عادل المغربي
الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 01:56
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تفاعلا مع بعض الأفكار والنقاشات الرائجة في أوساط المتعاطفين مع القضية والمدافعين عن معركة الطوفان، والتي تذهب إلى اعتبارها انتحار واع، فبالرغم من اختلافي الجذري مع المشروع الاجتماعي الذي تقدمه حماس وغيرها من التنظيمات الدينية، فإن تقييم معركة طوفان الأقصى من الناحية السياسية والعسكرية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الوضع المادي الذي تعيشه فلسطين، باعتبارها بلدًا محتلًا من طرف كيان استيطاني مغاير لكل ما شهدناه إبّان مرحلة الاستعمار الإمبريالي منذ مطلع القرن العشرين، وأيضًا ضرورة استحضار المشروع الوطني الفلسطيني في الظرف الراهن الذي يغيب فيه ميدانيا بل وحتى فكريا خط سياسي ثوري يربط بين طرد المحتل وبناء الدولة الديمقراطية الوطنية الشعبية. ولذلك سيكون هذا التحليل منصبًا حصريًا على مختلف الدوافع السياسية والأحداث العسكرية في النضال ضد الكيان الصهيوني خلال معركة طوفان الأقصى، لنقد الأطروحات التي تعتبر أن هذه المعركة هي انتحار واعٍ أو تلك التي تعتبرها انتحارًا غير واعٍ.
منذ اللحظات الأولى لهجوم السابع من أكتوبر، ظهرت قراءات تفسيرية متعددة — بعضها ذهب فورًا إلى تأطير الحدث كـ «انتحار استراتيجي» أو فعل يائس، هذه القراءة لها جوانب قد تكون صحيحة جزئيًا، لكن عليها أن تكمل أو تصحح، فالواقع أعقد: ما وقع لم يكن تهيؤًا عاطفيًا مفاجئًا، بل نتيجة تراكمية من تحضير وتخطيط تكتيكي واستغلال للثغرات وإدراك استراتيجي لفرص تاريخية، باختصار: كانت جرأة سياسية وعسكرية، وليست انتحارًا بالمفهوم المبسط.
أولًا، لا يمكن تجاهل أن حماس عملت — ولفترة ليست قصيرة — على إعداد ذاتها لهذه المعركة، إشارات التحضير ظاهرة في سلوك القيادات، في الممارسات الميدانية، وفي استعدادات لوجستية وتقنية لم تظهر بين عشية وضحاها. حماس كانت تستعد لهذه المعركة منذ وقت بعيد، فعدم مشاركتها مباشرة في المعركة التي هاجم فيها الكيان قادة الجهاد كانت مدروسة، وإبراز نفسها أنها منشغلة بالحياة اليومية للغزيين والاشتغال في التجارة اتضح أنه أيضًا مدروس، وقد عبرت عن ذلك جل القيادات العسكرية والمخابراتية للكيان بأن حماس استطاعت تضليلهم فحتى قبل المعركة سئل نتنياهو عن قدرة حماس على الهجوم فسخر من السؤال ومن الصحفي.
بالإضافة إلى كل ذلك، المعارك التي كانت قبل طوفان الأقصى خصوصًا معركة سيف القدس التي بدأت بهجوم المقاومة على الكيان، كانت دالة على أنها تمتلك القوة والإرادة لخوض الحرب، تصريحات السنوار كانت هي الأخرى مليئة بالتحدي ولا تخلو من عبارات الاستعداد أو أنها مستعدة تمامًا للدخول في حرب جديدة. إن تصريحات بعض القادة التي تظهر الانشغال بالحياة اليومية أو بالأنشطة المدنية لم تكن دائمًا تعبيرًا عن ضعف أو تراجع، بل كانت جزءًا من منهج تكتيكي للتضليل والإخفاء. هذا ما عبرت عنه تحليلات استخباراتية وقيادات العدو نفسها: لقد نجحت حماس في تضليل المشهد وإيهام العدو بتراخي أو التفرغ. لذا تبرئة الحدث من عنصر التخطيط الطويل تُعد تبسيطًا غير عادل.
ثانيًا، هناك سياق تاريخي وسياسي مهم لا يمكن فصله عن حسابات الفصائل: فسياسة التطبيع المتسارعة والاتفاقات الإبراهيمية شكلت عامل ضغط واستفزاز لهؤلاء الذين يرون أن الآليات الدبلوماسية والتطبيعية تفشل في استرجاع الحقوق أو حتى تأخير مشاريع الاستيطان والضم، بل إنها تعمق الاحتلال وتتجه نحو تصفية القضية الفلسطينية برمتها، هذا السياق دفع بخيارات لدى بعض القيادات إلى أن ترى في لحظة معينة «نافذة» لإحداث تغيير جذري في قواعد اللعبة — ليس بمعنى انفلات عاطفي، بل كحساب استراتيجي وسياسي قد يعيد ترتيب المشهد الإقليمي ويمنع المشروع الصهيوإمبريالي.
