أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - شادي أبو كرم - الطفل الذي تعلم الذبح: كيف تربّى السوريون على الكراهية؟














المزيد.....


الطفل الذي تعلم الذبح: كيف تربّى السوريون على الكراهية؟


شادي أبو كرم
كاتب سوري

(Shadi Abou Karam)


الحوار المتمدن-العدد: 8279 - 2025 / 3 / 12 - 14:04
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


مشهد الطفل المحمول على الأكتاف في ساحة مدينة حمص، وهو يلوّح بسكين ويردد "شرطة النصيرية"، ليس حدثاً منعزلاً، ولا هو وليد لحظته. إنه تجسيد مروّع لسلسلة متصلة من عمليات التطبيع مع خطاب الكراهية، بدأت منذ السنوات الأولى للثورة السورية، وامتدت حتى اللحظة الراهنة. في الذاكرة الجمعية السورية، ظهرت تلك الأغنية أول مرة في بنش بريف إدلب، حيث وجدت التنظيمات المتطرفة بيئة خصبة للتجييش الطائفي.

لكن المأساة تكمن في تلك اللحظة الفارقة حين تحولت هذه الأغنية من خطاب تحريضي مدان إلى "نكتة" يتبادلها ما يُسمى بالناشطين في جلساتهم وسهراتهم. هنا وقع الانزلاق الأخلاقي الأخطر: حين يصبح خطاب التحريض على القتل مادة للتسلية، وتتحول الكراهية إلى شكل من أشكال الترفيه، وتصير الدعوة إلى الإبادة مجرد "لازمة" في السهرات.

هذا التطبيع لم يكن خطأً عفوياً وحسب، كان عملية منهجية بدأت من تبرير الكراهية، ثم التساهل معها، ثم تحويلها إلى جزء من المزاج العام. ما بدأ كأغنية مسمومة في جلسات السهر، انتهى بجريمة تُرتكب بدم بارد على أرصفة المدن. فمن جرؤ على التحذير من خطاب الكراهية الطائفية جرى وصمه فوراً: "عميل للنظام"، "خائن للثورة"، "علماني مشبوه". وقد انبرى كثيرون لهذه المهمة، وجعلوا من أنفسهم حراساً لنقاء الخطاب الثوري المتخيّل، منزّهين إياه من أي نقد أخلاقي.

هكذا، تشكلت منظومة رقابية تسهر على حماية خطاب الكراهية من النقد، تمنح نفسها صك الغفران للتغاضي عن الجرائم "إذا كانت في خدمة الثورة"، وتتغاضى عن التحريض على القتل "إذا كان ضد الطائفة المناسبة". وعبر آلية الترهيب هذه، تم إسكات كل صوت تحذيري، وتكريس ثقافة التواطؤ مع الإجرام إذا كان "مفيداً سياسياً".

في هذه اللحظة المظلمة من تاريخنا، حيث تشهد مناطق الساحل السوري مذابح مروعة على أساس الهوية الطائفية، وتمتلئ شوارع المدن السورية بهتافات الكراهية، تتجلى النتيجة الحتمية لعملية التطبيع الممنهجة هذه. لقد حصدنا ما زرعناه: عنف متوحش لا يميز بين طفل وشيخ، ولا يفرق بين مذنب وبريء. وتقع المسؤولية الأخلاقية والتاريخية على كل من ساهم في تهيئة التربة لهذه اللحظة: من الناشط الذي تغاضى عن خطاب الكراهية بحجة "المصلحة الثورية"، إلى المثقف الذي التزم الصمت خوفاً من وصمة "خيانة الثورة"، إلى السياسي الذي وظّف التوترات الطائفية لحشد الدعم، إلى الإعلامي الذي أدمن استخدام مصطلحات التحريض. جميعهم مشاركون في صناعة هذه اللحظة المظلمة، ليس فقط من أطلق الرصاصة أو رفع السكين.

ما نشهده اليوم لا يمكن اختصاره بشكل ساذج على أنه مجرد "فورة غضب" أو "ردة فعل عفوية" على الظلم التاريخي، ما يحصل هو نتاج ثقافة متكاملة من التبرير والتنظير للكراهية. ثقافة تقول إن "تطهير" المناطق من الآخر المختلف هو "عدالة تاريخية"، وإن قتل الأبرياء على أساس انتمائهم الديني أو الطائفي هو "قصاص عادل". وهذه الثقافة لم تُبنَ بين ليلة وضحاها، بل تشكلت عبر سنوات من تطبيع المجتمع مع خطاب الإقصاء والكراهية، عبر آلاف النكات "البريئة" التي تحمل في طياتها سماً قاتلاً، عبر المواقف "الثورية" التي تبرر الجريمة إذا كانت ضد "الطرف المناسب".

