أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صالح سليمان عبدالعظيم - ثقافة النكد في العالم العربي















المزيد.....

ثقافة النكد في العالم العربي


صالح سليمان عبدالعظيم

الحوار المتمدن-العدد: 1838 - 2007 / 2 / 26 - 11:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قد يخرج المرء من بيته مُبتهجاً فإذا بأخيه أو بصديقه أو بجاره يقابله، يقص عليه مشاكله وأمراضه وأوجاعه، يحيل بهجته إلى شقاء ونكد. وقد يُقبل المرء على أخيه أو صديقه أو جاره يُبلغه خبراً سعيداً في حياته فإذا بهذا الشخص يقلب الخبر رأساً على عقب ويُكسبه طابعا مأساويا ينقله من جانبه المُبهج إلى جانبه المُكئب. وقد يعود الزوج إلى زوجته سعيداً بلقائها ولقاء أطفاله، فإذا به يجد زوجة نكدة تحيل حياته وحياتها وحياة أطفالهما إلى شقاء وجحيم. وقد يعود زوج آخر كئيب إلى زوجته التي تنتظره في سعادة وبهاء، فإذا به عبوساً شقياً لا يُظهر سوى وجه كالح، وشكوى مستمرة، وتذمر دائم.

انتشرت هذه الممارسات النكدة بين ربوع أوطاننا العربية، ولا تقف المسألة هنا عند هذا الحد، بل تتعداها إلى اللقاءات اليومية العابرة. فزملاء العمل يتقابلون بدون سلام ولا كلام، لا يتحدثون ولا يتحاورون، ويتوجسون في بعضهم البعض. في المصاعد وعلى درجات السلم، لا يبتسم الناس لبعضهم البعض، إما رغبة في الحيدة والعزلة والإنقطاع عن الآخرين، وإما تعاليا على المحيطين، ورغبة مريضة في التمايز عنهم. ولعل ذلك يفسر طبيعة مناخات العمل العدائية المصحوبة بكم هائل من الشقاق والكراهية وترصد الآخرين. ففي ظل هذه الأجواء النكدة والمتربصة يصعب أن يتواصل العمل بشكلٍ سلس وبسيط، حيث تُحاك المؤامرات، وتُنسج الشباك، وتتحول قواعد العمل المتعارف عليها إلى قواعد سرية تتم من أجل البعض ولصالح البعض على حساب البعض الآخر.

لماذ يُصدِّر الكثيرون في تعاملاتهم اليومية هذا الوجه النكد، وهذه الكآبة المتواصلة؟ ولماذا اختفت الإبتسامة والإنشراح في حياتنا اليومية؟ هل تلعب الظروف الإقتصادية الضاغطة دوراً في هذا النكد القومي العام؟ وهل تلعب الأوضاع السياسية المتردية في عالمنا العربي دوراً ضاغطاً آخر نحو المزيد من النكد والعبوس؟ وهل للبهجة والإبتسامة علاقة أساساً بالإقتصاد والسياسة، وكل هذه الجوانب المجتمعية الكبيرة والمتسعة؟ وهل محكوم على العالم العربي أن يواجه أدران السياسة والإقتصاد من جانب وثقافة النكد والإكتئاب المستشرية من جانب آخر؟

الواقع أن ثقافة النكد لا تنفصل بدرجة أو بأخرى عن السياق العام المحيط، فالمشكلات العديدة التي يواجهها المواطن العربي تؤدي لا محالة إلى المعايشة اليومية لهذه المشاكل التي تبدأ من البحث عن لقمة العيش إلى تعليم الأبناء ومشاكل البحث عن سكن..إلخ لكن الملاحظ أن توافر الثروة أيضاً لا يخلق البهجة والسعادة، وينحي جانباً ثقافة النكد. فالثروة لا تُطلق التلقائية والعفوية في التعامل مع الآخرين، كما لا تدفع الشفاة للإبتسام في وجوههم؛ فكما للندرة ثقافة النكد الخاصة بها، للثروة أيضاً ثقافة النكد الخاصة بها.

