|
|
الأسس المادية و الطبقية لتشكل للبرجوازية الكمبرادورية بالمغرب
عادل المغربي
الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 02:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن الأسس المادية والطبقية التي أدت إلى تشكُّل البرجوازية الكمبرادورية في المغرب، من خلال تحليل تطور البنى الاقتصادية والاجتماعية خلال القرن التاسع عشر. وتركز على تتبُّع مسار الصراع الطبقي في إطار سياسات النظام الإقطاعي السائد آنذاك، مع إبراز دور بعض آلياته خصوصا منها "الاحتكار" الذي شكل أداة مركزية لإعادة توزيع الريع داخل الاقتصاد المغربي، حتى قبل فرض نظام الحماية. كما تتناول الدراسة كيفية استغلال الرأسمال الإمبريالي لهذه البنى التقليدية والتحولات الداخلية، ليتمكَّن من اختراق الاقتصاد المغربي بشكل تدريجي، مما مهَّد لسيطرة شاملة على مقدرات البلاد. وستعمل على تحليل المسارات التي أدت إلى إعادة تشكيل البنية الطبقية، وتغيير علاقات الإنتاج السائدة انداك، وما خلفه الصراع الطبقي من نتائج تاريخية ربما كان أبرزها ظهور وتشكُّل هذه الطبقة البرجوازية الكمبرادورية باللذات. مقدمة إذا تأملنا في البنية الاقتصادية والسياسية للمغرب خلال القرن التاسع عشر، يتضح بشكل جلي أن السلطة السياسية كانت المصدر الأول للثروة، وأن الاحتكار الذي مارسته وأقرته لم يكن مجرد وسيلة لتنظيم المبادلات أو ضبط الأسواق، بل كان أداة مركزية في إعادة توزيع الريع وتشكيل قاعدة اجتماعية مرتبطة عضوياً بجهاز الدولة. فالاحتكار لم يكن نشاطًا تجاريًا عادياً بل امتيازًا طبقياً يمنح من الأعلى، مقابل الولاء والخدمة. إن تحليل هذه السياسة يكشف أن الاحتكار الذي مارسته السلطة السياسية كان شكلاً من أشكال الريع ما قبل الرأسمالي، حيث لم يكن الإنتاج هو مصدر التراكم، بل الامتياز السياسي الذي يمنح حق الاستغلال الاقتصادي. فالبرجوازية الناشئة في أحشاء الاقطاعية لم تتكون من خلال تراكم رأس المال عبر العمل أو الاستثمار، بل عبر الارتباط المباشر بجهاز الدولة الذي كان يحتكر الموارد ويوزعها على فئة محددة من المتعاملين معه. حيث قام المخزن، بوصفه الجهاز السياسي للإقطاع المغربي، بتنظيم الاقتصاد على أساس الولاء والقرابة والخدمة السلطانية، فعزز بذلك نواة لطبقة تجارية مرتبطة مباشرة بالمركز السياسي، أي برجوازية تجارية ذات أصل ريعي، لا إنتاجي. إن ما يسميه المؤرخ إبراهيم حركات في "المغرب عبر التاريخ" (الجزء الثالث، ص505–506) بـ«الاحتكار» لم يكن مجرد إجراء تجاري، بل نظام سياسي–اقتصادي لتوزيع الريع الطبقي. فاحتكار بعض المواد كالسكر والبن والشاي أو تصدير الجلود، لم يكن يتم وفق منطق السوق، بل عبر قرارات سلطانية تمنح امتيازات لتجار بعينهم، غالبًا ممن تربطهم بالسلطة السياسية علاقات قرابة أو خدمة سياسية. وقد كان على حق عندما اعتبر أن هذا الاحتكار يمثل شكلاً من الإقطاع التجاري، لأن الامتياز يُمنح كما تُمنح الأراضي في النظام الإقطاعي، أي كمكافأة سياسية لا كمقابل اقتصادي. ومن النماذج الدالة على ذلك ما يلي: • امتياز بيع السكر والبن الذي منح في عهد مولاي عبد الرحمن لتجار محددين سنة 1850، والذي أدى إلى ارتفاع صاروخي في الأسعار. هذا المثال يعكس كيف أن السلطة كانت تتحكم في السوق لا عبر أدوات اقتصادية، بل عبر منح حق الاحتكار مقابل ولاء سياسي، فيتحول الامتياز إلى ريع خاص يثري فئة محدودة على حساب الجماهير الشعبية. • احتكار تصدير الجلود، حيث ألزم السلطان أكثر من 3600 دباغ بتسليم كل مدخراتهم من الجلود للمخزن. هذا القرار لم يكن تنظيميًا فحسب، بل عملية مصادرة قسرية للثروة المنتَجة من الطبقات العاملة والحرفيين لصالح الطبقة المتحالفة مع الدولة، أي ما يمكن تسميته بعملية «ابتزاز ممنهج» باسم السيادة الاقتصادية. • امتياز بيع الثيران ووسقها من الموانئ الشمالية لمدة سنة واحدة مقابل 8 آلاف مثقال، استفاد منه تجار محددون مثل محمد بن الحاج المسعودي والحاج بوعبيد الحسيني. هذا النموذج يكشف كيف أن الريع لم يكن فقط في السلع الاستراتيجية، بل في كل ما يمكن تحويله إلى مورد احتكاري، ما يعني أن الاقتصاد المخزني كان قائماً على تحويل الامتيازات إلى أدوات للتراكم غير المنتج. • امتياز الغاسول لصالح محمد بن المدني بنيس لمدة أربع سنوات منذ 1860، وامتياز الجلود لصالح مصطفى الدكالي والمكي القباج مقابل 60 ألف مثقال، يوضحان كيف أن شبكة الاحتكار توسعت لتشمل المواد الطبيعية، ما جعل السيطرة على الموارد المحلية تمر عبر قنوات محدودة مرتبطة بولاء سياسي. أدى هذا النظام إلى تشكل "برجوازية" طفيلية، أي فئة من التجار أساسا لا تقوم على الإنتاج بل على إعادة توزيع الريع. كانت هذه الفئة تشكل الذراع الاقتصادية للمخزن، وتعيد إنتاج نفوذه داخل السوق، مقابل نصيبها من الفائض، ممهدة بذلك الطريق لتشكل البرجوازية الكومبرادورية لاحقًا حين بدأ رأس المال الإمبريالي بالتغلغل عبر نفس القنوات، أي عبر الوسطاء والامتيازات والاحتكارات. شكّل نظام الاحتكار التجاري في المغرب خلال القرن التاسع عشر نسيجاً اجتماعياً معقداً، تجسّدت من خلاله علاقات القوة والتبعية بشكل واضح. لم تكن هذه التشكيلة الطبقية هرمية بسيطة، بل كانت شبكة معقدة من التحالفات والصراعات المتقاطعة، اتخذت أشكالاً متباينة حسب المصالح والظروف. لم يكن هذا الاحتكار مجرد إجراء عابر، بل كان نظاماً اقتصادياً قائماً على احتكار السلع الأساسية، حيث مارس النظام حق "الشِّحَة" (الشراء الإجباري) على منتجات الفلاحين والرعاة بأسعار متدنية، ليتم بيعها في الأسواق العالمية بأسعار السوق. وشمل هذا الاحتكار الحبوب في سنوات القحط الأوروبي، والصوف والجلود التي كانت من أهم صادرات المغرب، بالإضافة إلى الملح والشمع. وقد ترافق هذا مع فرض رسوم جمركية ("مكس") على حركة التجارة. فلم يكن إذن الاحتكار مجرد تنظيم جمركي، بل كان شكل من علاقة إنتاج تقوم على نظام "الكونطرادات" (Contrats) عبر هذه العقود، كان النظام الاقطاعي يمنح حقوقاً حصرية ل"تجار السلطان"، لتصدير سلع استراتيجية (كالصوف، الشمع، الجلود، والمواشي) أو استيرادها. فقد تبلورت ممارسة السلطة الاقطاعية للنظام لسيطرته على التجارة الخارجية عبر آليات متشابكة، ارتكزت على نظام "الامتيازات" الذي منح بموجبه حصرية