أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عادل المغربي - حق الأمم في تقرير مصيرها: قراءة في بعض الأبعاد الطبقية للقومية والتحرر الاجتماعي















المزيد.....


حق الأمم في تقرير مصيرها: قراءة في بعض الأبعاد الطبقية للقومية والتحرر الاجتماعي


عادل المغربي

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 16:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


"ان الذي يهمنا قبل كل شيء، واكثر من كل شيء، في قضية حرية الأمم في تقرير مصيرها كما في كل قضية اخري، هو حرية البروليتاريا في تقرير مصيرها داخل الأمم. " لينين
قبل المقدمة
في الآونة الأخيرة، غصّت الساحة السياسية بسيلٍ من “التحليلات” حول قضية الصحراء الغربية، وما أثاره قرار مجلس الأمن الأخير بشأنها من ردود فعل ومواقف متباينة — بعضها يبعث على السخرية، وبعضها الآخر يدعو للأسى.
نجد من بين هذه المواقف من يسعى إلى تكريس خطابٍ انتهازي، ومن يراهن على الإمبريالية لحلّ مسألة تقرير المصير، ومن لا يتورع عن الانسياق وراء خطاب الرجعية في المغرب.
لكن، حين نريد أن نتخذ موقفًا من قضيةٍ كهذه، ينبغي أولاً تأطيرها نظريًا حتى لا ننحرف عن خط الثورة و خط مصلحة البروليتاريا؛ فـ لا ممارسة ثورية دون نظرية ثورية.
من هذا المنطلق، نطرح هذا النقاش بروحٍ هادئة سياسيًا وصارمة نظريًا، بما يضمن وضوح الرؤية ومتانة التحليل
مقدمة
تُعدّ مسألة حقّ الأمم في تقرير مصيرها من أكثر القضايا تركيبًا في الفكر الاشتراكي الثوري، لما تنطوي عليه من تناقضٍ بين المطلب القومي للتحرّر، والمطلب الطبقي للتحرّر الاجتماعي. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ومع صعود البرجوازية كطبقة مهيمنة على المسرح التاريخي، دخلت الحركة الماركسية في مواجهة مزدوجة: من جهة، ضدّ قمع البرجوازية الحاكمة التي مارست الاستبداد القومي باسم “وحدة الدولة” و“المصلحة العليا للأمة”، ومن جهة ثانية، ضدّ النزعات القومية الانعزالية التي غذّتها البرجوازيات الصغيرة للأقليات المضطهدة، والتي كانت تسعى إلى بناء دولٍ جديدة على أسسٍ قوميةٍ ضيّقة، دون المساس بالبنية الطبقية للرأسمالية.
في هذا السياق التاريخي، قدّم فلاديمير إيليتش لينين مقاربةً جدليةً أصيلة، تمكّنت من تجاوز الثنائية الشكلية بين “الوحدة” و“الانفصال”، إذ ربط بين حقّ الأمم المضطهدة في الاستقلال السياسي من جهة، وضرورة الوحدة الأممية للطبقة العاملة من جهة أخرى. فبالنسبة إلى لينين، لم يكن تقرير المصير هدفًا في ذاته، بل لحظةً من لحظات الصراع الطبقي العالمي، تُوظَّف في خدمة الثورة الاشتراكية وتفكيك البنية الإمبريالية للرأسمالية.