وهناك أسباب عديدة تدفع لإستشراء ثقافة النكد في عالمنا العربي. أولى هذه الأمور وأكثرها شيوعاً هو الخوف من الحسد وعيون الآخرين، الذين نتخيل دائماً في معاملاتنا اليومية أنهم يراقبوننا ليل نهار، يفتشون ورائنا، يحاولون معرفة أسرارنا وخبايانا. واللافت للنظر هنا أن هؤلاء الذين نخاف منهم ونخشى حسدهم، ونهاب عيونهم، هم في الغالب الأعم من الأقارب والأصدقاء الأكثر صلة بنا، والأكثر معرفة لأحوالنا. من هنا تنتشر ثقافة النكد رغبة في إتقاء الحسد من هؤلاء الأقارب، ومن هنا ينتشر الكذب، وإدعاء أشياء سلبية كثيرة حدثت لنا ولذوينا. قد تقابل شخصاً فيخبرك أن إبنه مريض، أو أن سيارته لا تسير على ما يرام، أو أنه هو شخصيا يعاني من آلام المعدة المبرحة التي لا تتركه ليل نهار، وتقض عليه مضاجع النوم. وفي كل الأحوال المرتبطة بهذه النوعية من الشكاوى يصبح الكذب والإدعاء هو سيد الموقف ودليل العلاقات القائمة بين البشر. يلعب الخوف الشديد من الحسد هنا دوراً كبيراً في إنتشار هذا النوع من الكذب الذي يؤدي بدوره إلى إنتشار ثقافة النكد، فالكل يختلق قصصاً نكدة كئيبة غير صحيحة. وتخيل معي عزيزي القارئ، شخصان التقيا معا، وكلاهما يحمل خاصية الخوف من الحسد مع ما يستتبعها من اختلاق لهذا النكد وتلك الأكاذيب، ماذا سوف يكون عليه حال الحديث فيما بينهما؟ لا يعني هذا أن كل من يشكو شيئاً لصديق أو جار هو شخصٌ كاذب، لكنه في ظل إستشراء هذه الحالة من الكذب والإدعاء يصبح المرء في حيرة من أمره، أيصدق ما يقال له، أم يرفضه ويكذب قائله.

وثاني هذه الأمور يتمثل في غياب التلقائية والعفوية من حياتنا اليومية، فالعلاقات بين البشر العاديين في حياتهم اليومية تتم من خلال أجواء مخابراتية إرتيابية، حيث تصبح الإبتسامة تعبيراً عن مكيدة، ويصبح السلام تعبيراً عن رغبة في الحصول على مصلحة ما، ويصبح الهمس إشارة إلى تأسيس شلة جديدة. أما أن تسير الأمور بشكلٍ طبيعي وعفوي وتلقائي، بحيث لا يتم تأويل التعاملات اليومية بمثل ما عليه الحال في حياتنا اليومية العربية، فهذا أمر غير وارد وغير قابل للحدوث. وأخشى أن أقول بسيادة عقلية التآمر في علاقاتنا اليومية، وهو بالتأكيد ما ينشر ثقافة الخوف والتوجس بين البشر، وبالتالي يؤدي إلى العبوس والنكد والخوف من الآخرين.

يرتبط بما سبق، الأمر الثالث الذي يتعلق بسيادة بنية أبوية عربية مستبدة، لا تسمح بالإنطلاق والتحرر والعفوية والتلقائية. فمسألة احترام الكبير تصبح سيفاً مُسلطاً على بنية الممارسات اليومية، حتى ولوكان هذا الكبير لا يستحق هذا الإحترام والتقدير، وحتى ولو كانت ممارساته وسمعته على الضد تماماً من هذا القدر من الإحترام والتقدير الذي يكيله له الآخرون، الذين في الغالب يتملقونه ويتجنبون شروره وألاعيبه. ففي كثير من مؤسسات العمل الرسمية يضحك المحيطون حينما يقول الرئيس شيئاً، حتى ولو كان تافهاً لا يستدعي الضحك، وهو ضحك مفتعل غير نابع من القلب، وغير نابع عن رغبة حقيقية في الضحك والتسامر.