التعامل مع الشركاء الأوروبيين لوسطاء من التجار(التوجار)، خصوصا اليهود منهم، الذين تحوّلوا إلى وكلاء ضروريين في عملية التبادل التجاري. وقد مثّل هؤلاء الوسطاء حلقة الوصل بين الاقتصاد الداخلي والموانئ التجارية كطنجة والصويرة، حيث تولوا تموين الخزينة المالية للدولة عبر قروض مسبقة مقابل احتكار تصدير سلع استراتيجية. | | الصنف - السنوات | 1830 | 1831 | 1832 | 1834 | 1835 | 1836 | 1837 | 1839 | 1840 | 1841 | 1842 | |------------------|--------|-------|------|------|------|------|------|------|------|------|------| | الصوف | --- | --- | 125 | 4480 | 2775 | 6211 | 1530 | 2135 | 1390 | 1253 | 658 | | الجلد | 256 | 245 | 432 | 1146 | 1261 | 1856 | --- | 904 | 1757 | 2234 | 1857 | | الشمع | 572 | 496 | 599 | 439 | 567 | 978 | 827 | 913 | 710 | 1060 | 597 | | الصمغ | 157 | 310 | 328 | 466 | 632 | 458 | 413 | 488 | 322 | 488 | 491 | | زيت الزيتون | --- | --- | --- | 300 | 427 | 668 | 226 | 1039 | 285 | 195 | 360 | | ريش النعام | 183 | --- | 59 | 30 | 32 | 113 | 9 | --- | 223 | 245 | 90 | | القمح | 352 | 312 | 530 | 382 | 85 | 255 | 649 | 904 | 270 | 303 | 182 | | النيران | 212 | 319 | 262 | 304 | 301 | --- | --- | 559 | 376 | 636 | 261 | | اللوز | --- | 43 | --- | --- | 581 | --- | 551 | --- | 1445 | 922 | 256 |
جدول: أهم الصادرات المغربية ما بين 1830–1842 بآلاف الفرنك الفرنسي
كانت هذه الآلية تخلق تراكماً ريعياً خالصاً: فمن جهة يتم استخلاص فائض القيمة الداخلي حيث اعتمدت ثروة هذه النخبة على شراء المنتجات المحلية بأسعار قسرية زهيدة، تفرض عليهم بموجب الحماية السياسية، وتحويلها إلى الخارج لبيعها بأعلى سعر أوروبي. هذا الفارق الهائل في السعر مثل استنزافاً مادياً مباشراً لفائض القيمة الذي أنتجته الطبقات المنتجة (الفلاحين والحرفيين).و من جهة تانية يتم الولاء مقابل الامتياز، فقد تطورت هذه الفئة إلى طبقة وكيلة (Comprador) ارتبط وجودها ونمو ثروتها بمدى ولائها وقدرتها على إقراض الدولة. فكانت أموال هذه الطبقة تستخدم لسد العجز المالي الفوري مقابل تجديد امتيازات الاحتكار، مما رسخ علاقة تبادل الريع بالسيولة، وضمن لهم الإعفاء من الضرائب التقليدية والمكوس. هذا الوضع أدى إلى تضييق الخناق الاقتصادي على التجار المستقلين، مشجعاً في الوقت ذاته الاكتناز خوفاً من المصادرة. وهكذا، فإن الاحتكار لم يكن مجرد ممارسة اقتصادية، بل أداة سياسية لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية. فالسلطة السياسية المسماة آنذاك بالمخزن، عبر التحكم في قنوات التوزيع والتجارة، استطاعت أن تحتكر الفائض الاجتماعي وأن تعيد توزيعه بما يخدم توازناتها الداخلية، دون السماح بتطور القوى المنتجة أو بظهور سوق حرة قادرة على خلق طبقة برجوازية مستقلة. لقد ظلّ الاقتصاد المغربي، حتى أواخر القرن التاسع عشر، اقتصاد سلطة بالأساس لا اقتصاد إنتاج— اقتصادًا تحكمه الامتيازات، والولاءات والريع. أفضى نظام الاحتكار التجاري إلى تحوّلات بنيوية عميقة شكّلت بمجملها مساراً تراجعياً متسارعاً، بدأ بأزمة اقتصادية طاحنة وانتهت بفقدان السيادة الوطنية. لم تكن هذه التداعيات مجرد نتائج عرضية، بل كانت حلقات متصلة في سلسلة من التدهور النظامي الذي طال جميع مقوّمات الدولة والمجتمع. حيث مثّل التدهور الاقتصادي الحلقة الأولى في سلسلة الانهيار، الذي أصاب النظامَ الإنتاجي بكامله: فانهيار الصناعات الحرفية أدى إلى تعرض البوادي للتفقير الناتج عن الجفاف والجبايات ونتيجة للعديد من الصعوبات والمشاكل التي يواجهها ارتفاع أثمنة المواد الأولية (الأصواف والجلود والجلد المدبوغ)، بسبب ازدياد الطلب الخارجي عليها وتدهور النقود وارتفاع المواد نصف المصنعة المستوردة (خيوط الذهب وفضة ليون على سبيل المثال)، إضافة إلى تراجع التجارة الصحراوية وانسداد مسالكها بالجزائر وتونس ومصر ...الخ، إلى كساد منتوجات الحرف التقليدية بالمغرب. كما شكّل تدفق البضائع الأوروبية المصنّعة، وخاصة المنسوجات والمنتجات المعدنية، صدمةً للنظام الحرفي التقليدي. فبينما كان الحرفي المغربي ينتج بوسائل تقليدية محدودة الإنتاجية، كانت المصانع الأوروبية تنتج بضائع مماثلة بأسعار أرخص وجودة أكثر انتظاماً. أدى هذا إلى إفلاس آلاف الورشات الحرفية، وتحوّل كثير من الصنّاع المهرة إلى عمالة هامشية في المدن أو إلى متسوّلين. وقد ترك هذا التحوّل آثاراً اجتماعية عميقة، تمثّلت في تفكك نظام الطوائف الحرفية الذي كان يشكّل عماد الاقتصاد الحضري لقرون. كما ساهمت عملية إقامة "مكوس الأبواب"، التي تجبى على السلع أثناء دخولها أو خروجها من المدن والموكل صلاحية جبايتها لأمين المستفاد أو بواسطة موظفي الشركات، في تدهور مواد الصناعة التقليدية. وفي ظل هذه الشروط اندلعت انتفاضة الدباغين في مدينة فاس سنة 1873التي قرنت مبايعة السلطان محمد بن عبد الرحمان بإلغاء ضريبة المكوس. وشكلت الزراعة التقليدية العمود الفقري للاقتصاد، حيث كانت تمثل 70% من النشاط الاقتصادي حسب تقديرات بعض الباحثين. واعتمدت على نظام الأراضي الجماعية ("الجباية الجموع") والأراضي المخزنية ("أراضي الدولة")، وكانت تنتج كميات كبيرة من الحبوب (القمح والشعير) تكفي للاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض. ففي سنة 1830، كان المغرب يصدر حوالي 50,000 قنطار من القمح سنوياً إلى أوروبا، كما كانت قطعانه من الأغنام والماعز تُقدر بملايين الرؤوس. لكن مع ذلك استمرّ القطاع الزراعي يعاني من جمود تقني عميق، حيث حُرم من أيّ حافز للتطوير. فالنظام الاقطاعي، بتركيزه على تحقيق أقصى مداخيل فورية عبر نظام "الشِّحة" والضرائب، أفقد الفلاحين أيّ حافز لزيادة الإنتاجية. بل إنّ العديد من الفلاحين فضّلوا تقليل المساحات المزروعة أو التحوّل إلى زراعة الكفاف، هرباً من جشع الجباة. وقد أدّى هذا إلى تراجع الإنتاج الزراعي في وقت كانت فيه الحاجة إليه آخذة في الازدياد بسبب النمو السكاني. كما تحوّل المغرب من اقتصاد متنوع المشارب (الى حد ما) إلى اقتصاد مشوّه، أصبح فيه مجرّد سوقٍ استهلاكية للبضائع الأوروبية، ومصدراً للمواد الخام الزراعية والرعوية.
