أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - شادي أبو كرم - النسوي-الكويري كمرآة معكوسة: من خطاب للتحرير إلى نظام للوصاية















المزيد.....

النسوي-الكويري كمرآة معكوسة: من خطاب للتحرير إلى نظام للوصاية


شادي أبو كرم
كاتب سوري

(Shadi Abou Karam)


الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 16:47
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


ثمّة لحظة يظهر فيها الخطاب التحرّري كأنه يبدّل جلده. يتخلّى عن شغفه الأول، ويتقمّص ملامح القوة التي ثار عليها. لغةٌ تولد من الهامش كي تُنقذ، ثم تستيقظ ذات يوم وهي تتصرف كأن الخلاص لا يكتمل إلا عبر ضبط الآخرين أخلاقياً. هنا يبدأ الانزلاق: من الدفاع عن الحرية إلى كتابة لوائح بالواجبات، ومن رفض الهيمنة إلى استنساخها بنبرة أكثر تهذيباً. النيات ليست موضع شك، لكنها لا تمنع البنية من أن تُظهر ما تخفيه اللغة. فحين يتحول فهم القهر إلى وسيلة لتوزيع البراءة، وحين يغدو الاضطهاد علامة تُنسب لاختبارٍ أخلاقي، نكون أمام خطاب يستعيد منطق السلطة التي يعلن الخروج عليها.

ومع ذلك، لا يمكن لهذا النقد أن يُقرأ كتعميم أو كإنكار للعنف الذي يهبط يومياً على الأجساد الكويرية والنسوية. أعرف أن الغضب ليس رفاهية، وأن الصوت المرتفع ليس خياراً وإنه طريقة نجاة. أعرف أيضاً أن المجتمع يدفع هذه الفئات إلى الحافة بحيث يبدو العنف المضادّ، في كثير من اللحظات، رغيفاً من الأمان. لهذا لا يدّعي النص أنه يحاكم الحركة نفسها، لكنه يضيء على ظاهرة داخل بعض خطاباتها: اللحظة التي يصبح فيها الجرح امتيازاً، والغضب وصاية، والنضال بوابة عبور إلى أخلاق جديدة تُراقَب فيها النوايا أكثر مما تُسائل الأفكار.

هذا ليس انتقاصاً من النضال، إنه محاولة لإنقاذه من التشابه مع ما يقاومه. فهناك خطوط دقيقة تكسرها اللغة حين تستعير نبرة السلطة وهي تظن أنها تخلّص نفسها منها. النقد هنا ليس سحباً للشرعية، هو حماية لها من أن تتيبس أو تتحول إلى طقس. ما نخشاه ليس أن ينهزم الخطاب التحرّري، بل أن ينتصر بالطريقة الخطأ: أن يفرض حقّه بالحديث كما فرض غيره الصمت.

الخطاب النسوي - الكويري العربي قد فتح جروحاً كانت مطموسة، وأعاد توزيع الضوء على مساحات حُجبت طويلاً. لكنه، كأي خطاب وُلد من الألم، يواجه خطر أن يحوّل الألم إلى سلطة رمزية. فالوعي لا يسبق العالم، واللغة لا تشفي إن أعادت ترتيب القمع داخلها. السلطة تبدأ من العلاقات اليومية قبل أن تظهر في النصوص، وتبني نفسها في النبرة والإشارة والهامش، لا في المفهوم وحده. ومن دون هذه المراجعة الدقيقة، يصبح التحرر مجرّد صيغة جديدة للنفوذ، ويصبح الهامش مركزاً آخر بوجهٍ مختلف.

هنا تبرز المعضلة: التحوّل من تحليل القهر إلى هندسة الوعي. من الإصغاء إلى إصدار التعليمات الأخلاقية. يصبح الانحياز واجباً طقوسياً، ويغدو الاختلاف سبباً للاشتباه والتخوين. لا يعود النقاش فعلاً طبيعياً ينتج مخرجات مختلفة، وإنما فحصاً للنوايا. كذلك الأمر السؤال لا يُستقبل بوصفه سؤالاً، وإنما بوصفه تهديداً لبنية اعتقدت أنها حررت نفسها نهائياً من الشكّ. وفي اللحظة التي يُقسّم فيها الناس إلى "مؤهّلين" و"غير مؤهّلين" للكلام، تتسلل السلطة من النافذة، مرتديةً ثوب الضحية.