هذه البنية تنتقل أيضاً من مستوياتها الرسمية إلى المستويات الأخرى اليومية، حيث يصبح الزوج سيداً مهاباً لا يلاطف أولاده ويتبسط معهم، ويصبح المدرس سيد الموقف على طلابه وتلامذته، لا يسمح لهم بمناقشته أو الإعتراض على أفكاره. تفرض البنية الأبوية هذه نفسها بإطلاق على جانب كبير من ممارسات حياتنا اليومية، حيث تنتقل معها مفاهيم مغلوطة مثل مفاهيم الرجولة والذكورة. والخطورة في إنتشار هذه المفاهيم الجامدة أنها تلقي بظلالها الثقيلة على أكثر العلاقات حميمية ووداً مثل العلاقة بين الوالد وأبنائه، أو العلاقة بين الزوج وزوجته، أو العلاقة بين الأستاذ وطلابه، حيث تصبح العلاقة جامدة محكومة بمثل هذه التصورات الأبوية الجامدة. وتخلق هذه العلاقات الأبوية الجامدة قدراً كبيراً من الكآبة والجمود. كما تكون مصحوبة في الوقت نفسه بعلاقات ذيلية خانعة من جانب، وعلاقات إستعلائية تسلطية من جانب آخر.

إننا في العالم العربي، في ظل هذا التردي الإقتصادي والسياسي، أحوج ما نكون إلى الضحك والإبتسام وعفوية العلاقات وتلقائيتها. فإستشراء ثقافة النكد هذه تسبب الكثير من الأمراض التي أصبحت مستشرية هذه الأيام عبر ربوع أوطاننا العربية، كما تزيد الأوضاع ترديا وأهتراءً. كما أننا الآن أشد ما نكون إحتياجاً إلى مقاومة إهتراء الأوضاع عبر نشر البهجة والإبتسام والتلقائية والعفوية، بما يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة ظروف الواقع غير المواتية من جانب، وعلى مواجهة البنية الأبوية الإستبدادية من جانب آخر.



#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حرب الأفيون الأمريكية
- إثنان وثلاثون عاماً على رحيل أم كلثوم
- قصص قصيرة جداً
- مواجهة خطاب التنميط والعنف الغربي بين التناول العلمي والإلتز ...
- !!محافظون وثوريون
- أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي
- !!أستاذ الجامعة بين استحكامات البنية واستحقاقات المهنة
- ذووا الدم البارد والعقلانية الخبيثة
- !!مذكرات سمير أمين وعصر الرأسمالية الشائخة
- نهوض المرأة في تقرير التنمية الإنسانية العربية الرابع
- !!لا تعايرني ولا أعايرك
- البنية النفسية لذوي الجنسيات المزدوجة
- الأستاذ شعارات
- الصحافة العربية والإنفلات الإلكتروني
- بقايا الوعى بين مخاطر الاستعلاء وأوهام الاستقواء
- !كفاية، إحنا وصلنا للنهاية
- الإخوان المسلمون والإخوان الأقباط
- جسد المرأة في القنوات الفضائية العربية
- نخب الأقليات والنموذج الإسرائيلي
- أشكال العنف ضد المرأة


المزيد.....




- اكتشف 10 من أروع تجارب الهبوط في المطارات حول العالم
- أحياء دبي القديمة..هذا ما يكتشفه الزوار بعيدَا عن السياحة ال ...
- خريطة محدثة للتوغل الإسرائيلي في غزة مع وصول الدبابات إلى وس ...
- قناة العالم الإيرانية تزعم ابعاد السعودية 6 من أعضاء فريقها ...
- مراسلتنا: مقتل 3 جنود إسرائيليين وإصابة 7 بجروح خطيرة بانفجا ...
- صحيفة كرواتية: الغرب أمام قرار مصيري تجاه أوكرانيا
- غداة إطلاق فاشل لقمر اصطناعي.. زعيم كوريا الشمالية يدعو إلى ...
- شاهد: للمرة الثانية خلال شهر واحد.. تحطم طائرة عسكرية بالقرب ...
- ألمانيا وفرنسا تعلنان نيتهما التعاون في تطوير الأسلحة بعيدة ...
- بوتين يعين مساعده أليكسي ديومين سكرتيرا لمجلس الدولة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صالح سليمان عبدالعظيم - ثقافة النكد في العالم العربي