أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - أحمد رشيد مسَلّم - التجفيف: هندسة النزوح لإفراغ الأرض في الضفة الغربية














المزيد.....

التجفيف: هندسة النزوح لإفراغ الأرض في الضفة الغربية


أحمد رشيد مسَلّم

الحوار المتمدن-العدد: 8559 - 2025 / 12 / 17 - 17:47
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


بالرغم من استخدام الاحتلال لكل الوسائل في حرب التهجير المستمرة، إلا أنه يستخدم سلاحاً أشدّ فتكاً في صمت وهو الماء. فكما كشفت مقالاتنا السابقة عن أدوات الاستيطان الرعوي والخنق الاقتصادي، تبقى الآلة الأساسية التي تُدمر بها سُبل العيش هي السيطرة المطلقة على الموارد المائية. إن حديث "سرقة الأرض" لا يكتمل دون كشف آليتها الهيدرولوجية: تحويل كل قطرة ماء إلى أداة ضغط، وكل ينبوع إلى موقع استيطاني، وكل حصة مائية إلى وسيلة ابتزاز. تُستخدم السيطرة الإسرائيلية على موارد الضفة الغربية -التي رسختها قوانين عسكرية قديمة واتفاقيات مؤقتة- كأداة ممنهجة لـ "التجريد المائي"؛ بهدف خلق بيئة معيشية مستحيلة تدفع الفلسطينيين تدريجياً نحو النزوح القسري، خاصة في المناطق المصنفة "ج".
تبدأ المأساة من البيت نفسه؛ فبينما يتمتع المستوطن الإسرائيلي في الضفة الغربية بحوالي 300 لتر من المياه يومياً -يُستخدم جزء كبير منها لأغراض ترفيهية وري الحدائق والمسابح- يصارع الفلسطيني لتأمين أقل من 70 لتراً للفرد يومياً. هذا المعدل يقع أدنى بكثير من الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية (100 لتر للفرد يومياً)، بل ويقترب من عتبة الكارثة الإنسانية. هذه الفجوة ليست محض صدفة، بل هي نتيجة هندسة مائية متعمدة؛ فبالرغم من أن أحواض المياه الجوفية في الضفة تُعد المصدر الطبيعي الوحيد للمنطقة، فإن السيطرة الإسرائيلية المطلقة عليها تحرم الفلسطينيين من أكثر من 85% من حصتهم الطبيعية، ولا يحصلون وفقاً لمعطيات "بتسيلم" ومنظمات حقوقية سوى على 15% فقط، بينما تستغل إسرائيل النسبة الساحقة المتبقية.
وتمتد جذور هذه السيطرة إلى أعماق التاريخ القانوني الملتوي؛ فالأوامر العسكرية الإسرائيلية التي صدرت بعد احتلال الضفة عام 1967، وضعت جميع موارد المياه تحت سلطة "الضابط العسكري للمياه". بموجب هذه الأوامر، تحول حفر بئر أو تمديد أنبوب أو حتى جمع مياه الأمطار في بعض المناطق إلى "جريمة" تستوجب العقاب والهدم. وقد جاءت المادة 40 من اتفاقية أوسلو الثانية (1995) لترسخ هذا الواقع، حيث "جمدت" الحصة المائية الفلسطينية عند مستوى استهلاك عام 1995، متجاهلة تماماً التضاعف السكاني الطبيعي وحق الفلسطينيين في التنمية. النتيجة؟ تحول ملف المياه من حق إنساني أساسي إلى أداة ضغط سياسي، وأصبح النقص المائي المزمن جزءاً من هندسة التبعية اليومية.
هذا التجريد المائي لا يبقى حبيس الأرقام والقوانين، بل يتحول إلى سلاح مباشر للتهجير. "إذا لم تستطع أن تعيش من أرضك، فكيف يمكنك أن تبقى عليها؟"؛ هذا السؤال يُجسده واقع مزارعي الأغوار، الذين يشهدون تحويل الينابيع التاريخية إلى "متنزهات استيطانية" أو مصادر مياه للمستوطنات المجاورة. فقد تحولت عشرات الينابيع في مناطق مثل الخليل ورام الله إلى مواقع فصل عنصري، يُمنع الفلسطينيون من الوصول إليها بينما يستخدمها المستوطنون للترفيه. وتصل سياسة التجفيف إلى ذروتها القاسية في هدم خزانات المياه والآبار في المناطق المصنفة "ج"؛ ففي عام 2023 وحده، هدمت السلطات الإسرائيلية أكثر من 120 منشأة مائية فلسطينية، وفقاً لتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA). هذا الهدم يُرغم العائلات على شراء المياه من الصهاريج بأسعار تصل إلى أربعة أضعاف سعر مياه الشبكة، محوّلاً الماء من حقٍ أساسي إلى عبء اقتصادي طارد.
هنا تُخلق معادلة التهجير الصامتة: كلما ارتفعت تكلفة تأمين المياه الأساسية -والتي قد تلتهم حتى 30% من دخل الأسرة في بعض التجمعات البدوية- كلما اقتربت عتبة النزوح. وهذا ما يفسر تراجع عدد السكان في عشرات التجمعات الرعوية في الأغوار؛ حيث يعتمد الاستيطان الرعوي على هذه الدائرة المفرغة: تجفيف المصادر ← تدمير الزراعة ← تهجير السكان ← توسع الاستيطان. الماء، في هذه المعادلة، هو الحلقة الأولى والأخيرة.
في الختام، إن السيطرة على المياه في الضفة الغربية ليست مجرد قضية إدارة موارد، بل هي جوهر المشروع الاستعماري الذي يسعى لإفراغ الأرض من أهلها. إن التمييز المائي المنهجي يشكل شكلاً صارخاً من "العقاب الجماعي" المحظور بموجب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة. حان الوقت لأن يعترف المجتمع الدولي بالماء كـ "سلاح تهجير" في ترسانة الاستعمار الاستيطاني، وتحويل هذا الاعتراف إلى ضغط فعّال لإنهاء السيطرة العسكرية على الموارد الطبيعية. فكما أن استعادة الأرض تحتاج إلى صمود، فإن استعادة الحق في الماء تحتاج إلى مقاومة يومية تبدأ بدعم المزارع على أرضه، والمطالبة بفتح الينابيع المغلقة، وكشف آليات التجفيف المنظمة. فالماء هو أول دروس الجغرافيا: من يتحكم بالماء يتحكم بالحياة، ومن يستعيد حقه فيه يؤسس لسيادته على أرضه.