الأسوأ أن هذا الخطاب يفترض أن الثنائي القديم يمكن قلبه ببساطة: كان الرجل مركزاً فأصبحت المرأة مركزاً؛ كان المغاير معياراً فصار المختلف معياراً، كان الصوت الذكوري يسيطر فظهر صوتٌ جديد يمارس سلطة مشابهة على معجم المعاني. هذا القلب لا يغيّر شيئاً، وإنما يرسّخ فكرة المركز، أي الكارثة الأولى التي نحتاج أصلاً إلى تفكيكها.

في التجربة العربية، الاضطهاد شبكة أفقية/عامودية متشعبة ليست هرمية. المرأة الفقيرة قد ترث أدوات قمع تُمارسها على من هي أضعف منها. والرجل المهمّش قد ينهار تحت نظامٍ لا يملك منه سوى الخضوع. عليه فالجسد ليس قدراً، والموقع ليس جوهراً ثابتاً. الهويّات تتبدّل بتبدّل الخوف، وتتصلّب حين يغيب الأمان. لذلك يصبح تحويل الهوية إلى صكّ سياسي اختزالاً للتجربة الإنسانية بأكملها في بعد واحد. الإيمان بوجود "وعي أنثوي خالص" أو "وعي كويري بحت" يشبه الإيمان بوجود عقل قوميّ نقيّ أو ضمير طبقيّ مكتمل. إنه تحوّل الفكرة إلى لاهوت جديد، له مؤمنوه، وخطابه المسموح، ومحاكمه الرمزية.

ثم تأتي المشكلة الأخطر: احتكار تفسير الألم. أن يتحدث أحدٌ باسم المقهورين من موقع أكاديمي مريح، ثم يقرّر نيابة عنهم ما الذي يعنيه القهر، وما الذي يجب أن يُقال أو يُسكت عنه. هذه ليست حماية، إنها إعادة ترتيب للسلطة. انتقالٌ من مؤسسة إلى فرد، من دولة إلى ناشط. الفرق فقط في الشعارات، وليس في الجوهر: الجميع يتصرف كما لو أن الحرية تحتاج وصيّاً دائماً.

التجربة البشرية لا تتنفس بالهويات الصافية. تتنفس بالتعقيد، أي بالطبقة والدين والعمر والجغرافيا واللغة. أي محاولة لإعادة تبسيط الحياة إلى محور واحد تنتهي بخنق الحياة نفسها، ولو باسم الدفاع عنها. في العالم العربي، تتضاعف الخطورة: فالمجتمع لا يصنع آليات النجاة من فراغ، يصنعها تحت طقوس العيب والسمعة والنجاة اليومية. الجسد يفاوض الخوف قبل أن يفاوض الحرية. الجندر يفاوض السلطة الأبوية والطائفية والسوق في آن واحد. لا يمكن فهم هذا كله عبر معجم واحد، مهما بدا براقاً.

أما الحديث عن أن الليبرالية "سلعة غربية"، فحقيقة أخرى تنتظر تكملتها. الليبرالية في السياق العربي ليست فكرة معولمة فقط؛ هي درع بقاء. ملاذ للفرد أمام انهيار الدولة، ملاذ للمرأة أمام غياب القانون. ليست رفاهية طبقية دائماً، أحياناً تكون الوسيلة الوحيدة لحماية الجسد من عودة الجماعة بوصفها سلطة كاملة. رفضها بالجملة يعيدنا إلى ما قبلها، إلى عالم لا مكان فيه للفرد إلا بوصفه امتداداً لعائلته أو طائفته أو جماعته البيولوجية.

الوعي الذي يُبنى على الغضب وحده ينهار تحت أول اختبار. الغضب لا يكفي لتغيير البنى، مهما كان عادلاً. يحتاج إلى مؤسسة، وإلى قانون، وإلى مساحة آمنة تسمح بالاختلاف دون خوف. أمّا الخطاب الذي يستبدل العنف القديم بعنف لغوي جديد فلا ينتج تحرّراً، لكنه يُعيد رسم الشبكات نفسها التي تصنع القمع.

ما نحتاجه أبعد من يسار جديد أو موجة كويرية أحدث. نحتاج خيالاً اجتماعياً يعيد جمع الأمان بالحرية دون أن يجعل أحدهما سلاحاً ضد الآخر. فالفقر ليس أقلّ بطشاً من القهر الجندري، والخوف الاقتصادي يفتك كما يفتك الخوف من الجسد. الحركات التي تنسى هذا التداخل تفقد صلتها بالعالم، وتتحوّل إلى نخب تُدرّس القهر بدل أن تتعامل معه.

