ياسمين محمد النجار
الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 00:41
المحور:
الادب والفن
الاستطراد في روايات الدائرة والجميع وأبطال على الحدود لـــ ديف إيغرز (Digression)
عرض وترجمة: د. أشرف إبراهيم زيدان
الاستطراد هو خروج مؤقت عن السرد الأساسي نحو موضوعات ثانوية أو تبدو غير ذات أهمية، مع توقع العودة إلى الخط الرئيس للأحداث. ويسهم هذا الخروج في إضفاء تنوع وثراء على النص، كما يرتبط عادةً بالحبكة عبر الرموز أو الثيمات أو الطابع الساخر.
يتناول هذا الجزء مفهوم الاستطراد، الذي يرتبط غالبًا بمشاعر الخيبة والانزعاج والهزيمة، ويبحث في الكيفية التي يمكن من خلالها للابتعاد عن الموضوع الرئيس أن يفتح المجال لرؤية أعمق لما يُسمى بـالملاحظة غير المستقرة في سبيل البقاء. كما يبرز هذا الجزء أهمية تقبّل التعددية الصوتية بإيقاعاتها المتباينة والتفاعل معها بوعي، مستكشفًا إمكانات الاستطراد كأداة للتحول الاجتماعي (ثيل 2). ويُعد الاستطراد عنصرًا جوهريًا في الإبداع، فهو انقطاع يسمح بتصور مسارات جديدة تُخفف من التداعيات السلبية المرتبطة عادةً بالانحراف، وتشرع في تحليل واستخلاص ما كان غير مرئي. ومن ثم، فإن الاستطراد يفتح أبواب الاحتمالات، ساعيًا نحو فهم ندرك مسبقًا أنه غير قابل للتحقق، لكنه يمنحنا آفاقًا جديدة، ورؤى متنوعة، وتجارب أوسع.
في روايات إيغرز يبرز حضور الاستطراد بشكل واضح، إذ يوظّفه في رواية الدائرة على وجه الخصوص لدعم تطوّر الشخصيات، وتوسيع أفق السرد، وتوجيه نقده للقضايا الاجتماعية الأشمل. وغالبًا ما تتجلى هذه الاستطرادات في شكل سرديات خلفية مطوّلة، أو تأملات عميقة، أو أوصاف دقيقة تُبطئ مؤقتًا من حركة الأحداث الرئيسة.
يوظّف إيغرز أسلوب الاستطراد في تقديم خلفيات الشخصيات مستخدمًا لغة مشحونة بالعاطفة، وذلك لمنح القارئ فهمًا أعمق لتاريخ ماي وأهدافها وحالتها النفسية. فعلى سبيل المثال، عند دخول ماي إلى مقر شركة الدائرة، يتوقف السرد للحظة ليشرح طبيعة علاقتها بآني وتطورها منذ أيام الجامعة وصولًا إلى عملها الحالي. يقول النص: "لم تكن ماي لتظن أن لديها فرصةً للعمل في مكان كهذا، لولا آني. كانت آني تكبرها بعامين، وقد سكنتا معًا لمدة ثلاثة فصول دراسية في الجامعة، في مبنى قبيحٍ غدا صالحًا للسكن بفضل رابطتهما الاستثنائية، شيء أشبه بالأصدقاء، شيء أشبه بالأخوات أو أبناء العم الذين يتمنون لو كانوا أشقاءً، وأن يكون لديهم سببٌ لعدم الانفصال أبدًا" (الدائرة 7). ينتقل هذا المقطع من لحظة وصول ماي الفعلية إلى شركة الدائرة، لكنه في الوقت ذاته يكشف عمق مشاعرها تجاه آني، وإحساسها بالامتنان، وصلابة الروابط التي تجمعهما.