بقلم: أحمد رشيد مسَلّم



#أحمد_رشيد_مسَلّم (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فخ القطيع والأرض المغلقة-: من سرقة الأرض إلى هندسة المجاعة.. ...
- الاستيطان الرعوي في الضفة الغربية: الوجه الأخطر للاحتلال وسي ...


المزيد.....




- أحداث 14 دجنبر 1990: مقتطف من كتاب
- The Right to Resist: Palestine and the Semantics of Terroris ...
- وقفة احتجاجية بميدان سيمون بوليفار
- في الذّكرى 15 لاندلاع الثّورة: الشّعبويّة تواصل الالتفاف وال ...
- التقدم والاشتراكية يدعو الحكومة لتفعيل “قانون الكوارث” وإنصا ...
- الكوارث الطبيعية تفضح الشعارات الزائفة للنظام المخزني حول ال ...
- ترامب: ما سر انبهار اليمين المتطرف بالعم سام؟
- التصريح الصحفي للندوة الصحفية للجبهة المغربية لدعم فلسطين وم ...
- Chile: Pinochetism Returns to Power
- Trumpist Geopolitics in Western Balkans – How a Heritage Ide ...


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - أحمد رشيد مسَلّم - التجفيف: هندسة النزوح لإفراغ الأرض في الضفة الغربية