وكانت أهم واردات المغرب تتكون من القطن والأقمشة القطنية والأنسجة الحريرية، السكر، الفولاذ والحديد، الشاي والقهوة. وقد عرفت واردات المغرب هي الأخرى ارتفاعا في قيمتها، حيت ارتفعت قيمة واردات المغرب من القطن مثلا من 2703 فرنك فرنسي سنة 1830 إلى 4336 ألف فرنك سنة 1842. أما واردات السكر انتقلت من 397 فرنك إلى 776 فرنك سنة 1842. الشاي من 60 ألف فرنك سنة 1830 إلى 106 ألف فرنك سنة .1842 فإنها عرفت تراجعا في حجمها خلال حرب تطوان(-1859 1860)اذ كانت وثيرة المبادلات أسرع نموا بعد . حيث لم تتعدى قيمتها سنة ،1866 35 مليون فرنك بسبب القحط والغلاء .إلا أنها سرعان ما ارتفعت قيمتها في سبعينيات القرن التاسع عشر لتصل إلى 73 مليون فرنك بسبب المحاصيل الجيدة وكذا سياسة الحسن الرامية إلى تسريح عمليات التصدير) هذا التحوّل قضى على أيّ أمل في تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، وحوّل البلاد إلى اقتصاد تابع تماماً للمركز الرأسمالي الأوروبي الناشئ. تشير الأرقام إلى تحول دراماتيكي في هيكل التجارة الخارجية. فبين 1830 و 1845، ارتفعت الواردات الأوروبية من 2.75 مليون فرنك ذهبي إلى 11.25 مليون، بينما لم تتجاوز الصادرات المغربية 3.75 مليون فرنك. هذا العجز التجاري المزمن (47.8% بين 1877-1883) حول المغرب إلى سوق استهلاكية للمنتجات الأوروبية. وأثناء فترة أزمة 1878 ـ 1884، كانت قيمة الواردات من الأنسجة (40 إلى 50 % من المجموع العام) قد مرت من حوالي 9 ملايين فرنك إلى 15 مليون. وأما قيمة واردات السكر (أكثر من 20 % من المجموع العام) فقد مرت من 2.9 مليون إلى 3 ملايين فرنك وقفزت إلى 4 ملايين سنة 1883. أما حجم الشاي المستورد، فقد كانت له هو أيضا دلالة خاصة، إذ ارتفع استيراده إلى 275 طن سنة 1884 مقابل 75 طن سنة 1874. ونتيجة للاستعمال الواسع للشموع، فإن الطلب عليها هي أيضا كان قويا، فقد تضاعف استيرادها ست مرات ما بين 1870 و 1890.
السنوات | الصادرات | الواردات | المجموع 1877 | 30.612 | 27.283 | 75.898 1878 | 17.459 | 22.463 | 39.923 1879 | 12.261 | 21.989 | 34.250 1880 | 16.190 | 18.248 | 34.438 1881 | 17.088 | 19.743 | 36.832 1882 | 13.488 | 21.196 | 34.658 1883 | 15.957 | 21.087 | 37.044 تراجع حجم الصادرات والواردات المغربية (1877–1883) – بآلاف الفرنك الفرنسي
لكن هذا النمط الريعي القطاعي بدأ ينهار أمام الضغط الإمبريالي الأوروبي الذي تكثف في منتصف القرن التاسع عشر، فلم يستطع الصمود طويلاً أمام زحف الرأسمالية الصناعية الأوروبية التي كانت تسعى لتحطيم الحواجز الجمركية والدخول المباشر إلى أسواق المواد الخام و تهيئة الأرض لتصدير الرأسمال الامبريالي. فقد كشف ضعف الدولة المغربية في معركتي إسلي (1844) ضد فرنسا وتطوان (1859–1861) ضد إسبانيا عن العجز المالي والعسكري للدولة المغربية، ما دفعها إلى الارتهان المالي والدبلوماسي للخارج. مما اضطر السلطان بعد الهزيمة إلى توقيع معاهدات تجارية غير متكافئة، أبرزها اتفاقية 1856 مع بريطانيا التي سمحت بحرية التبادل التجاري وخفضت الرسوم الجمركية إلى 10% فقط، وأقرت نظام الحماية القنصلية، أي إعفاء الأجانب ومن يحميهم من الضرائب والقضاء المغربي. لقد كانت المعاهدة المغربية الإنجليزية لعام 1856م التعبير المادي والسياسي لقوة رأس المال البريطاني. فقد ألغت هذه المعاهدة بشكل قاطع احتكار الدولة، وحددت الرسوم الجمركية بـ 10% فقط. هكذا بدأت عملية تهيئة المغرب لاندماجه التبعي في السوق الرأسمالية العالمية، لقد فُرض على المغرب أن يتحول من اقتصاد اقطاعي مغلق قائم على الريع السياسي إلى اقتصاد مفتوح تابع لمنطق السوق الإمبريالية، لكن هذا “الانفتاح” لم ينتج عنه تطور رأسمالي داخلي، بل تحول التراكم الريعي إلى تراكم كمبرادوري، أي انتقال السيطرة على الفائض من يد الدولة المحلية إلى يد رأس المال الأجنبي عبر وسطاء مغاربة. وقد كانت هذه التهيئة تمر أساسا عبر وسيلتين أساسيتين: التغلغل عبر المعاهدات التجارية ونظام الامتيازات (فتح الأسواق)، والتغلغل عبر الديون والتبعية المالية. بدأ التغلغل ليس بالاحتلال العسكري، بل بـالشرعنة القانونية للامتيازات الأجنبية، وكانت بريطانيا هي الرائدة في هذا المجال. في 9 ديسمبر 1856م، وقع المغرب المعاهدة المغربية البريطانية، التي تعد بمثابة نقطة الانطلاق الحقيقية للتبعية الاقتصادية حيث سعت بريطانيا إلى فرض سياسة الباب المفتوح على السوق المغربي لضمان تصريف فائض منتجاتها الصناعية، بينما كانت الصناعات الحرفية المغربية لا تزال تعتمد على الحماية الجمركية. لقد كانت المدن المغربية الكبرى (فاس، مراكش، سلا، تطوان) مراكز إشعاع حرفي حقيقي للصناعات الحرفية. فمدينة فاس وحدها كانت تضم 127 صنعة حرفية، يعمل فيها أكثر من 15,000 حرفي. وكانت صناعة النسيج تمثل 40% من الإنتاج الحرفي، تليها صناعة الجلود (25%) والخزف (15%). هذه الصناعات لم تكن هامشية، بل كانت تشكل نظاماً إنتاجياً متكاملاً مرتبطاً بالأسواق الداخلية والخارجية. لقد نصت المعاهدة على تحديد الرسوم الجمركية على الواردات الأوروبية في حدود 10% فقط (ما كان يُعرف بضريبة الأديان) الإجراء الذي خلف تأثيرا مزدوجا ومدمرا: و تم إغراق السوق، حيث تدفقت البضائع الأوروبية الرخيصة على المدن والموانئ المغربية، مما أدى إلى تدهور وإفلاس الحرف والصناعات التقليدية التي لم تستطع منافسة المنتجات المصنعة، وبدأت تتشكل بنية اقتصادية تابعة تعتمد على استيراد المنتجات المصنعة وتصدير المواد الخام. وشَلّتُ الخزينة، فقد كانت الإيرادات الجمركية تشكل المصدر الرئيسي والوحيد تقريباً لدخل المخزن. و تخفيض هذه الرسوم قوض الأساس المالي للدولة، مما خلق عجزاً مزمناً في الميزانية، وأضعف قدرة السلطان على تمويل الإصلاحات العسكرية والإدارية اللازمة للدفاع عن البلاد. تضمنت معاهدة 1856م أيضاً توسيع نطاق الحماية القنصلية، حيث مُنح الرعايا البريطانيون والمغاربة