يلجأ إيغرز كذلك إلى الاستطراد لتقديم تعليق اجتماعي أو رسم صورة شاملة لبيئة شركة الدائرة. فعلى سبيل المثال، أثناء تجوال ماي في ساحة الشركة، يتوقف السرد ليوضح تحوّل المكان والفكر الفلسفي الذي تتبناه هذه المؤسسة. يقول النص: "على أرض كانت في السابق حوضًا لبناء السفن، ثم دار سينما، ثم سوقًا للسلع المستعملة، ثم أرضًا خصبة، أصبحت الآن تلالًا خضراء ناعمة ونافورة كالاترافا. ومنطقة نزهة، بطاولات مرتبة في دوائر متحدة المركز. وملاعب تنس، من الطين والعشب" (الدائرة 6). هذا الاستطراد لا يكتفي بتوسيع إطار المشهد، بل يسلط الضوء أيضًا على محو الماضي واستبداله بثقافة الشركات الحديثة.
إلى جانب ذلك، يعمد إيغرز إلى المقارنة بين ماضي ماي وحاضرها، مسلطًا الضوء على مشاعر الاغتراب والطموح التي تعيشها. فعلى سبيل المثال، بعد أن تتعرف ماي على مكتبها الجديد، يتوقف السرد ليسترجع وظيفتها السابقة: "هل عمل أي شخص حقًا في شركة مرافق؟ كيف انتهى الأمر بماي هناك؟ كيف تحمّلت ذلك؟ عندما كان يسألها الناس عن مكان عملها، كانت تميل أكثر إلى الكذب والقول إنها بلا عمل. هل كان الوضع سيصبح أفضل لو لم تكن في مسقط رأسها؟" (الدائرة 11). من خلال هذا الاستطراد، يكتسب القارئ فهمًا أعمق لشخصية ماي، حيث يكشف النص عن دوافعها ورغباتها وتعاسة ماضيها.
كما يوظّف ديف إيغرز الاستطراد في روايته الجميع لتعزيز بناء العالم الروائي، وإبراز النقد الاجتماعي، وتقديم رؤى أكثر عمقًا حول الشخصيات. ففي بداية الرواية، يتوقف السرد عن متابعة تجربة ديلاني عند بوابة الأمن ليعرض تاريخًا موسعًا لنمو شركة ذي إيفري. وبدلًا من التركيز فقط على الأحداث الخاصة بالشخصيات، ينتقل السرد إلى رواية قصة اندماج ذا سيركل مع شركة تجارة إلكترونية كبرى: "قبل خمس سنوات، اشترت ذا سيركل شركة تجارة إلكترونية عملاقة سُمّيت على اسم غابة في أمريكا الجنوبية، وأدى هذا الاستحواذ إلى نشوء أغنى شركة عرفها العالم على الإطلاق. استلزم هذا الاندماج تغيير ذا سيركل اسمها إلى ذي إيفري، والذي بدا لمؤسسيها حاسمًا وحتميًا، إذ كان يُلمّح إلى الانتشار والمساواة" (الجميع 12). يمنح هذا الاستطراد القارئ سياقًا جوهريًا، كاشفًا عن أصول وفلسفة شركة ذا إيفري، كما يقدّم نقدًا ساخرًا لهيمنة الاحتكارات التكنولوجية عبر السرد.
يتوسع إيغرز أيضًا في وصف تحول جزيرة الكنز، حيث يقع مقر شركة الدائرة، مقدمًا خلفية تاريخية للمكان. فعلى سبيل المثال: "كانت الدائرة موجودة في سان فينسينزو القريبة منذ إنشائها، لكن تضافر الأحداث بشكل غير متوقع قادها إلى جزيرة الكنز، وهي جزيرة صناعية إلى حد كبير، تقع في قلب خليج سان فرانسيسكو وتمتد من جزيرة طبيعية تُدعى يربا بوينا. شُيّدت هذه الكتلة الأرضية عام 1938 لتكون المقر المخطط له لمطار جديد" (الجميع 13). يشكّل هذا المقطع خروجًا واضحًا عن مسار الحبكة الرئيسة، إذ يوقف تقدم الأحداث ليغمر القارئ في تفاصيل تاريخية وجغرافية عن الموقع، إلى جانب إبراز أثر التوسع التكنولوجي على البيئة.