ثالثًا، وحتى مع وجود التخطيط والنية، يجب الاعتراف بعامل المفاجأة في أبعاده العملية: ما حدث على الأرض — كان غير متوقع إطلاقًا، لقد فاجأ الجميع بمن فيهم المقاتلين الذين دخلوا إلى الأراضي المحتلّة وشاركوا في التنفيذ، تفاجأوا بانهيار أحد أقوى الفرق العسكرية الصهيونية وأكثرها تجربة، انهيارها الكامل في ظرف ساعات محدودة. والكل أيضًا، بمن فيهم كل الفصائل، لا أحد كان يتوقع ردّة فعل الكيان الصهيوني أو أن تصل إلى حدّ الإبادة الجماعية، فما ذهب بالأحداث في هذا الاتجاه هو أولًا الدعم الإمبريالي الغربي اللامحدود ومساعدته عسكريًا وسياسيًا بشكل مطلق وإطلاق يد الإجرام الصهيوني، وتواجد الفاشيين الأكثر إجرامًا في الحكومة الصهيونية، وشعور الكيان بالذل الذي لم يكن في يوم من الأيام يتصوره أبدًا، والخوف الذي أصابه بعدما حطّمت تلك العملية أسس قيامه الفكرية والعسكرية. لقد أصبح عار تمامًا فلم يعد هو الجيش الذي يستطيع ضمان أمن المستوطنين وزرع الخوف في نفوس حتى من كان يفكر في الهجرة إلى الأراضي المحتلّة، وأبان عن وهم القوة وقوة الردع التي كان يفرض بها نفسه على كل الأنظمة الرجعية وعلى شعوب المنطقة.
هذا الانهيار السريع أذهل الجميع وأكّد أن هناك أخطاء استخباراتية وتحليلية عميقة لدى العدو، أخطاء ليست فقط تقنية بل معرفية واستراتيجية مرتبطة بثقة مفرطة في قدرة الردع وهياكل الاستخبارات. وهذا بدوره يفسر حجم الدهشة والارتباك لدى كل الفاعلين، ويؤكد أن النجاح التكتيكي كان نتيجة تلاقي عوامل: تحضير المقاومة، وخطأ العدو، وظروف ميدانية أفضت إلى تفوق كبير الحجم والدلالة ومفاجئ في نفس الوقت.
رابعًا، ومهما كانت دوافع المقاومة، الرد الإسرائيلي الذي تلا الحدث قدم الوجه الحقيقي للطبيعة السياسية للنظام الصهيوني اليوم، و الدعم الإمبريالي الغربي اللامحدود، والتسهيلات العسكرية والسياسية، ووجود عناصر فاشية ومجرمة في حكومته كلها ساهمت في منح قادة الكيان «الحرية» لاتخاذ قرار بالصراع المفتوح وبسياسة عنف شاملة ردًّا على الإهانة التي تلقّوها، فالتصريحات التي صدرت عن نتنياهو وغلانت وبن غفير ووزراء آخرين لم تحمل سوى منطق الانتقام والتدمير الكامل؛ هذا التكتيك العنيف لم يأت من فراغ، بل من حاجة النظام الصهيوني إلى استعادة ما اعتبره «هيبة» و«ردع» في مواجهة انكشافه. فكيف يمكنه مسح هذه الضربة المؤلمة وهو يعلم أنه لا يمكنه إرجاع التاريخ إلى الوراء؟ القتل والتدمير الكلي هو الحل — قالها كل قادته المجرمين من نتنياهو إلى غالانت ووزير الإسكان ووزيرة التعليم بالإضافة إلى بن غفير وسموتريش، فعبر الإبادة والقتل والتدمير سوف يردون الاعتبار وسيحاولون ردّ قوّة الردع التي تهاوت، وحتى الإمبريالية الأمريكية كانت تدرك ذلك وقالها بايدن عند وصوله إلى الأراضي المحتلّة آنذاك بشكل مكشوف.
خامسًا، في المقابل، توصيات قيادات المقاومة والاستراتيجية الداخلية اتجهت نحو الاستعداد لسيناريوهات استنزاف طويلة، لم تكن هناك أوهام بانتصار ساحق سريع أو بحل فوري للصراع، لكن كانت هناك قراءة واضحة بأن تحريك المواجهة إلى مستوى آخر سيؤدي إلى نتائج سياسية وثقافية ورمزية على المدى المتوسط والبعيد. وفي هذا الإطار، لم تكن المعركة «انتحارًا» بل حسابًا للمخاطر والمكاسب؛ حسابًا لا يضمن النصر العسكري الكامل، لكنه يسعى لتغيير توازنات الشرعية والوعي العالمي وإعادة القضية الفلسطينية إلى صلب الساحة الدولية بصورة لا تمحى بسهولة. لذلك الأَدق أن نصف ما وقع بـ «جرأة» — مخاطرة استراتيجية هدفها تغيير قواعد اللعبة، ولو بتكاليف باهظة.
إن المعركة لم تكن انتحارًا بل جرأة على النصر حتى وإن لم يتحقق بالشكل الذي كان يتمناه من أطلق الشرارة.
#عادل_المغربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