المتعاونون معهم (السماسرة) امتيازات قضائية ومالية، أعفتهم من الضرائب والأحكام القضائية المغربية. هذا النظام أدى إلى اتساع عدد "المحميين" بشكل غير مشروع لغرض التهرب من الضرائب، مما زاد من إنهاك موارد الدولة. وأصبح الأجانب والمحميون قوة فوق القانون، مما شلّ سلطة القضاء المغربي وزاد من الفوضى الاجتماعية والظلم، وهو ما سرعان ما انتقل إلى الدول الأخرى بموجب مبدأ "الدولة الأكثر رعاية"، كما حدث في المعاهدة الإسبانية (1861م) والفرنسية (م1863). لم يقتصر التغلغل على الاقتصاد التجاري، بل امتد ليصبح مسيطراً على المالية العامة للدولة من خلال القوة العسكرية، وكانت حرب تطوان هي الشرارة. بعد الهزيمة الساحقة للجيش المغربي أمام إسبانيا في حرب تطوان (1859-1860م)، فُرضت شروط قاسية في معاهدة واد راس (26 أبريل 1860م). حيث أجبرت إسبانيا المغرب على دفع غرامة حرب فلكية بلغت 119 مليون بسيطة (ما يقارب 400 مليون ريال إسباني)، وهو مبلغ ضخم يفوق طاقة الخزينة المغربية بكثير، بالإضافة إلى احتلال مدينة تطوان كضمان حتى السداد. على ضوء كل ذلك كان النظام السياسي مضطراً لتوفير السيولة. ولأول مرة في تاريخه الحديث، لجأ المخزن إلى الاقتراض الخارجي الكبير (قرض 1861م) من البنوك الأوروبية (البريطانية والإسبانية)، وكانت شروط القرض قاسية جداً. الأهم من ذلك، تم رهن جزء كبير من إيرادات الجمارك للدول الدائنة لضمان السداد. هذا الإجراء نقل السيطرة الفعلية على الموانئ المغربية إلى الامبريالية. أدت هذه الخطوة إلى دخول المغرب في حلقة مفرغة من المديونية، كان العجز في الإيرادات (بسبب 1856) يفاقمه العبء السنوي لتسديد الديون وفوائدها (بسبب 1860)، مما أجبر المخزن على الاقتراض مرة تلو الأخرى، مع تزايد رهن موارده. في بداية القرن العشرين، تحولت المنافسة الأوروبية إلى تفاهمات (مثل الاتفاق الودي 1904 بين فرنسا وبريطانيا) أعطت فرنسا اليد الأطول للسيطرة على المغرب مالياً، تمهيداً للاحتلال. و لتسديد الديون المتراكمة، تم توقيع قرض ضخم مع بنوك فرنسية في عام 1904م بقيمة تجاوزت 62.5 مليون فرنك فرنسي. لم يكن هذا القرض عملية إنقاذ، بل كان أداة للسيطرة السياسية، فقد اشترطت فرنسا أن تتولى هي الإشراف المباشر على تحصيل جزء كبير من إيرادات الجمارك والضرائب كضمان للتسديد. هذا الإشراف أتاح لفرنسا التدخل المباشر في الإدارة المالية للدولة المغربية، وأصبحت القرارات المالية للمخزن تُتخذ عملياً في العواصم الأوروبية. وجاء مؤتمر الجزيرة الخضراء في 1906م، الذي عُقد بتدخل ألماني لتقسيم النفوذ، ليضفي الطابع الدولي والنهائي على التبعية المغربية. حيث قرر المؤتمر إنشاء مؤسستين رئيسيتين قوضتا ما تبقى من السيادة: 1. إنشاء البنك المخزني المغربي (Banque d’État du Maroc): مُنح البنك امتياز إصدار العملة المغربية، وأصبح المتحكم الفعلي في السياسة النقدية و تملكت فرنسا أغلبية أسهم البنك، مما أدى إلى تحول المغرب إلى دولة ذات عملة وطنية تحت السيطرة الأجنبية. 2. مُنحت فرنسا وإسبانيا حق تأسيس قوة شرطة في الموانئ وحق الإشراف على الجمارك (مما يُعرف بالجمارك المختلطة). وهكذا بحلول عام 1906م، كان المغرب قد فقد استقلاله الاقتصادي تماماً؛ فالعملة والديون والضرائب الجمركية أصبحت تحت السيطرة الأوروبية المباشرة. لم يبقَ أمام فرنسا وإسبانيا سوى إضفاء الطابع السياسي على هذا الواقع المالي عبر معاهدة فاس عام 1912م التي فرضت الحماية، ليصبح التغلغل المالي هو الحصان الذي استُخدم لفتح أبواب الحماية العسكرية. لم يكن التغلغل الأوروبي في المغرب مقتصراً على الضغوط العسكرية الخارجية أو المديونية السيادية، بل كان الأداة الأكثر فتكاً بسلطة الدولة وقدرتها على الإدارة هي نظام الحماية القنصلية الذي بدأ كامتياز دبلوماسي ضيق وتحول إلى قانون موازٍ مُشرعن دولياً. هذا النظام عمل ببطء على إفراغ سلطة الدولة من محتواها القانوني والمالي، جاعلاً فئة من الناس فوق القانون المغربي، والأهم من ذلك أنه شكل الإطار القانوني لتشكل برجوازية لخدمة الامبريالية. لقد تأسس هذا النظام بشكل واسع وخطير مع دخول المغرب مرحلة المعاهدات التجارية غير المتكافئة التي فرضتها القوى الكبرى. فكانت الشرارة الأولى هي المعاهدة المغربية البريطانية الموقعة في 9 ديسمبر 1856م. و لم يقتصر الأمر على تحديد الرسوم الجمركية على الواردات الأوروبية بنسبة 10%، مما أفقر الخزينة، بل منحت المعاهدة الرعايا البريطانيين المقيمين في المغرب امتيازات قضائية ومالية، أبرزها –كما اشرنا سابقا - الإعفاء من الضرائب المفروضة على المغاربة وعدم الخضوع للقضاء المخزني (القضاء القنصلي). سرعان ما انتقلت هذه الامتيازات لتشمل دولاً أخرى بموجب مبدأ "الدولة الأكثر رعاية" الذي تضمنته المعاهدات اللاحقة، مثل المعاهدة المغربية الإسبانية عام 1861م والمعاهدة المغربية الفرنسية عام 1863م. وقد تجاوز الامتياز الدبلوماسي ليشمل فئة واسعة من المغاربة المتعاملين مع الأجانب، مثل السماسرة والمترجمين والوكلاء. حيث كان القنصل الأجنبي يمنح هؤلاء الأشخاص بطاقة حماية، تُعفيهم من الضرائب السنوية والاستثنائية، وتحميهم من أي إجراء قضائي مغربي، إذ لا يمكن محاكمتهم أو تفتيش ممتلكاتهم إلا بحضور القنصل. أدى هذا التوسع العشوائي إلى ظهور طبقة جديدة من المحميين استغلت هذه الحصانة لتراكم الثروات والتهرب من الضرائب، مما أدخل المغرب في فوضى قانونية ومالية متصاعدة. مع تزايد أعداد المحميين (في بعض التقديرات، تضخم عدد المحميين من بضع مئات قبل 1880م إلى عشرات الآلاف مع نهاية القرن التاسع عشر) وتفاقم الخسائر المالية التي عانت منها الخزينة المغربية بسبب تملص أثرياء البلاد من دفع الضرائب عن طريق اللجوء للحماية، أدرك السلطان الحسن الأول (1873-1894م) خطورة الوضع. لذلك، دعا (الحسن الاول) إلى عقد مؤتمر دولي في مدريد بتاريخ 3 يوليو 1880م، على أمل أن تتمكن الدول الأوروبية من الاتفاق على تنظيم هذه الظاهرة أو