إنّ هذه المقالة تسعى إلى تفكيك هذا الموقف اللينيني من منظورٍ نظري ماركسي، عبر الكشف عن الأسس الطبقية الكامنة في الخطابات الليبرالية والقومية والانتهازية التي حاولت اختزال المسألة القومية في حدودها الشكلية والسياسية، دون إدراك مضمونها الاجتماعي والاقتصادي. كما تهدف إلى إبراز منطق الأممية البروليتارية بوصفه البديل التاريخي الوحيد القادر على تجاوز الاغتراب القومي والاستغلال الطبقي في آنٍ واحد، أي تحقيق تحرّر الإنسان لا كعضوٍ في أمّةٍ، بل ككائنٍ اجتماعيٍّ منتمٍ إلى الإنسانية الكونية
فمنذ بدايات الفكر الماركسي، لم تُطرح المسألة القومية باعتبارها قضية أخلاقية أو ثقافية، بل كقضية اقتصادية - اجتماعية متجذّرة في تطوّر أنماط الإنتاج وتحوّلات البنية الطبقية. فماركس وإنجلز لم يتعاملا مع “الأمة” كجوهرٍ ثابتٍ أو ككيانٍ فوق تاريخي، بل كنتاجٍ لتطوّر الرأسمالية ذاتها، التي وحّدت السوق القومي ودمجت الجماعات البشرية في فضاءٍ اقتصادي وسياسي واحد يخدم مصالح الطبقة البرجوازية الصاعدة. بهذا المعنى، فإنّ الأمة ليست نقطة انطلاق بل نتيجة لعملية تاريخية طويلة، محكومة بضرورات تراكم رأس المال وتوسّع السوق.
لكنّ هذا التوحيد الذي قامت به الرأسمالية لم يكن خاليًا من التناقضات؛ فقد أفرز في الوقت ذاته ديناميات تفكّكٍ واضطهادٍ قومي. إذ بينما سعت البرجوازية إلى إخضاع الشعوب تحت ذريعة “الوحدة القومية” أو “التحديث”، كانت تمارس في الواقع شكلًا جديدًا من الاستعمار الداخلي، حيث تحوّلت الأمة/القومية المهيمنة إلى أداة لتكريس سيطرة طبقةٍ على أخرى، وشعبٍ على شعب. وهنا تحديدًا تكمن رؤية الماركسية الجدلية: فكلّ خطابٍ قومي هو انعكاسٌ لصراعٍ طبقيٍّ محدّد داخل بنية اجتماعية تاريخية
وهكذا فالماركسية تنظر إلى أن القومية ليست جوهرًا أزليًا أو رابطة طبيعية بين أفراد “ينتمون” إلى أصل واحد، بل هي ظاهرة تاريخية ارتبطت بنشوء الرأسمالية وبناء السوق القومي الموحد.
لقد أدّت الثورة البرجوازية في أوروبا إلى تحطيم البُنى الإقطاعية، وإلى توحيد الأسواق والمجالات السياسية تحت سلطة مركزية، فأصبحت “الأمة” هي الشكل السياسي الطبيعي لحركة رأس المال.
وبذلك، فالقومية هي إطار تاريخي مؤقت لتنظيم الإنتاج والتبادل، وليست قيمة أخلاقية مطلقة كما يراها الفكر الليبرالي أو القومي المثالي.
حين تناول فلاديمير لينين مسألة حق الأمم في تقرير مصيرها، لم يكن هدفه إعادة إنتاج الخطاب الليبرالي عن “الحرية” أو “الاستقلال”، بل تفكيك البنية الطبقية التي تختبئ خلف هذه الشعارات. فقد رأى أنّ موقف الليبراليين من هذه القضية لم يكن يومًا تعبيرًا عن مبدأ إنساني، بل عن مصالح البرجوازية القومية الساعية إلى توسيع امتيازاتها داخل جهاز الدولة. فالليبرالي الروسي، وهو يدافع عن “وحدة الدولة”، إنما يدافع في الجوهر عن هيمنة البرجوازية الروسية على القوميات الأخرى، تمامًا كما يفعل البرجوازي البولوني أو الأوكراني حين يرفع شعار “الاستقلال القومي” من أجل تأسيس دولته الخاصة التي تتيح له اضطهاد طبقته العاملة.
في هذا السياق، صاغ لينين موقفًا مزدوجًا ودقيقًا: فهو من جهة، يدافع عن حق الأمم المظلومة في الانفصال كحقٍ سياسي لا يجوز إنكاره، لأنّ إنكاره يعني الاصطفاف مع القهر القومي الذي تمارسه البرجوازية المهيمنة. ومن جهة أخرى، يرفض تأييد كلّ نزعة قومية على إطلاقها، لأنّ كثيرًا من هذه النزعات ليست سوى مشاريع برجوازية جديدة، تهدف إلى استبدال رأسماليٍ برأسماليٍ آخر. وهنا تظهر الجدلية الماركسية التي ميزت فكر لينين: الدفاع عن الحرية القومية بوصفها شرطًا لحرية البروليتاريا، لا بوصفها غاية قائمة بذاتها.