يلجأ إيغرز إلى الاستطراد كوسيلة لانتقاد ثقافة الشركات وهواجس العصر الحديث. فعلى سبيل المثال، أثناء مشهد يتعلق بسلسلة التوصيل، يتوقف السرد ليقدّم محاكاة ساخرة لهوس شركة الدائرة بالأمن والاستدامة: "أولًا، أوضحت روينا، غير مبالية بوضوح بتاريخ السائق في التوصيل الناجح، حمولتك لا تفي بمتطلبات الأمن. سيتعين علينا فحص جميع ..." (الجميع 12). ومن خلال هذا الانحراف عن خط الأحداث، يوجّه النص نقدًا لادعاءات حماية البيئة الزائفة، ولتجاوزات المؤسسات في الجامعات التكنولوجية، مبرزًا تناقضات سياسات الشركات عبر الاستطراد.
في رواية أبطال الحدود يوظّف المؤلف الاستطراد عبر السرديات الجانبية والانحرافات عن مسار الحبكة الرئيسة، بغرض تعميق فهم القارئ للشخصيات، وتقديم نقد اجتماعي، ورسم ملامح الحالة العاطفية. فكثيرًا ما يبتعد السرد عن اللحظة الراهنة ليكشف قصة جوزي، وزواجها الفاشل، والدوافع التي قادتها إلى الهروب نحو ألاسكا. فعلى سبيل المثال، بينما تقيم جوزي في منزلها المتنقل وسط براري ألاسكا، يتوقف السرد ليغوص في ماضيها وحالتها النفسية: "كانت طبيبة أسنان، ولم تعد كذلك. والد أطفالها، رجل لا فقاري ، أمعاؤه طليقة يُدعى كارل، أخبر جوزي أن الزواج بالوثائق خدعة، وأن الوثائق غير ضرورية ومضيعة، ثم وجد، بعد ثمانية عشر شهرًا من انتقاله، امرأةً أخرى ليتزوجها" (أبطال الحدود 8). يمثّل هذا الانحراف عن المشهد الحالي إضافةً أساسية تكشف دوافع جوزي، ورغبتها في الهروب، وتطلعها إلى الاختفاء، مما يعمّق إدراك القارئ لأفعالها.
كما يوظّف إيغرز الاستطراد في رواية أبطال الحدود للتأمل في الأمكنة والأشخاص الذين تصادفهم جوزي، مطعّمًا السرد غالبًا بملاحظات ساخرة أو ناقدة. فعلى سبيل المثال، أثناء زيارتها لحديقة حيوانات أشبه بحديقة تقليدية، تنصرف جوزي إلى التفكير في مأساوية الحبس: تذكرت حديقة الحيوانات العراقية بعد قصف التحالف، حين كانت الأسود والفهود تتجول بحرية لكنها تتضور جوعًا، تبحث عن قطط وكلاب لتأكلها، دون أن تعثر على شيء (أبطال الحدود 8).
إلى جانب ذلك، كثيرًا ما ينحرف السرد ليعرض شخصيات ثانوية أو أحداثًا جانبية قد لا تكون محورية في الحبكة، لكنها تضيف عمقًا وتعقيدًا إلى عالم جوزي. ومن ذلك الوصف المفصل لـــ ستان، مالك العربة المتنقلة، وبيئته المحيطة. يقول النص: "كان ستان أبيض الشعر، يرتدي بنطال جينز مكويًا وحذاءً رياضيًا أزرق فاتحًا نظيفًا. جلست جوزي في المقعد الأمامي، فيما جلس الأطفال على المقعد الطويل في الخلف، بينما قطعوا عشرة أميال من المطار إلى منزل ستان، حيث ستُستكمل أوراق القُصّر. وسرعان ما غفت آنا خلف الستائر الأفقية" (أبطال الحدود 11). يوضح هذا الاستطراد كيف يُسهم السرد في إبراز الأشخاص الذين تلتقي بهم جوزي، بما يعزز واقعية الرحلة ويغني جوّها.
يُوظّف إيغرز الاستطراد بمهارة ليُثري نسيج السرد، حيث تسمح هذه الانحرافات المقصودة عن الخط الرئيس للحبكة بتقديم خلفيات للشخصيات، وتوسيع فضاء الأحداث، وإدراج تعليقات اجتماعية نافذة. ولا تأتي هذه الاستطرادات كعناصر ثانوية أو هامشية، بل تُعد أدوات محورية تعمّق أثر الرواية وتحث القارئ على التفكير في أبعادها الأوسع.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
الفيسبوك
التويتر
اليوتيوب
الانستغرام
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