تقليصها. كانت نتائج المؤتمر بمثابة تثبيت للوضع الاستعماري، إذ لم يتمكن المخزن من إلغاء الامتيازات، بل خرج المؤتمر باتفاق دولي يؤكد هذه الحقوق ويُشرعنها دولياً. ومن أهم المعطيات التي رسخها المؤتمر: تم الاعتراف رسمياً بنظام الحماية القنصلية كأمر واقع دولي، وأصبح المغرب مُلزماً بتطبيقها تحت إشراف جماعي من القوى الكبرى. و تم توسيع حق الملكية حيث أكد المؤتمر على حق الأجانب في تملك العقارات في أي مكان بالمغرب (بعد أن كان مقيداً)، مما شجع على التغلغل العقاري وبداية السيطرة على الأراضي الزراعية والمناطق الاستراتيجية. كما أقر المؤتمر شروطاً لتنظيم منح بطاقات الحماية، لكنه في الواقع زاد من تضخم هذه الفئة. في بعض التقديرات، تضخم عدد المحميين من بضع مئات قبل 1880م إلى عشرات الآلاف مع نهاية القرن التاسع عشر، مشكّلين دولة داخل الدولة. كانت الآثار النهائية لنظام الحماية القنصلية على المغرب مدمرة، حيث شملت كل من الجانب القانوني والاقتصادي: • الانهيار المالي: أدى التهرب الضريبي الواسع من قبل المحميين إلى نقص مزمن في إيرادات الخزينة، مما اضطر المخزن إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة، وكان المصدر الوحيد هو القروض الأوروبية ذات الفوائد الباهظة. كما أدى تمرد المحميين على دفع ضريبة الترتيب الزراعية التي حاول الحسن الأول فرضها إلى فشل الإصلاح الجبائي بشكل كامل، مما عزز من العجز والمديونية. • تآكل السيادة القانونية حيث شكل المحميون قوة فوق القانون، مما أضعف هيبة النظام المغربي والقضاء المغربي وأدى إلى ازدياد الظلم والفوضى الاجتماعية وأصبح المواطن المغربي يرى أن سلطة القنصل الأجنبي أقوى من سلطة السلطان، وهو ما قوض هيبة الحكم المركزي التيوقراطي. باختصار، حول نظام الحماية القنصلية المغرب من دولة ذات سيادة مستقلة إلى كيان يتمتع فيه جزء من المواطنين والمقيمين بحصانة دولية، مما أدى إلى تجزئة القانون، وإفقار الخزينة، وخلق شرخ اجتماعي عميق، ليصبح هذا النظام أحد الركائز الأساسية التي اعتمدت عليها القوى الامبريالية لتبرير ودفع عملية فرض الحماية العسكرية والسياسية عام 1912م. بهذه الخطوات، تم خلق طبقة جديدة من الوسطاء المحليين— سماسرة، مترجمون، تجار كبار — شكلوا النواة الأولى لما سيسمى لاحقًا البرجوازية الكمبرادورية؛ أي تلك الفئة التي تربط الرأسمال الأجنبي بالاقتصاد المحلي، وتراكم ثروتها من خدمة الاستعمار الاقتصادي. ومن بين هؤلاء المحميين نذكر إدريس وأبو بكر التازي المرتبطين بإنجلترا وهم وكلاء لتجارة القطن في مانشستر، والعربي بنيس المرتبط بفرنسا ومستورد كبير للأقمشة الفرنسية، ومحمد الشرايبي وبناصر لحلو المرتبطين بألمانيا و محمد القباج، مرتبط تجاريًا بإنجلترا وإيطاليا وألمانيا. هؤلاء لم يكونوا مجرد تجار، بل قنوات لنقل النفوذ الرأسمالي إلى الداخل المغربي، ووسائل لتصريف فائض الإنتاج الأوروبي مقابل نهب المواد الخام المغربية.لقد شكلوا القاعدة الاجتماعية للاستعمار الاقتصادي قبل الاحتلال العسكري، وكانوا بمثابة الأدوات الداخلية لتهيئة الأرضية لاندماج المغرب في النظام الرأسمالي الإمبريالي أي لتصريف الرأسمال المالي الامبريالي وتوسيعه. وقد برز اليهود المغاربة خلال هذه المرحلة كعنصر محوري داخل البنية الاقتصادية والسياسية للمغرب، في لحظة تاريخية كانت فيها البلاد تواجه ضغطًا متزايدًا من القوى الامبريالية الطامحة إلى توسيع نفوذها التجاري والعسكري. لقد أدرك السلاطين، حتى قبل عهد السلطان إسماعيل، أن حماية السيادة الاقتصادية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر التحكم في قنوات التجارة الخارجية، دون الانغلاق الكامل عنها. غير أن الدولة لم تكن تتوفر على النخب التقنية أو التجارية القادرة على التفاعل المباشر مع السوق الأوروبية المعقدة، ما دفعه إلى استثمار موقع المغاربة اليهود بوصفهم فاعلًا اجتماعيًا ذا خبرة عريقة في المعاملات التجارية، ومرتبطًا بشبكات تمتد من موانئ الصويرة وطنجة وتطوان إلى أمستردام ولندن ومرسيليا. لقد وفّر هؤلاء التجار اليهود للدولة قناة فعّالة للتواصل مع الأوروبيين، سواء في تبادل السلع أو في التفاوض السياسي. فمع تأسيس مدينة الصويرة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في عهد السلطان محمد بن عبد الله، تحولت المدينة إلى مركز للتجارة الخارجية المغربية، وبرز فيها اليهود كحلقة رئيسية في تصدير المنتوجات المحلية مثل الجلود والشمع والذهب والقمح، واستيراد المواد الأوروبية كالأقمشة والسلاح. إن هذا الاندماج في النشاط التجاري لم يكن معزولًا عن السياسة، إذ عيّن السلطان عددًا من التجار اليهود "تجّار السلطان" (Tujjâr as-Sultân) وأوكل إليهم مهام الإشراف على بعض العمليات المالية والدبلوماسية الحساسة، مثل المراسلات مع القناصل الأجانب والتفاوض حول صفقات السلاح. بهذا المعنى، لم يكن دورهم مجرد وساطة اقتصادية بل وظيفة سياسية – دبلوماسية ساهمت في تنظيم العلاقة بين السلطة المركزية والامبرياليين الأوروبيين. لقد لعب هؤلاء الوسطاء دورًا مزدوجًا، اقتصادي وسياسي، إذ لم يقتصر عملهم على الوساطة التجارية بل امتد إلى إدارة المعاملات المالية الحساسة نيابة عن البلاط السلطاني، بما في ذلك تحويل الأموال الأوروبيين ودفع الضرائب المستحقة على الصفقات التجارية. من بين هؤلاء، برز شخصيات مثل يعقوب بن عزيز في الصويرة، الذي أُشير إليه في رسالة سلطانية عام 1775 باعتباره المسؤول عن الإشراف على صادرات الجلود والتفاوض مع التجار البرتغاليين والهولنديين، أو إسحاق بن شمعون في طنجة الذي أصبح وسيطًا معتمدًا بين المخزن والقناصل الإنجليز. وفي العمق، كان هذا الاعتماد على اليهود يعكس توازنًا دقيقًا بين الحاجة الاقتصادية والرغبة في الحفاظ على السيادة. فالنظام السياسي، وهو يواجه اختلالًا في ميزان القوى مع أوروبا الصناعية، وجد في هؤلاء الوسطاء وسيلة لتقليص التبعية المباشرة دون الانعزال عن الاقتصاد