فالبروليتاري الواعي، كما يؤكد لينين، لا يرى في “الوحدة القومية” أو “الاستقلال القومي” خلاصه التاريخي، بل يدرك أنّ تحرّره لا يتحقق إلا بتحطيم النظام الرأسمالي الذي يولّد القهر القومي ويغذّيه. لذلك فإنّ وحدة الطبقة العاملة عبر الأمم، هي الهدف الأعلى الذي ينبغي الحفاظ عليه ضدّ كلّ أشكال التعصّب والانغلاق القومي. إنّ الأممية البروليتارية، في نظر لينين، ليست شعارًا عاطفيًا بل ضرورة موضوعية تمليها طبيعة الصراع الطبقي في عصر الإمبريالية، حيث لم تعد الحدود القومية سوى أقنعة لرأس المال العالمي.
بهذا المعنى، فإنّ لينين لم يضع “حق تقرير المصير” في مواجهة “الوحدة الأممية”، بل رآهما وجهين لمهمة تاريخية واحدة: تحرير الشعوب من الهيمنة القومية عبر تحرير الطبقة العاملة من الاستغلال. فحق الانفصال هو وسيلة لضمان المساواة الفعلية بين الأمم، والوحدة البروليتارية هي الضمانة الوحيدة لعدم تحوّل هذا الانفصال إلى أداة برجوازية جديدة. إنّ هدف الماركسي ليس الدفاع عن تعدّد الدول، بل عن توحيد البشر في صراعهم ضدّ رأس المال، أي تحويل الصراع القومي إلى صراعٍ طبقيٍّ واعٍ يخدم الثورة الاشتراكية.
إنّ العداء الذي يُظهره الليبراليون لحق الأمم في تقرير مصيرها ليس نابعًا من “حرصٍ على وحدة الدولة” كما يدّعون، بل من طبيعتهم الطبقية ذاتها. فالليبرالية، منذ نشأتها، كانت التعبير السياسي الأرقى عن مصالح البرجوازية الصاعدة التي احتاجت إلى دولة موحّدة، سوق موحّد، وجهاز إداري مركزيّ يحمي تراكم رأس المال ويضمن تدفّق الأرباح. لذلك، حين تتحول هذه البرجوازية إلى طبقة مهيمنة داخل الدولة، تصبح “وحدة الوطن” بالنسبة لها مقدّسة لأنها تعني في الواقع وحدة السوق وهيمنة رأس المال القومي. وهكذا، فإنّ العداء الليبرالي لحق تقرير المصير ليس دفاعًا عن المصلحة العامة، بل دفاعًا عن احتكار طبقي يختبئ خلف خطابٍ وطنيّ زائف.
هذا ما أدركه لينين حين فضح الليبراليين الروس الذين تذرّعوا بوحدة الإمبراطورية لتبرير إخضاع الشعوب غير الروسية. فالليبرالية القومية، في جوهرها، ليست إلا قناعًا أيديولوجيًا لسلطة البرجوازية الكبرى، إذ تحوّل “المسألة القومية” إلى وسيلة لإعادة إنتاج علاقات السيطرة الطبقية داخل الدولة الواحدة. إنّها تستخدم لغة “الهوية الوطنية” لإخفاء العلاقات المادية للاستغلال، وتحوّل الطبقة العاملة إلى أداة في خدمة مشروعها الاقتصادي والسياسي.
لم يقتصر خطر الانحراف القومي على الليبراليين وحدهم، بل تسلل إلى صفوف الحركة الاشتراكية نفسها.
فقد ظهرت فئة من “الاشتراكيين الديمقراطيين” الذين تبنّوا مواقف متناقضة: فمنهم من أنكر حق الأمم المظلومة في الانفصال بحجة الحفاظ على وحدة الحركة العمالية، ومنهم من انحاز دون نقد لكل مطالب البرجوازيات القومية الصغيرة.