لا أحد يملك احتكار المعنى. الحرية لا تحتمل قَيّماً جديداً، والمقهورون لا يحتاجون من يمثّلهم. يحتاجون فضاء يسمح لتجاربهم أن تتكلم بلهجاتها المتعددة، دون إملاء، دون طقس اعتراف، دون شرط انتماء مسبق. الفكر الذي يخشى الشكّ ينقلب إلى سلطة، والفكرة التي تطلب الإيمان الأعمى تتحوّل إلى دين مهما تبدّلت لغتها.

الخطر الأكبر ليس أن نخطئ في فهم الحرية. الخطر أن نتكلم باسمها بطريقة تُنتج سلطة جديدة بأقنعة زاهية. الخطر أن يتحوّل الوعي إلى أداة فرز، وأن تصبح اللغة محكمة تفتيش، وأن تتحول القضية إلى نادٍ مغلق لا يدخل إليه إلا من حفظ الشعار الصحيح.
الحرية لا تحتاج وصيّاً جديداً أبداً. تحتاج شجاعة لتسمع ما يزعجها، وتسمح للآخر بأن يكون آخر فعلاً. وحين تنتصر الحرية، تنتصر بلا أباء جدد ولا كهنة جدد. هذا هو الامتحان الحقيقي، وهذا ما يجب أن يبدأ الآن.



#شادي_أبو_كرم (هاشتاغ)       Shadi_Abou_Karam#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا التي لا تشبهني، ولا أريدها أن تكون.
- نم يا سمير... فالقَتَلة ما زالوا يكتبون
- حكمت الهجري: رجل الدين الذي أزعج الآلهة الجديدة
- دماء فائضة عن الحاجة: إسرائيل تحتل والسوريون يتفرغون لذبح بع ...
- خناجر الله في ظهر الحرية: سيكولوجيا القتل الديمقراطي
- الطفل الذي تعلم الذبح: كيف تربّى السوريون على الكراهية؟
- المرأة حين تُصبح سجّانة نفسها: كيف تُعيد الضحية إنتاج قيودها ...
- الطغيان ليس قدراً، لكنه الخيار المفضل دائماً
- الحوار الوطني: حين تصبح السياسة إدارة أزمة لا مشروعاً للدولة
- الطغاة لا يولدون من العدم: كيف صنع السوريون استبدادهم وحموه؟


المزيد.....




- توتر الأم أثناء الحمل يسرع ظهور أسنان رضيعها
- مصر: إحالة مُمرض للجنايات لهتك عرض مريضة داخل غرفة الإفاقة
- العراق: القبض على رجل قتل زوجته رميًا بالرصاص
- تونس تحذر من مخاطر التفكك الأسري بسبب ارتفاع معدل الطلاق
- اختتام أعمال المؤتمر الإقليمي الخامس للملتقى العربي للنساء ذ ...
- مصر: قصة الطفلة “حور”..حاولت الانتحار بسبب التنمر
- ثلاث طالبات من القدس يُحققن إنجازًا في علم الأعصاب
- الاحتلال يواصل انتهاكاته: تهجير قسري لـ76 مريضًا/ة من مستشفي ...
- -وما خفي أشد قسوة- أسيرة محررة تكشف فظائع التعذيب والاغتصاب ...
- المغرب: إدانة حقوقية لتقاعس السلطات مع قضية اغتصاب متكرر لفت ...


المزيد.....

- الحقو ق و المساواة و تمكين النساء و الفتيات في العرا ق / نادية محمود
- المرأة والفلسفة.. هل منعت المجتمعات الذكورية عبر تاريخها الن ... / رسلان جادالله عامر
- كتاب تطور المرأة السودانية وخصوصيتها / تاج السر عثمان
- كراهية النساء من الجذور إلى المواجهة: استكشاف شامل للسياقات، ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- الطابع الطبقي لمسألة المرأة وتطورها. مسؤولية الاحزاب الشيوعي ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات / ريتا فرج
- واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء / ابراهيم محمد جبريل
- الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات / بربارة أيرينريش
- المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي / ابراهيم محمد جبريل
- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - شادي أبو كرم - النسوي-الكويري كمرآة معكوسة: من خطاب للتحرير إلى نظام للوصاية