أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - شادي أبو كرم - سوريا التي لا تشبهني، ولا أريدها أن تكون.















المزيد.....

سوريا التي لا تشبهني، ولا أريدها أن تكون.


شادي أبو كرم
كاتب سوري

(Shadi Abou Karam)


الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 16:17
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


أكتب هذه الكلمات كما يكتب أحدهم على جدار بيتٍ مدمر، لا ليعود إليه، لكن ليترك علامة تقول إنه كان هنا ذات يوم. أكتب لا لأنني أملك أملاً، لكن لأنني لا أحتمل الصمت. كنت أظن أنني أنتمي لهذا المكان، لهذا الشيء الذي كنا نسميه "وطن"، فإذا بي أكتشف متأخراً أنه لم يكن يوماً لنا. كان قفصاً، طلي بطلاء الانتماء، وأقنعونا أن الأمان هو أن تبقى داخله، وأن الكرامة هي أن ترضى بقيوده. على مدى سنوات، حاولنا أن نمنح هذا البلد فرصة ليشبهنا، لنصنع منه بيتاً يليق بدمنا وذاكرتنا. لكن شيئاً لم يتغيّر. فقط تبدّل السجّان، وتبدّلت الشعارات، وبقي القمع على حاله، بثياب جديدة ولهجة جديدة، وباسم واقعيةٍ تُسوّق كأنها حكمة، وباسم "انتصار" لا يشبه إلا الهزيمة.
أكتب الآن، تحديداً الآن، كي لا يُقال لاحقاً إننا جميعاً باركنا هذا الانحدار. كي يُسجّل في مكان ما أن أحدنا شعر بالعار، بالخذلان، بالغضب الذي لا يهدأ. أن أحدنا رفض أن يكون شاهداً أخرس على سقوط أخلاقي بهذا الحجم. أكتب كي أقول: لا، لم يصمت الجميع.
عندما خرجنا في 2011، ظننا أن عدونا واضحٌ كوجه الديكتاتور على الجدران: صورة تُنتزع، تمثال يُحطّم، ثم تعود البلاد إلى أهلها. كنا نعتقد أن رأس النظام هو المشكلة، لا الرأس الذي فينا. لم ندرك أن الديكتاتور لم يصنعنا بقدر ما كنّا نحن من صنع له مقامه، بصمتنا، بخوفنا، وبعلاقتنا المسمومة مع فكرة السلطة نفسها. المأساة لم تكن في النظام فقط، كانت في قابلية الناس للعيش تحته، في استعدادهم الوراثي للتطبّع مع القمع ما دام لا يطالهم، بل يوفّر لهم نصيباً من الخبز أو الوهم أو الغلبة. لم ننتبه أن المدرسة التي صفقنا فيها للقائد، والمسجد الذي صلّى فيه الإمام لصورته، والبيت الذي قال فيه الأب لابنه "احمد ربك إنو عايش"، كلها كانت تهيئنا لنكون رعايا لا مواطنين، عبيداً بلا سلاسل.
الثورة لم تكشف النظام فقط، كشفتنا.
كان الحلم أكبر من الواقع؟ لا. كان الواقع أحقر من أن يحتمل حلماً كهذا. ظننا أن كسر صنم الأسد سيحرر الهواء، أن هدير الشوارع سيعيد تعريف الوطن، أن الموت الذي تقاسمناه سيكون بداية حياةٍ مختلفة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث. الثورة، تلك التي ظنناها قيامة، انقلبت إلى استدارة. لم تُكسر السلسلة، استُبدلت حلقتها المهيمنة بحلقة أخرى أكثر صخباً، أكثر جهلاً، أكثر وقاحة في تبرير القهر. الذين هتفوا للجلاد بالأمس، صاروا اليوم جلادين بصيغة مختلفة. غيّروا الخطاب، لكن أبقوا على نفس الآليات: نفس عبادة الزعيم، نفس منطق الإقصاء، نفس تصفية المختلف. صار القاتل "أخاً ثورياً"، والضحية "عنصراً مندساً"، وامّحت الحدود بين ما قمنا ضده، وما أصبحنا عليه.
كل شيء أُفرغ من معناه، حتى الثورة نفسها. لم تكن لحظة ولادة، كانت محطة استلام وتسليم، استبدلنا فيها طاغية بطاغية، ومجزرة بأخرى، وراية حمراء بأخرى خضراء لا تقل سواداً. هنا، في هذا الركام، ليس هناك انتصار، هنا تدوير للقبح. أصبحت سوريا مختبراً مفتوحاً لإعادة تدوير الاستبداد: بشعارات جديدة، بأسماء جديدة، بمبررات أكثر وقاحة. لم نسقط الطاغية، فقط بدّلناه بطاغيةٍ يرتدي "العَلمَ القديم"، ويتقنُ نطق كلمة "حرية" دون أن يعرف معناها. والنتيجة؟ بلد منهك، ميدان تائه، وذاكرة خائنة تحاول إقناعنا بأن ما يحدث هو الصواب.
ها أنا اليوم، بعد كل هذا الركام، أشعر بالعار. لا العار الذي يأتي من الهزيمة، العار ذاك الذي يتسرّب من تحت الجلد، من قعر الخذلان. عارٌ لا يخصّني وحدي، يشبه الطين الذي يُلطّخ كل من مشى في هذا الوحل ساكتًا. ليست المشكلة في أننا لم ننتصر، بل في أننا اخترنا أن نُهزم بهذه الطريقة. أن نخلع طاغية لنُلبّس القيد طاغية جديداً، وأن ندفن أخلاق الثورة تحت لافتات براغماتية ومصطلحات وقحة عن "الواقع" و"المصلحة الوطنية".
ما الذي حدث لنا؟ كيف انقلبنا من شركاء في الخيمة إلى حرّاس على بوابة الغيتو؟ من رافضي الاحتلال إلى سماسرة للتطبيع؟ من أنصار الحرية إلى كتبة عند السلطان الجديد؟ أن يُقال للفلسطيني "أنت أجنبي" ليس فقط سقطة أخلاقية، إنه إعلان رسمي وقح بأن هذا المكان لم يعد له قلب. أن يُمحى تاريخه في دفاتر النفوس، أن يُسحب اسمه من خرائط الانتماء، هو تأكيد على أن هذه البلاد لا تتسع إلا للطغاة وأتباعهم.