في الحالتين، وقع هؤلاء في فخ الخطاب البرجوازي:
• إنكار الانفصال يخدم البرجوازية المهيمنة التي تخشى فقدان امتيازاتها؛
• بينما التأييد الأعمى يخدم البرجوازيات المحلية التي تبحث عن نصيبها من السلطة.
وكلا الموقفين، كما يوضح لينين، يمثل انحرافًا عن الخط البروليتاري الثوري: فالأول يخضع لهيمنة البرجوازية المهيمنة، والثاني يقع أسيرًا للبرجوازيات الصغيرة التي تحلم بإعادة إنتاج ذات البنية الاستغلالية في كيانٍ قومي جديد.
إنّ الموقف الماركسي الحق لا يمكن أن يكون إلا مستقلًا طبقيًا عن الطرفين معًا. فالمعيار الذي يحكم كلّ موقف من المسألة القومية هو: هل يخدم هذا المطلب تطوّر وعي الطبقة العاملة ووحدتها الأممية، أم يعمّق انقسامها ويشتّت صفوفها؟ بهذا المنظور، يصبح الدفاع عن حق تقرير المصير وسيلة لتقويض الامتيازات البرجوازية، لا لتأسيس امتيازات جديدة باسم قومياتٍ أخرى.
وهكذا، فإنّ الليبرالية القومية والانتهازية الإصلاحية تمثلان وجهين لعملة واحدة: عملة إخضاع البروليتاريا للسياسة البرجوازية، سواء عبر خطاب “الوحدة الوطنية” أو عبر خطاب “التحرّر القومي”. وكلاهما يُفرغ مفهوم الحرية من مضمونه الطبقي، ويحوّل الصراع من معركة ضد رأس المال إلى نزاع بين أعلام وحدود. إنّ هذا الانحراف هو بالضبط ما حذّر منه لينين حين أكد أنّ الدفاع عن حق الأمم لا يعني تأييد كلّ قومية، بل تدمير الأساس الطبقي لكلّ استغلال قومي، أكان روسيًا، أو بولونيًا، أو أوكرانيًا، أو غيره.
ان الموقف الماركسي الصحيح، هو موقف جدلي يقوم على قاعدة مزدوجة:
• الدفاع المبدئي عن حق الأمم في تقرير مصيرها، بما في ذلك حقها في الانفصال؛
• مع العمل في الوقت نفسه على توحيد الطبقة العاملة أمميًا في نضال مشترك ضد الرأسمالية.
الحق في الانفصال ليس غاية في ذاته، بل أداة ديمقراطية لتحطيم الامتيازات القومية وخلق شروط المساواة بين الأمم.
فلا يمكن لوحدة العمال أن تكون حقيقية إلا إذا كانت طوعية، نابعة من المساواة والاحترام المتبادل، لا من القهر السياسي أو الاضطهاد القومي
يُفرّق لينين بوضوح بين “حرية الأمم” كشعار سياسي، و“حرية البروليتاريا” كمضمون اجتماعي.
فالتحرر القومي لا يعني شيئًا إن ظل العامل خاضعًا للاستغلال داخل الأمة المستقلة.
التحرر الحقيقي هو تحرر الطبقة العاملة من كل أشكال التبعية الاقتصادية والسياسية، سواء أتت من برجوازية أجنبية أم من برجوازية محلية.
من أجل تحقيق الوحدة الطبقية، يجب على البروليتاريا أن تخوض نضالًا مزدوجًا:
• ضد القهر القومي الذي تمارسه الأمم السائدة؛
• وضد التعصب القومي والانغلاق الذي تغذيه البرجوازيات الصغيرة في الأمم المظلومة.
بهذا المعنى، الأممية ليست إلغاءً للهوية القومية، بل تحررها من وظيفتها الطبقية.