العالمي. في المقابل، استفاد التجار اليهود من هذا الوضع الاستثنائي ليرسخوا مواقعهم داخل البنية الطبقية المغربية، إذ راكموا ثروات كبيرة بفضل التحكم في مسالك التبادل التجاري والمالي، وامتلكوا خبرة تقنية في مجالات الصرف والتقييم والتوريد لم تكن متاحة للتجار المحليين المسلمين. هذا التراكم الاقتصادي ترافق مع تعزيز لمكانتهم السياسية داخل البلاط، حيث أصبح بعضهم مستشارين أو مترجمين رسميين في السفارات، كما حدث خلال بعثات التفاوض مع إنجلترا وهولندا في أواخر القرن الثامن عشر. ولم يكن هذا الصعود الاقتصادي والاجتماعي معزولًا عن تطور البنية الطبقية المغربية. فبينما ظلت النخبة التقليدية – من فقهاء وقواد وأعيان – مرتبطة بنمط الإنتاج الزراعي والجبائي، كان التجار اليهود يمثلون طليعة الفئة الجديدة المنخرطة في الاقتصاد النقدي والتبادل التجاري الدولي. لقد شكلوا، من حيث الوظيفة البنيوية، أداة لربط الاقتصاد المغربي الناشئ بشبكات الرأسمال الأوروبي، دون أن يتحولوا بعد إلى طبقة برجوازية مستقلة. وهكذا، فإن العلاقة بين السلاطين والتجار اليهود لم تكن مجرد علاقة "تسامح ديني" كما يصورها الخطاب الرسمي، بل كانت نتاجًا لحسابات اقتصادية دقيقة وضرورات سياسية موضوعية. لقد احتاج النظام السياسي إلى وكلاء يجيدون لغة السوق الحديثة، واحتاج التجار اليهود إلى حماية سياسية تضمن لهم الاستمرارية والاحتكار النسبي لبعض القطاعات الحيوية. ومن خلال هذا التحالف نشأ توازن هشّ بين السلطة والرأسمال التجاري، حيث مثّل اليهود القناة التي من خلالها تسللت آليات السوق الأوروبية إلى المغرب، وهي الآليات التي ستتحول لاحقًا إلى رافعة لولادة برجوازية محلية تابعة، مهمتها الأساسية ضمان تدفق رأس المال الأجنبي والحفاظ على مصالح القوى الإمبريالية الصاعدة. إن نظام الحماية القنصلية مثّل قبل كل شيء تحولًا في البنية الطبقية للمجتمع المغربي، فمن برجوازية مرتبطة بالإقطاع و بالسلطان تعتمد على امتيازات الريع الداخلي، انتقلنا إلى برجوازية كمبرادورية تعتمد على الريع الإمبريالي. فبينما كانت الفئة الأولى خاضعة لسلطة السلطان ومصالحه، أصبحت الثانية خاضعة لمصالح القناصل والرأسمال الأوروبي، أي أنها نقلت مركز الولاء من الاقطاع إلى الاستعمار. بهذا المعنى، لم يكن التغلغل الأوروبي مجرد حدث خارجي، بل تحول داخلي في نمط التراكم الطبقي؛ إذ أعاد ترتيب العلاقات بين السلطة والثروة، وأدخل التشكيلة الاجتماعية المغربية في مدار الرأسمالية العالمية. إنّ الضغوط العسكرية التي مثلتها معركة إسلي وحرب تطوان، والضغوط الاقتصادية التي جسدتها المعاهدات التجارية، لم تكن سوى مراحل متتالية في عملية إخضاع تدريجي للمغرب. فالرأسمال الأوروبي لم يحتج إلى احتلال مباشر في البداية؛ لقد استعمر من خلال السوق، ومن خلال خلق طبقة وسيطة محلية. وبذلك، فإن ما بدأ باحتكارات مخزنية داخلية — أي إقطاع تجاري يعتمد على الولاء السياسي — انتهى إلى نظام احتكارات إمبريالية تتحكم فيه القوى الأجنبية من خلال طبقة كومبرادورية. وبين هذين الشكلين من الاحتكار، تفككت البنية الاقتصادية للمغرب، خالقة في نفس الوقت بنية طبقية مغايرة داخل المجتمع ودخلت مع ذلك البلاد مرحلة التبعية البنيوية التي مهدت لفرض الحماية سنة 1912. وبهذا، يمكن فهم احتكار النظام الاقطاعي كجسر تاريخي، بدأ كآلية للسيطرة على فائض القيمة لخدمة بقائه وبقاء دولته، لكنه انتهى بتشكيل طبقة وكيلة ساهمت، بعد سقوط الاحتكار تحت الضغط الخارجي، في تفتيت البنية الاقتصادية والقانونية للدولة لخدمة مصالحها الطبقية الخاصة وربط مصير البلاد نهائياً بمراكز الرأسمالية العالمية. إن هذا التحول في البنية الطبقية للمجتمع المغربي خلال تلك المرحلة قد نتج عنه اشتداد الصراع الطبقي الذي أخذ العديد من الأبعاد الاجتماعية والسياسية و الفكرية. فمن نظام يقوم على الريع السلطاني والاقطاع التجاري انتقل المغرب إلى مرحلة الانفتاح القسري على السوق الامبريالية، الامر الذي غير مواقع العديد من القوى المرتبطة تاريخيا بالنظام السياسي من فقهاء وزوايا و... الخ، و أحدث انقساما بين تجار السلطان الذين تحولوا الى محميين فيما بعد والعديد من التجار المستقلين ومعظم الجماهير و بين أنصار الإصلاح والانغلاق و بين الولاء للسلطان والارتباط بالخارج. مع بداية التغلغل الأوروبي، بدأ العلماء والفقهاء — باعتبارهم الحامل الإيديولوجي للنظام القديم — يشعرون بأن السلطة السياسية تفقد شرعيتها الدينية بسبب تنازلاتها المتكررة للأجانب (المعاهدات، القروض، الحمايات). كان هؤلاء العلماء جزءًا من البنية الفوقية للإقطاع المغربي، إذ وفروا للمخزن شرعية دينية مقابل حماية امتيازاتهم. وقد عملوا على تثبيت البنية الفوقية من خلال الفتوى والخطاب الشرعي، مؤكدين الطاعة للحاكم والقبول بالفوارق الطبقية باعتبارها "قدراً إلهياً". غير أن هذه الفئة نفسها، أي الفقهاء والطرق والزوايا، لم تكن جامدة، ففي بعض اللحظات التاريخية، استخدمت الدين كأداة للمقاومة، كما في فترات الجهاد ضد الاحتلال. وهذا يعكس الطابع الجدلي للبنية الفوقية: فهي تُستخدم تارة لتثبيت النظام القائم، وتارة أخرى لمقاومته، تبعًا لموقع أصحابها في شبكة المصالح. غير أنه لم يكن الفقهاء في المغرب قبل فترة الحماية جسما متجانساً اجتماعياً أو اقتصادياً، بل كانوا ذوي مصالح متباينة، حيث لم تكن وظيفة رجل الدين مقتصرة على المراكز الدينية المستقلة أو مرتبطة بجهاز الدولة والإنتاج المادي بطريقة موحدة. فكانت هناك فئات انخرطت في التجارة والعقار مُوظفةً رؤوس أموالها، بينما ارتبطت فئات أخرى بـالوظيفة في جهاز الدولة، واقتصرت غيرها على التدريس والإفتاء. هذا التباين الجوهري في المصالح الاقتصادية هو ما أدى إلى تنوّع مواقفهم من الضغط الأوروبي بشكل عام، فتراوحت استجاباتهم بين الانغلاق والرفض والمحافظة من جهة، والانفتاح والتحديث والإعجاب من جهة أخرى. ساهم التجار المغاربة في القرن التاسع عشر في صياغة