أي وطن هذا الذي ينسى من وقف معه حين كان يلفظ أنفاسه الأخيرة؟ أي انتصار هذا الذي يبدأ بخيانة الشهداء ويستكمل بتجريم الصداقة؟ أي هوية هذه التي نُقسم باسمها ثم نطرد من يحملها في القلب لا في الأوراق؟
هذا ليس شعوراً، هذا سجلّ. شهادة مكتوبة بأحرف لا تحتمل التأويل: الأغلبية لم يريدوا الحرية. أرادوا فقط طاغيةً جديداً يُشبههم أكثر. ولهذا، حين نظروا في المرآة، لم يروا السجون أو المجازر، بل رأوا وجوههم وقد وُضعت على الكرسي، واستراحوا.
لم يكن هذا هو الوطن الذي أردته، ولم يكن هذا هو الحلم الذي من أجله مات مليون سوري، ولم تكن هذه هي الثورة التي تصورتُ أنني أنتمي إليها. كان ثمّة خطأٌ ما منذ البداية: كنّا نصرخ ضد القمع، لكن لم ننتبه إلى أننا، في الواقع، كنّا نُعيد إنتاجه. كنّا نرفض عنف الأسد لأنه كان عنفاً موجهاً ضدنا، وليس لأنه عنف. وهكذا صار القمع مقبولاً حين أصبحنا نحن مَن يمارسه، وصارت الميليشيات التي كانت عصابات، حاميةً للوطن حين انتمت إلينا. وصار النهبُ "إعادة توزيعٍ للثروة"، وصار التطهيرُ الطائفي "إصلاحاً ديموغرافياً"، وصار القتلُ "ضرورةً وطنية".
أخجلُ اليوم لأنني أنتمي إلى بلدٍ ليس فيه من الأخلاق إلا الشعارات. أخجل لأنني أحمل جواز سفر دولةٍ ترفع رأسها حين تتنكّر لفلسطيني ولد فيها وعاش فيها، بينما تنحني بخضوعٍ أمام عدوٍ سرق أرضها وأحلامها وتاريخها. أخجل من شعبي الذي يقبل أن يتحول من ضحية إلى جلاد، ومن ثائرٍ إلى سجان، ومن طالب حريةٍ إلى تاجر دماء.
هذا ليس غضباً عابراً، هو جرحٌ تاريخي مفتوح لا يندمل، ولا تستطيع أي تبريرات سياسية أن تخفّف من ألمه. أن يصبح التطبيع مع إسرائيل وجهة نظر، والفلسطيني "أجنبياً" في دمشق، يعني أن الانهيار لم يعد سياسياً أو أخلاقياً فقط، أصبح انكساراً وجودياً لإنسانيتنا نفسها. هي اللحظة التي نعترف فيها بأننا لسنا مجرد ضحايا، لكننا شركاء متواطئون في الجريمة؛ جريمة النسيان، جريمة خيانة الذاكرة، جريمة دفن القيم التي طالما تظاهرنا بالدفاع عنها. هذا الاعتراف المرير، أننا لم نتعلم من آلامنا سوى كيف نُعيد إنتاجها بحق غيرنا، هو الدليل الأكثر قسوة على أننا لسنا في قعر الانحطاط فقط، بل نواصل الحفر بأظافرنا بعيداً في بئر عارنا.
لستُ من هؤلاء، ولن أكون. لستُ ممثلاً في هذا العرض الرديء، ولا شاهداً على هذا الاحتفال المُهين بانتصارات زائفة لم تُصنع بأيدينا، بل وُهبت لنا من باب الشفقة والإذلال. أرفض أن أكون جزءاً من قطيعٍ ينتظر سيداً آخر ليستبدل سياطاً قديمة بأخرى جديدة. لن أصفّق لقائدٍ مختلف الملامح، متطابق الجوهر، ولن أبارك لأبواقٍ إعلامية تستثمر مهاراتها في تزييف الوعي وتبييض الجريمة. أرفض لأن الصمت هنا خيانة، ولأن التصفيق في هذه اللحظة هو قبولٌ طوعيّ بأن أكون شريكاً في قتل حلمٍ كان يستحق منّا أفضل مما قدمناه.
أدركُ تماماً أنّ هذه الكلمات لن تَهزم واقعاً، ولن تُعيد وطناً، لكنها شهادةٌ شخصية من أجل التاريخ، وربما لأجل ضميرٍ لم ينطفئ بعد. هي شهادةُ رفضٍ ضد منطق القطيع، وضد كلّ من جعل الفلسطيني، رفيق الخيمة وشريك الوجع، غريباً فجأةً في قلب دمشق. شهادةٌ لمن سيولدون بعدنا، ليعرفوا أن ثمة من رفضوا الصمت، ومن لم يسلّموا أنفسهم بسهولةٍ لهذه الردّة الجماعية نحو منطق العبودية الطوعية. هي شهادةُ براءةٍ كاملة من وطنٍ قرّر أن يبيع ذاكرته ويُساوم على هوية أبنائه، وأن يمحو دم شهدائه مقابل وهمِ استقرارٍ زائف. شهادةٌ علّها تُبقي الباب موارباً أمام مَن سيأتي بعدنا، كي لا يقولوا يوماً إنّ الجميع خانوا، وإنّ الجميع باعوا. لأن البعض على الأقلّ، قالوا لا.
هنا، وأنا ألقي كلماتي في وجه هذا الخراب، أصرخ في وجه هذا الوطن المزيّف، في وجه هذا الشعب الذي خان نفسه قبل أن يخون شهداءه: هذه سوريا التي لا تشبهني، ولا أريدها أن تكون. لا أريد أن تجمعني بكم راية واحدة، ولا نشيد واحد، ولا جواز سفر يملؤني بالخزي والعار كلما فتحته.
أنا بريء من انتصاركم الموهوم، ومن جثثكم التي ترفعونها كالرايات. بريء من لغتكم التي لوّثتموها بالدم والتبرير الرخيص، ومن تاريخكم الذي أعدتم كتابته بأقلام الجلادين الجدد. بريء من وجوهكم وأنتم تبتسمون لمن قتلكم، وتتنكّرون لمن وقف معكم حين تخلى العالم عنكم.
هذا ليس اعتذاراً، إنه إدانة علنية، واضحة، نهائية. إدانة لكم ولصمتكم، لخنوعكم، ولكل لحظةٍ اعتقدتم فيها أن الحرية تُهدى على طبق من جثث الأبرياء.
ما تبقّى لي، هو هذه الكلمات القاسية، القبيحة، الضرورية، كي تُسجّل في التاريخ شهادةً حيّة على أنكم اخترتم الذلّ بملء إرادتكم، وأنّ بعضنا اختار الرفض حتى النهاية. وإذا لم يسمعني أحد منكم اليوم، فلا بأس. التاريخ له أذنان جيدتان، وسوف يسمع، وسوف يلعنكم…