الماركسية لا تفصل بين الديمقراطية السياسية والتحرر الاجتماعي. الاعتراف بحق تقرير المصير هو شرط أولي لبناء حركة عمالية أممية متماسكة، لأن القهر القومي يقوّض الثقة بين العمال ويغذي الانقسامات. وحدة الطبقة العاملة لا تُبنى بالقهر، بل بالحرية والوعي المشترك بالمصير الطبقي الواحد
إن الصراع حول “حق الأمم في تقرير مصيرها” ليس مجرد مسألة قانونية بين دول أو شعوب، بل هو في عمقه صراع طبقي بين برجوازيات تسعى لتوسيع نفوذها وبروليتاريا تسعى لتحرير نفسها من كل أشكال الاضطهاد.
لقد أوضح لينين أن الدفاع عن هذا الحق لا يتناقض مع الأممية، بل هو الشرط التاريخي لتأسيسها على أسس ديمقراطية حقيقية.
فالتحرر القومي بدون تحرر طبقي يبقى شكليًا، مثلما أن الوحدة الطبقية بدون احترام للحقوق القومية تبقى قسرية وزائفة.
وحدها الأممية البروليتارية، القائمة على المساواة والحرية، قادرة على تجاوز هذا التناقض وإرساء أسس مجتمع جديد، تتحرر فيه الأمم لا ككيانات سياسية منفصلة، بل كقوى بشرية متضامنة تسعى معًا إلى إنهاء استغلال الإنسان للإنسان
و هكدا في مواجهة كلّ أشكال التعصب القومي والانغلاق البرجوازي، طرح لينين بوضوح أنّ تحرر الطبقة العاملة لا يمكن أن يكون قوميًا، بل أمميًا. فالبروليتاريا، بحكم موقعها في عملية الإنتاج، لا تمتلك وطنًا بالمعنى البرجوازي للكلمة، لأنّ وجودها نفسه مشروط بالاستغلال الرأسمالي العابر للحدود. ومن ثمّ، فإنّ أي مشروع للتحرر يظلّ ناقصًا ومشوّهًا ما لم يرتكز على تضامنٍ أمميٍ واعٍ بين عمال جميع الأمم.
إنّ مصلحة الطبقة العاملة، تكمن في تفكيك كلّ أشكال التمييز القومي التي تستخدمها البرجوازية لتقسيم صفوفها، وتحويل نضالها الطبقي إلى صراعات جانبية بين شعوبٍ مضطهَدة وأخرى مضطهِدة. فالوحدة الطبقية لا تتحقق بإنكار وجود المسألة القومية، بل بالاعتراف بها ضمن منظورها التاريخي والاقتصادي، أي باعتبارها انعكاسًا لتناقضات النظام الرأسمالي نفسه. ومن هنا، فإنّ الدفاع عن المساواة التامة في الحقوق بين الأمم، وعن حق الأمم في تقرير مصيرها، ليس غاية بحد ذاته، بل شرطٌ ضروريّ لوحدة البروليتاريا وتحررها من الأوهام القومية التي تغذيها البرجوازية.
فحين يدرك العامل أنّ استغلاله لا يختلف في جوهره عمّا يتعرض له العامل في أمةٍ أخرى، وحين يعي أنّ عدوه الطبقي هو رأس المال، لا القومية الأخرى، يصبح قادرًا على تجاوز كلّ الحدود المصطنعة التي ترسمها الدول البرجوازية. بهذا المعنى، فإنّ الأممية البروليتارية ليست نفيًا للهوية القومية، بل تجاوزًا لها في أفقٍ أوسع من التضامن الإنساني المبني على المصلحة الطبقية المشتركة.
إنّ تجربة التاريخ الحديث، من الثورات العمالية إلى الحركات التحررية المناهضة للإمبريالية، أكدت صحة هذا المبدأ اللينيني: فكلّ نضالٍ قوميٍ لا يرتبط بالثورة الاجتماعية يبقى حبيس البنية الرأسمالية التي ولد فيها، بينما النضال الطبقي الأممي وحده قادر على تحقيق التحرر الحقيقي، لأنه يتوجه إلى جذور الاضطهاد لا إلى مظاهره.
هكذا يصبح البرنامج القومي الماركسي، كما صاغه لينين، مكوّنًا من ثلاث ركائز مترابطة:
1. المساواة التامة في الحقوق بين الأمم، رفضًا لكل امتياز قومي.
