، وأنه يفتقد الأمور المنزلية.
لما انفتحت بينهما سيرة المغائر والدفائن والذهب المحتمل العثور عليه، أوقف مطرقته العريضة اللدائنية بجوار رأسه في الهواء وحك جانب شعره بأصابع يده الأخرى ولمعت عيناه وهو يقول بجدية ذات طمع كرتوني كما في الصور المتحرّكة، تاركاً بسطةَ اسمنتَ صفِّ البلاطِ بعض الوقت:
- ذهب؟!!
ضحك إسماعيل منه لسببين وأكثر. طرافة ردة الفعل، وطمعه، وأنه عاد طفلا.
له مخيّلة موغلة وملامح قوية التعبير والفهم. لعله كان -لا يزال- يأمل في رزق مفاجئ يأتيه بغتة وسهلا كما يحلم الأطفال، كأن يجد كنزاً أو ذهبا أو مالا جمّا، وهذا حدس أنه راوده في طفولته ومراهقته، وربما انشغل لوقت به، متنقلا بين الأراضي والكهوف والمغائر يحاول الوصول لقطعة أثرية أو ذات قيمة.

تبادل نوادره وضحكاته الخارجة من القلب مع أخيه زميله، فحذّره:
- مش تسرح فيه؟!
فهم تحذيره لما لمس خياليّته في الاستماع. إنه ينتسب لواقع أكثر غنى وحيوية في رأسه مما نعيش فيه وأكثر انفعالات: صخبا وودا وخشية ورعبا. كان كعادة من لم يتعلم الهدف العام والجمعي. لهذا إنما تحفّظ معه لأقصى حد، قدر استطاعته.
لقد حصل شيء ما معه كان مفتاح الزلزال والخلخلة، لأنّه عندما سأله الإصلاح مع زوجه حاسباً أن الأمر يحتاج فقط لتدخل بين مختلفين، ردّ بشراسة:
- لقد خانتني يا زلمة!
ربما كان يبحث عمن يصدقه. أدرك إلى وين وصل بهما الشقاق، ولم يرغب في التطرق لخلافات بين زوجين.
لم يأخذ -ولا يزال- بكلامه، لأن الخيانة الزوجية أبشعّ من أن يحدث عنها ضحيتها، حتى لو كانت حقيقية. ففي الثانية لا يلزمه إلا الأيمان المغلّظة والفراق، واللعنة تقع على الكاذب.
من ناحية ثانية كان أولاده وبناته هم الأهم لمن حوله، أحفاد والديه العجوزين المشغولين عليهم بمستقبل تنتابه المخاطر وفيها السمعة الحسنة ضرورية للصغار وبيئتهم وعملهم وحاجاتهم الدنيوية؛ كما أخوته، الأعمام. من المستحيل الإبقاء على نزاهة داخلية لو اقتنع أولاده وبناته بكلامه، وكان المثال الأموميّ سيتحطم فيهما بما لا يسهل إصلاحه.
يفكر إسماعيل الآن، بعد ثلاثين عاما وقد أطل على الكثير من حكايات التلامذة الذين يوجههم في مدرسته، أنه إذا صحّ كلامه الصادم أو لم يصح، فقد أوغل في واقعه الآخر بصرف النظر عن السبب. لم يعد يستبعد موجات الحسد وآثار الكره ومفعول الشرّ المتطاير شرراً أو التأثير الانفعالي المتغلغل خفية في بيّنيات البشر عندما تنتقل، كالسحر، لتأخذ مفعولها في أي لحظة، أقلها وقع الشك والصدمة في الآخر والنفس، وارتباك المظهر الاجتماعي.
كان المعلم خارج الاعتياد السيّار بين الناس للصفات المتعارف عليها، يعيش كأنه ينتقل بين ليالٍ فقط، ولا تشرق عليه الشمس، مزاجه كهرباء عتيقة وواقعه تخيل له.
بساطته، مرحه وصخبه وطفولته وتواضعه، لا بد أن زوجته قد عاينتها وسعدت بها وعاينت غيرها عند الغضب وكابدتها. فإن لم يكن مقلعاً عن قسوة الدنيا هاربا لخيالاته، فمن المؤكد أنها استوطت حائطه، لأنه لم يكن متعلما أو جامعياً ولم يحسن التحفّظ والكتمان والانسحاب.
هو الآن في ذمة الله، يحمل صفاته معه إن كانت له أو عليه: الضاحك معلم البلاط.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- روحية
- ارث في المحكمة
- شرطة الصلاة
- قصة قصيرة
- الأفعى


المزيد.....




- مدينة أهواز الإيرانية تحتضن مؤتمر اللغة العربية الـ5 + فيديو ...
- تكريمات عربية وحضور فلسطيني لافت في جوائز -أيام قرطاج السينم ...
- -الست- يوقظ الذاكرة ويشعل الجدل.. هل أنصف الفيلم أم كلثوم أم ...
- بعد 7 سنوات من اللجوء.. قبائل تتقاسم الأرض واللغة في شمال ال ...
- 4 نكهات للضحك.. أفضل الأفلام الكوميدية لعام 2025
- فيلم -القصص- المصري يفوز بالجائزة الذهبية لأيام قرطاج السينم ...
- مصطفى محمد غريب: هواجس معبأة بالأسى
- -أعيدوا النظر في تلك المقبرة-.. رحلة شعرية بين سراديب الموت ...
- 7 تشرين الثاني عيداً للمقام العراقي.. حسين الأعظمي: تراث بغد ...
- غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد عاطف - الضاحك معلم البلاط