القوانين الجديدة الخاصة بالأمانة وتنظيم التجارة، حيث ارتبطت هذه الإصلاحات بعهد السلطان محمد الرابع، وتواصلت في زمن الحسن الأول الذي أوفد بعثات إلى الخارج. كما شملت الإصلاحات الموانئ المغربية ومكاتب البريد، خاصة في مدينة فاس التي تولى عبد الكريم بن جلون الفاسي إدارتها، مع منحه صلاحيات واسعة. ولم يقتصر دور التجار على الداخل، بل امتد إلى المشاركة في المعارض الدولية، مثل معرض باريس سنة 1867 الذي حضره التاجر محمد بن العربي القباج. في هذه اللحظة التاريخية، بدأت الإقطاعية تفقد بعضًا من قوتها ومراكزها، إذ صار النظام السياسي يعتمد على التجار في تمويل الإصلاحات العسكرية والنقدية، بعد أن كانت الموارد الشرعية تأتي من الفقهاء والزوايا. وهكذا بدأ الفقهاء في القرن التاسع عشر يشعرون بتراجع مكانتهم الرمزية والسياسية، فوجهوا انتقادات حادة للتجار، متهمين إياهم بمولاة “النصارى” والارتماء في أحضان الكفار. ومنذ سنة 1860م، بدأت تُوجَّه صراحة تهمة مهادنة الأوروبيين إلى التجار عامة، وتجار فاس خاصة، حيث كان العراقي أول من صرح بذلك قائلاً: "ومشاورتنا للسفهاء من التجار الذين لم يباشروا الحرب ولا قاربوا ساحتها لكونهم جُبلوا على الجبن، وقد استولى حب الدنيا على قلوبهم واشتاقوا إلى معاشرة الروم وأرضهم، ويُعلن ألسنتهم بذلك لدى الخاص والعام". وتتابعت بعد ذلك الدعوات إلى مقاطعة المحميين من التجار والعلماء، كما ورد عند المشرفي وصاحب الرسالة في أهل الباسابور الثلاثة الذي كتب: "وبعد، فقد وجّه سؤال لأهل العلم، حفظهم الله بحفظه، وأهل السنة، وفي حادثة حدثت في قرننا هذا في حدود السبعين والمائتين والألف (1270 هـ)، وهي دخول المسلمين تحت كلمة الكفر وعبورهم إلينا بالحماية، مُعتذرين بها عن تحصين أموالهم من ثقل المغارم، ومع أنهم يجعلون حظاً وافراً لمن يحميهم بإذلال وطيب نفس، فهل يكون المتحمي بالحماية على هذه الحالة مسلماً عاصياً، أو خرج عن دينه بالكلية؟ وللإمام أن يحكم فيه بالاجتهاد". كما هاجم أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الفاسي تجار فاس قائلاً إنهم "أصبحوا يتخذون دين الله هزواً... ويميلون لأهل الشرك والضلال، ويرضون بهم أولياء وأعواناً وجيراناً وأحباباً، ويُعلنون باتخاذ حمايتهم ويُجاهرون بالالتقاء بهم وموالاتهم"، ومن أبرز خطبه في هذا السياق: "إيقاظ السكارى المتحمين بالنصارى" و"الويل والثبور لمن احتمى بالباسابور". أما جعفر الكتاني الفاسي (ت 1323هـ/1905م)، فقد ألّف كتابه "الدواهي المدهية للفرق المحمية" الذي يُعدّ أوسع وأشمل مؤلف في هذا الباب، مؤكداً فيه أن "احتجاج الموالين للعدو بجواز موالاتهم بظلم الولاة لهم وتعدّيهم عليهم باطل، ويكفي في رده مصادمته للآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام أئمة الملة الحنفية ودلالته على ضعف الإيمان وقلة الورع... إذ لا يُقال بترجيح عرض دنيوي مُحتقر على بهاء دين أخروي". وقد أورد الناصري حادثة مقتل أحد تجار فاس بسبب احتمائه بالأجنبي، حيث قال: "وفي سنة اثنين وثمانين ومائتين وألف [1282 هـ] حدثت فتنة بفاس، وذلك أن الناس كانوا في صلاة الجمعة بمسجد القرويين، وكان فيهم التاجر الأجدل أبو عبد الله بن هاشم بن جلول الفاسي، فلما سجد، قام بعض اللصوص فشرخ رأسه بحجر كبير من أحجار التيمم التي تكون بالمسجد، ثم انحنى عليه الفاسي بخنجر كان بيده فقطع به بطنه"، وهو ما شكّل تهديداً صريحاً للتجار المتعاملين مع الأوروبيين داخل المدينة. لم يكن هجوم العديد من الفقهاء فقط على التجار المرتبطين بالرأسمال الامبريالي، بل كان جزء كبير منهم ضد كل انفتاح أو تحديث للبنية التحتية المغربية. شاركهم في ذلك حتى بعض التجارالمغاربة من بين هؤلاء الذين أبدوا تحفظًا على دعوات الإصلاح الأوروبية، و يبرز هنا موقف عبد الواحد الزياتي، وكيل التجار بالقاهرة، الذي كان ضمن بعثة السلطان الحسن الأول إلى باريس. فقد اعتبر أن هذه الدعوات ليست سوى وسيلة للتغلغل الأجنبي، وأن الاحتلال الفرنسي للجزائر لم يكن إلا قاعدة للانطلاق نحو غزو المغرب. وأشار إلى أن السكك الحديدية، التي يروج لها الأوروبيون كرمز للتحديث، ليست سوى أداة للتوسع العسكري، مستشهدًا بما وقع في تونس حيث استُخدمت خطوط الحديد لنقل الجنود وبسط السيطرة، قائلا: "ولا يخفى على سيدنا أن الكفار لما يملكون ذراعا يمدون فيه سكة الحديد ليملونه كما فعلوا بتونس". على الضفة الأخرى، كانت البرجوازية التجارية الناشئة تطور رؤيتها الخاصة، وكانت تعبر عن مصالحها الاقتصادية بـتأييد الإصلاحات، والمطالبة بحرية التجارة والتصنيع والتكنولوجيا، وإنشاء الطرق العصرية ووسائل النقل الحديثة. هذا التأييد يعكس حاجتها المستمرة لـتوسيع سوقها وإزالة المعيقات أمام تدفق السلع ورأس المال. لقد كانت الأمور تتجه موضوعيا نحو تشكل طبقي جديد، حيث تراكمت لهؤلاء التجار رساميل مهمة وملكيات عقارية ممتدة، لقد أصبح وجود هذه الفئة مرتبطًا بشكل وثيق بعلاقات الإنتاج والتداول الجديدة التي فرضتها التجارة الخارجية. إن تحالفهم مع المخزن كان جزءًا من تغيير السلطة السياسية لقاعدتها الاقتصادية لمواجهة الأزمة، حيث أصبح المخزن يمزج مصالحه مع مصالح هذه البورجوازية التي كانت تمتلك الخبرة المالية لتسيير شؤون الدولة المعقدة، فاستشارهم السلطان في أمور كانت حكراً على الفقهاء، وكلّفهم بمهام الأمناء والإصلاح النقدي، بل وتولوا مسؤولية تنظيم البريد. هذا الاندماج المتزايد للتجار في إدارة الحكومة والتجارة كان على حساب النفوذ التقليدي للعلماء. الأحداث والوقائع حول هذا الصراع في تلك الفترة كثيرة وغنية إلى حد لا يصدق، تعبر بالفعل عن الزلزال الذي أصاب المجتمع المغربي آنذاك وعن مرحلة حقيقية لبداية التحول في البنية الطبقية عكستها تلك الصراعات حول الانفتاح والدين وغيرها من القضايا الفكرية. لقد كان الصراع بين الفقهاء والتجار في مغرب القرن التاسع عشر هو التعبير الفوقي عن تفاعلات البنية التحتية السائرة في التغير.