2. حق الأمم في تقرير مصيرها، بما فيه حق الانفصال.
3. وحدة عمال جميع الأمم، باعتبارها الغاية العليا للنضال الاشتراكي.
فمن دون هذه الوحدة، يتحول التحرر القومي إلى شعارٍ أجوف، ومن دون المساواة الحقيقية بين الأمم يصبح الأممي مجرّد تجريدٍ مثالي. إنّ الأممية البروليتارية، في نظر لينين، هي التركيب الجدلي الذي يوحّد النضال ضد الاستغلال الطبقي وضد القهر القومي في مسارٍ واحد نحو التحرر الإنساني الشامل.
خاتمة
تُظهر القراءة الجدلية لموقف لينين من المسألة القومية أنّه لم يكن دفاعًا ظرفيًا عن قضية سياسية محددة، بل صياغة نظرية شاملة تمتح من جوهر المادية التاريخية، وتربط بين تطوّر الدولة القومية، والرأسمالية، والصراع الطبقي. فقد أعاد لينين تعريف مفهوم “حق تقرير المصير” خارج المنطق الليبرالي الذي يفصل بين الحرية السياسية والبنية الاقتصادية، وأدخله في تحليل البنية الطبقية للإمبريالية بوصفها الشكل الأعلى للرأسمالية في عصره.
في هذا الأفق، لا يُفهم حق الأمم في الانفصال كغايةٍ أخلاقية، بل كـ ضرورة تكتيكية واستراتيجية لضمان وحدة الحركة العمالية وإزالة كلّ الحواجز القومية التي تستغلها البرجوازية لتقسيم صفوف البروليتاريا. فالحرية القومية، بالنسبة إلى لينين، لا تتحقق فعلاً إلا عندما تتحرر الطبقة العاملة من كلّ أشكال السيطرة الرأسمالية، لأنّ القهر القومي ليس سوى انعكاس لهيمنة رأس المال في المجال السياسي والاجتماعي.
لقد كان الموقف اللينيني رفضًا مزدوجًا: رفضًا للقومية الليبرالية التي تبرّر الامتيازات باسم “الوحدة الوطنية”، ورفضًا للانعزالية البرجوازية الصغيرة التي تتوهم أنّ الاستقلال القومي يمكن أن يكون مدخلًا للتحرر الاجتماعي. وبين هذين القطبين، بلور لينين منهجًا ديالكتيكيًا يرى أنّ وحدة البروليتاريا لا تُبنى بإنكار التناقضات القومية، بل بمعالجتها من منظور طبقي ثوري، بحيث يتحول النضال ضد الاضطهاد القومي إلى جزء من النضال ضد الرأسمالية ذاتها.
إنّ البرنامج القومي الماركسي الذي خلص إليه لينين — المساواة الكاملة بين الأمم، وحقها في تقرير مصيرها، ووحدة العمال في جميع البلدان — ليس مجرد موقف سياسي بل بنية فكرية متماسكة تدمج البعد الإنساني بالتحليل الاقتصادي، وتربط التحرر القومي بالتحرر الاجتماعي في جدليةٍ واحدة. فكلّ تحرر قوميّ لا يُفضي إلى تجاوز النظام الرأسمالي يبقى حبيس حدوده، وكلّ أمميةٍ لا تعترف بحق الأمم المضطهدة في الحرية تتحوّل إلى مجرّد شعار فوقي يفرغ الاشتراكية من مضمونها الإنساني.
هكذا، يظهر بجلاء أنّ الأممية البروليتارية ليست نفيًا للهوية أو إلغاءً للخصوصيات القومية، بل تحقيقًا لأعمق مضمونٍ إنساني فيها، لأنها تتجه نحو تحرير الإنسان من كلّ قيدٍ طبقي أو قومي، وتوحّد البشر لا على أساس الأصل أو اللغة، بل على أساس موقعهم في عملية الإنتاج ونضالهم المشترك ضد رأس المال.