فليتذكر كل من صفق للأغنية "الثورية" وهو يحتسي كأساً في سهرة، وكل من تغاضى عن شعار طائفي باسم "وحدة الصف الثوري"، وكل من هاجم المحذرين من خطاب الكراهية ووصمهم بالخيانة أو العمالة، أنه يتحمل نصيباً من المسؤولية عما يجري اليوم. فالجريمة لا تبدأ بالسكين، بل بالفكرة التي تبرر استخدامها، وبالثقافة التي تجعل من حاملها بطلاً، وبالمجتمع الذي يصفق له بدلاً من أن يدينه.

ما لم نواجه هذه الحقيقة المُرّة — أن المجتمع السوري بكل أطيافه صار شريكاً في تأصيل الكراهية وتبريرها — فلن نخرج أبداً من هذا المستنقع. لم يعد بوسعنا التظاهر بأن الجريمة تقع في الجانب الآخر، أو أن الضحية دائماً "واحد منا". الحقيقة أشد قسوة: نحن جميعاً ساهمنا في تحويل سوريا إلى مصنع للكراهية، نُعيد فيه إنتاج الجلادين بوجوه جديدة، ونسلّم فيه السكين من قاتل إلى آخر وكأنها إرثٌ وطني.

ما لم نتوقف عن الكذب على أنفسنا، ونعترف أن هذا الخراب هو حصيلة خيباتنا نحن — خيبات الثقافة التي سمحت لخطاب الدماء أن يصبح وجهة نظر، خيبات الثورة التي تحولت إلى منصة للانتقام، وخيبات المعارضة التي صمتت عندما كان الصراخ واجباً — فإننا نهيّئ أنفسنا لدماء أكبر، لقتلة أصغر سناً وأكثر وحشية.

لقد سقطنا جميعاً في الوحل. لم يعد السؤال كيف نغسل أيدينا من هذه الدماء، بل كيف نمنع أطفالنا من حمل السكاكين، وكيف نمنع أنفسنا من التصفيق لهم إذا فعلوا. ما لم نفعل ذلك الآن، فإن هذه البلاد لن تكون سوى طابور طويل من الجلادين، كلٌّ ينتظر دوره ليكون ضحية غداً.

سوريا لم تعد بحاجة لمن يبكيها، ولا لمن يكتب عنها بنبرة حزينة. سوريا بحاجة لمن يعترف — بمرارة لا تُحتمل — أننا نحن من صنع هذه الجحيم، ونحن وحدنا من سيحترق فيه.



#شادي_أبو_كرم (هاشتاغ)       Shadi_Abou_Karam#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة حين تُصبح سجّانة نفسها: كيف تُعيد الضحية إنتاج قيودها ...
- الطغيان ليس قدراً، لكنه الخيار المفضل دائماً
- الحوار الوطني: حين تصبح السياسة إدارة أزمة لا مشروعاً للدولة
- الطغاة لا يولدون من العدم: كيف صنع السوريون استبدادهم وحموه؟


المزيد.....




- الجيش الإسرائيلي يعلن بدء عملية برية في مدينة رفح
- الحكم على فتاة مصرية ارتكبت جريمة مروعة بحق طفلة انتقاما من ...
- الكويت تدين بشدة الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية
- عون يؤكد التزام لبنان باتفاق وقف النار
- لمكافحة الجريمة.. السويد تقترح قانونا يتيح للشرطة استخدام تق ...
- صديق طفولة ماسك: أصبح الرجل الذي كان يزدريه
- الجزائر: النيابة تطالب بسجن الكاتب بوعلام صنصال عشر سنوات
- مصر وسوريا تعلنان موعد عيد الفطر فلكيا
- موسكو: التسوية تتصدر مباحثات السعودية
- بيان عراقي عن حقيقة تشكيل خلية أزمة أمنية لمتابعة التطورات ف ...


المزيد.....

- حين مشينا للحرب / ملهم الملائكة
- لمحات من تاريخ اتفاقات السلام / المنصور جعفر
- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - شادي أبو كرم - الطفل الذي تعلم الذبح: كيف تربّى السوريون على الكراهية؟