و شكل العصيان والتمردات و التورات المسلحة في القرن التاسع عشر مظهرًا واضحًا لتضخّم استغلال الفلاحين و الحرفيين و باقي الجماهير عبر جهاز سلطوي ريعي، وكانت نتيجةً مباشرة لسياسات جبايةٍ قمعية، وأزمات بيئية واقتصادية وهزائم عسكرية متكررة. فموجة التمردات المتلاحقة التي انطلقت شرارتها الأولى من رحم المعاناة اليومية تحت وطأة النظام الجبائي، لم تكن مجرد أحداث منعزلة في سجل التاريخ، بل كانت فصولاً متصلة في ملحمة الرفض الشعبي التي كشفت عن ارتفاع حدة الصراع الطبقي بين الاقطاع بكل فئاته و بين الفلاحين الفقراء و الحرفيين و الجماهير من الشعب. ففي مطلع هذه الحقبة، وتحديداً سنة 1897، انفجر غضب قبائل تادلة والأعشاش كأول إنذار جدّي بانهيار صبر الفلاحين، حيث لم يكن التمرد في جوهره سوى رد فعل طبيعي على سياسة الابتزاز الممنهج التي انتهجها المخزن تحت وصاية أحمد بن موسى. فالقبائل التي كانت تضغط عليها متطلبات الزكاة والمئونة والسخرة، وجدت نفسها أمام مطالب جديدة تفوق طاقتها، لكن الأهم من حجم المبالغ المطلوبة كان الانزياح في منطق العلاقة ذاتها؛ فتحولت الجباية من "واجب شرعي" مقبول بفعل الخطاب الاديويلوجي للفقهاء و رجال الدين إلى إكراه مرفوض. و حين أرسل المخزن قواته لقمع الانتفاضة، لم يكن يؤدب فلاحين متمردين فحسب، بل كان يدفع بأولى المسامير في نعش شرعيته. لقد أظهر هذا التمرد أن العصا لم تعد كافية لفرض الطاعة عندما تتعطل كل آليات الإقناع والرضا. بعد عامين فقط، وتحديداً سنة 1899، جاء تمرد قبيلة مسفيرة ليكشف عن منحى أكثر حدة في مسار الرفض الشعبي. فلم يعد الأمر مجرد امتناع عن دفع الجباية، بل تحول إلى مواجهة مسلحة مفتوحة، وكأن القبيلة تعلن أن حياتها تحت نير المخزن أصبحت موتاً بطيئاً، فاختارت الموت في ساحة المعركة على أن تموت جوعاً وصمتاً. القمع الدموي الذي واجهت به الدولة هذا التمرد لم يكن نصراً لها، بل كان اعترافاً ضمنياً بعجزها عن حل التناقضات المتزايدة الحدة، وظهورها في حقيقتها كآلة قمع. لقد أظهر سحق تمرد مسفيرة أن المخزن أصبح يفتقد لتلك "الشرعية" التي كانت تستمد من"أمير المؤمنين"، ليحل محلها منطق القوة الغاشمة و القمع الدوي. لكن أخطر تحول في طبيعة المقاومة جاء مع ثورة الجيلالي الزرهوني، الشهير ببوحمارة، التي انطلقت شرارتها حوالي 1902. هنا لم نعد أمام تمرد محلي يطالب بتخفيف الضرائب، بل أمام حركة شعبية شاملة اتخذت طابعاً دينياً-سياسياً، وهدفت إلى قلب النظام القائم برمته. لقد استطاع بوحمارة، أن يحول السخط المادي إلى مشروع ثوري، وأن يحول الغضب من الجباية إلى رفض لشرعية الدولة ذاتها. و أن تستمر هذه الثورة لسنوات، وتسيطر على مناطق شاسعة، وتصمد أمام جيوش الدولة، فهذا دليل على أن النظام لم يعد يملك ما يقدمه للشعب سوى القمع. لقد كانت ثورة بوحمارة إعلاناً عن موت الشرعية الدينية-السياسية للمخزن، وبروز بدائل من صميم المجتمع تطرح نفسها منقذة من الظلم. أما انتفاضة 1911، فجاءت كخلاصة مأساوية لهذا المسار الطويل من التمرد، فلم تكن انتفاضة عابرة، بل كانت انفجاراً شاملاً لجسم المجتمع المغربي الذي أنهكته سياسة المخزن وعجزه. فلم يعد المطلوب إصلاح النظام، بل رفضه بالكامل.. فانتفاضة القبائل ضد الظلم و القهر التي هددت النظام السياسي برمته كانت في الوقت نفسه تهدد الرأسمال الامبريالي و هو ما التقطه المستعمر الفرنسي للتدخل تحت دعوى "إعادة الأمن" وفرض الحماية سنة 1912. خلال عقدين فقط، تحول مسار الاحتجاج من رفض ضريبة إلى رفض الدولة، ومن مطلب إصلاحي إلى ثورة شاملة، ومن مواجهة داخلية إلى فتح الباب للاحتلال. هذا المسار لم يكن حتمياً، بل كان ثمرة لمختلف التغيرات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية التي شهد المغرب عبر مرحلة طويلة من الصراع بين الاقطاع من جهة و جماهير الفلاحين و الحرفيين، و بين الإقطاع السائر تاريخيا نحو الزوال و الرأسمال الامبريالي الصاعد و المتحمس للمخاطرة من أجل الربح. لقد كانت أحد نتائج كل تلك المرحلة الممتدة لما يناهز قرن من الزمن، تغير حقيقي في البنية الطبقية للمغرب و في علاقات القوى بين الطبقات، كان أبرزها تشكل طبقة جديدة، طبقة برجوازية مرتبطة عضويا بالرأسمال الامبريالي تسهر على تنمية ثرواتها عبر خدمته و الامتثال لحاجياته : البرجوازية الكمبرادورية. كيف أكملت هذه الطبقة اشكلها و تطورها و مسارها نحو السيطرة الطبقية في المغرب، وقبل ذلك كيف تطورت اقتصاديا وبرزت سياسيا و فكريا (أي طبقة لذاتها) إبان الاستعمار المباشر و بعد الاستقلال الشكلي؟ ذلك ما سوف نحاول الإجابة عنه في الأجزاء القادمة من هذه الدراسة.
#عادل_المغربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حق الأمم في تقرير مصيرها: قراءة في بعض الأبعاد الطبقية للقوم
...
-
معركة طوفان الأقصى... جرأة أم انتحار؟
-
الأسير الفلسطيني: جبهة متقدّمة ضد الصهيونية والإمبريالية
-
ترامب… حين يمشي رأس المال على قدميه
-
نزع السلاح: تراجيديا الشعب الاعزل في محراب التاريخ
-
لنناضل من أجل بناء جبهة شعبية لمناهضة الامبريالية
المزيد.....
-
م.م.ن.ص// يريدوننا ان نموت في صمت.. الموت هو الموت...
-
بيان الحزب الشيوعي في تشيلي بعد الانتخابات الرئاسية
-
ميشيل فوكو: الأفكار والتأثير والنقد السياسي
-
السودان.. القوى المدنية تطالب بتصنيف الإخوان جماعة إرهابية
-
جريدة “الفجر” تتوقف عن الصدور وصحفيوها بلا رواتب منذ 6 أشهر
...
-
حزب التقدم والاشتراكية بتازة يجدد هياكله وينتخب الرفيق سعيد
...
-
What Germans Think About AI
-
تشيلي بعد اليسار: تداعيات فوز اليمين الراديكالي على السياسة
...
-
الدورة السابعة للجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية تحت شع
...
-
لا.. لاتفاقية الغاز مع العدو الصهيوني
المزيد.....
-
بين قيم اليسار ومنهجية الرأسمالية، مقترحات لتجديد وتوحيد الي
...
/ رزكار عقراوي
-
الاشتراكية بين الأمس واليوم: مشروع حضاري لإعادة إنتاج الإنسا
...
/ رياض الشرايطي
-
التبادل مظهر إقتصادي يربط الإنتاج بالإستهلاك – الفصل التاسع
...
/ شادي الشماوي
-
الإقتصاد في النفقات مبدأ هام في الإقتصاد الإشتراكيّ – الفصل
...
/ شادي الشماوي
-
الاقتصاد الإشتراكي إقتصاد مخطّط – الفصل السادس من كتاب - الإ
...
/ شادي الشماوي
-
في تطوير الإقتصاد الوطنيّ يجب أن نعوّل على الفلاحة كأساس و ا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (المادية التاريخية والفنون) [Manual no: 64] جو
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية(ماركس، كينز، هايك وأزمة الرأسمالية) [Manual no
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
تطوير الإنتاج الإشتراكي بنتائج أكبر و أسرع و أفضل و أكثر توف
...
/ شادي الشماوي
-
الإنتاجية ل -العمل الرقمي- من منظور ماركسية!
/ كاوە کریم
المزيد.....
|