إنّ لينين بهذا المعنى لم يقدّم فقط سياسة قومية اشتراكية، بل نظرية للتحرر الإنساني بكامله، تربط بين مصير الأمة ومصير الطبقة العاملة، وتضع الأممية البروليتارية باعتبارها الأفق التاريخي الوحيد الذي يمكن أن يحقّق وحدة البشر على أسس المساواة والعدالة والحرية الحقيقية
و بكلمات لينين نختم القول :" ان المساواة التامة في الحقوق بين الأمم، وحق الأمم في تقرير مصيرها، واتحاد عمال جميع الأمم .. ان هذه الأشياء هي البرنامج القومي الذي تلقنه الماركسية للعمال، وتثبت صحته تجارب العالم بأسره وتجربة روسيا" لينين
و يضيف في مكان آخر :
"إن المطالب الديمقراطية المتعددة ومنها حق تقرير المصير ليست مطالب مطلقة بل هي فقط جزء صغير من الحركة العالمية الديمقراطية العامة (وهي الآن الحركة الاشتراكية العامة). وفي الحالات العينية الفردية قد يتناقض الجزء مع الكل، وإذا كان الامر كذلك فلابد وأن نرفضه. فمن المحتمل أن تكون الحركة الجمهورية في بلد من البلدان ليست سوى أداة لمؤامرات كنسية أو مؤمرات ملكية اقتصادية لحساب بلدان أخرى. ولو كان الأمر كذلك فسيكون لزاما علينا حينئذ أن نعضد هذه الحركة الجزئية المعينة ولكن سيكون مدعاة للسخرية أن نمحو – استنادا إلى هذا – مطلب الجمهورية من برنامج الاشتراكية الديمقراطية الأممية."
لينين



#عادل_المغربي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معركة طوفان الأقصى... جرأة أم انتحار؟
- الأسير الفلسطيني: جبهة متقدّمة ضد الصهيونية والإمبريالية
- ترامب… حين يمشي رأس المال على قدميه
- نزع السلاح: تراجيديا الشعب الاعزل في محراب التاريخ
- لنناضل من أجل بناء جبهة شعبية لمناهضة الامبريالية


المزيد.....




- حسن العبودي// مجددا وباختصار شديد: لماذا يكتب المناضل؟ ولمن ...
- بهجلي يقترح الإفراج عن دمرداش وأوجلان يدعو لإحراز تقدم في عم ...
- The Democratic Party Needs a Soul, Not a Focus Group
- Larry Cohen On No Kings, Organizing, and Winning
- From Tariffs to Tribute: The $350B Price of -Parity’
- No Big Deal: The Trump-Xi Meeting in Korea
- Rome’s Fall Is America’s Warning: Civic Neglect Can Topple E ...
- المجلس الوطني الثالث لحزب النهج الديمقراطي العمالي يعبر عن: ...
- رئيسة تنزانيا تكتسح الانتخابات بنسبة 98% وتتهم معارضيها بالخ ...
- زهران ممداني.. صعود لافت لمرشح يساري لمنصب عمدة نيويورك


المزيد.....

- كراسات شيوعية(الفرد والنظرة الماركسية للتاريخ) بقلم آدم بوث2 ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (العالم إنقلب رأسًا على عقب – النظام في أزمة)ق ... / عبدالرؤوف بطيخ
- الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي: الربح، السلطة، والسيطرة / رزكار عقراوي
- كتاب الإقتصاد السياسي الماويّ / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(النمو السلبي: مبدأ يزعم أنه يحرك المجتمع إلى ا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (من مايوت إلى كاليدونيا الجديدة، الإمبريالية ا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (المغرب العربي: الشعوب هى من تواجه الإمبريالية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علم الاعصاب الكمي: الماركسية (المبتذلة) والحرية! / طلال الربيعي
- مقال (الاستجواب الدائم لكورنيليوس كاستورياديس) بقلم: خوان ما ... / عبدالرؤوف بطيخ
- الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي ... / مسعد عربيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عادل المغربي - حق الأمم في تقرير مصيرها: قراءة في بعض الأبعاد الطبقية للقومية والتحرر الاجتماعي