#شادي_أبو_كرم (هاشتاغ)       Shadi_Abou_Karam#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نم يا سمير... فالقَتَلة ما زالوا يكتبون
- حكمت الهجري: رجل الدين الذي أزعج الآلهة الجديدة
- دماء فائضة عن الحاجة: إسرائيل تحتل والسوريون يتفرغون لذبح بع ...
- خناجر الله في ظهر الحرية: سيكولوجيا القتل الديمقراطي
- الطفل الذي تعلم الذبح: كيف تربّى السوريون على الكراهية؟
- المرأة حين تُصبح سجّانة نفسها: كيف تُعيد الضحية إنتاج قيودها ...
- الطغيان ليس قدراً، لكنه الخيار المفضل دائماً
- الحوار الوطني: حين تصبح السياسة إدارة أزمة لا مشروعاً للدولة
- الطغاة لا يولدون من العدم: كيف صنع السوريون استبدادهم وحموه؟


المزيد.....




- الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع تجدد إدانتنا الق ...
- إسبانيا: بيان حزب النهج الديمقراطي العمالي بشأن الأحداث العن ...
- مورسيا الإسبانية: حادث اعتداء على مسن يشعل مواجهة بين ناشطين ...
- بيان اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي العمالي في دورتها ...
- نعي قائد شيوعي بارز
- اليسار يدفع فرنسا نحو تعليق اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرا ...
- تيسير خالد : أيمن عوده .. قائد وطني شجاع
- آلاف المستأجرين يطالبون السيسي بعدم التصديق على القانون وال ...
- حكم قاسي في حق شقيقي الشهيد ياسين شبلي بابن جرير
- الغد الاشتراكي العدد 48


المزيد.....

- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - شادي أبو كرم - سوريا التي لا تشبهني، ولا أريدها أن تكون.