أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح راهي العبود - “الأغنية العراقية: من نوح ديموزي إلى لحن الوطن الجريح”














المزيد.....

“الأغنية العراقية: من نوح ديموزي إلى لحن الوطن الجريح”


صباح راهي العبود

الحوار المتمدن-العدد: 8525 - 2025 / 11 / 13 - 16:55
المحور: الادب والفن
    


منذ فجر التاريخ، والعراقيّون يحملون في أصواتهم رجع الأرض ودمع السماء. من معابد سومر وبابل، حيث الكاهنات النائحات على ديموزي الغائب في العالم السفلي، وترتفع تراتيل إنانا في طقوس الزواج المقدّس، ولدت أولى نغمات الحزن في الوجدان الرافديني. كانت تلك الأناشيد الأولى مزيجًا من العبادة والبكاء، ومن الرجاء والفقد، فملأت شوارع المدن القديمة بألحان النواح وأصداء اللوعة. ومنذ ذلك الحين، صار الغناء في وادي الرافدين موشّحًا بالدمع، وكأن الأرض نفسها تتنفس بالنواح.
هذا الإرث السومري لم يندثر، بل سار في عروق الأجيال حتى صار جزءًا من الجينات الثقافية للعراقيين. فالحزن لديهم ليس طارئًا، بل هو هواء يتنفسونه، وماء يشربونه، وموسيقى تسكن أرواحهم. فمن فيضانات دجلة والفرات التي كانت تقتلع البيوت والحقول وتغرق أحلام الفلاحين، إلى العواصف التي تقتل الزرع، ومن أطماع الغزاة الذين توالت جيوشهم على هذه الأرض المباركة، تَغذّى الوجدان العراقي على المأساة، حتى غدا الحزن علامة في تكوينه النفسي والوجداني.
وحين دوّت سنابك الغزاة فوق تراب بغداد، منذ اقتحام هولاكو لأسوارها سنة 1258، وحتى تقلبها بين العثمانيين والفرس، ثم الاحتلال البريطاني مطلع القرن العشرين، لم تفارق المأساة روح المدينة. دخل الحزن إلى الأزقة والمقاهي، واستقر في صدور المغنين والشعراء. ومع مطلع القرن العشرين، كان العراق يقف على حافة تحولات كبرى؛ انهيار الدولة العثمانية، وصعود الاحتلال الجديد، ثم قيام الدولة الحديثة، وكل ذلك ترك أثره في الفن كما في السياسة.
في بغداد تحديدًا، وُلدت صيغ جديدة من الغناء امتزجت فيها بقايا التراث العثماني بالموروث العربي العريق، لتخرج لنا صورة ما زلنا نعرفها اليوم باسم المقام العراقي؛ ذلك الفن الفريد الذي يحمل بين أنغامه فلسفة البكاء والتأمل والتطريب في آن واحد. غير أنّ السياسة لم تترك للفن حرية كاملة؛ فقد تعاقبت الانقلابات، وسالت الدماء في الساحات والسجون، فصار الغناء مرآةً للحداد بدل أن يكون وسيلةً للفرح.
في أصوات المطربين العراقيين ارتجافٌ يشبه ارتجاف قلب أمٍّ ثكلى أو لوعة عاشقٍ فقد محبوبه على قارعة حربٍ لا يدري لماذا اشتعلت. شهدت العقود الحديثة صورًا من الفاجعة قلّ أن عرفها شعب آخر: مجازر جماعية، حروبٌ مع الجيران، غزوٌ واحتلال، قصفٌ لم يفرّق بين بيتٍ ومدرسة، وإعدامات وسجون حالكة ابتلعت أعمار الشباب. فصار الحزن جزءًا من نسيج العراقي يتنفسه مع هواء بلده، ويمتزج بصوته حين يغني.
هكذا تحوّل الغناء العراقي إلى طقسٍ جماعيٍّ للتطهر من الألم. ألحانٌ حزينة يتلذذ بها الناس كما لو كانت اعترافًا جماعيًا بالجرح، أو صلاةً ترفعها الأرواح إلى السماء. حتى أغاني الحبّ في العراق تحمل شجن الفقد، وحتى أهازيج العرس لا تخلو من نبرةٍ باكية. فالعراقي، وهو يغني، لا يرفع صوته للطرب وحده، بل ليشهد على تاريخٍ مثقلٍ بالوجع، وليقول: أنا ما زلت حيًّا رغم كل هذا الخراب.
ومع ذلك، يبقى الغناء العراقي كنزًا خالدًا، فهو ابنُ تنوّعٍ لا مثيل له: عربٌ وكردٌ وتركمانٌ وآشوريون ويهود، انصهرت ألحانهم في بوتقة واحدة، فصاغوا هوية موسيقية تُشبه العراق نفسه؛ متعددة المشارب، عميقة الجذور، حزينة النغمة، سامية الروح. وقد عبّر الفنان الكبير حسين الأعظمي عن ذلك بقوله: “التراث لا يندثر لأنه وليد الجماعة، والمجتمع هو المؤدي والملحن والكاتب.”
إنّ الأغنية العراقية الحديثة ليست مجرد مرآة للمأساة، بل هي أيضًا صرخة هوية، ومحاولة دائمة لانتزاع الجمال من بين الركام. ومادام الشعب العراقي باقٍ، فإن أغنيته ستبقى، شاهدة على حضوره وعلى مقاومته للزوال.
ويبقى السؤال الذي يطرق القلب:-أما آن للعراق أن يغني للفرح؟
أما آن للأغنية أن تكون جسراً للابتسامة لا مرآة للبكاء؟
ربما سيأتي ذلك اليوم، حين يتحوّل الحزن المتراكم إلى سعادة وفرح, وحين تستعيد الموسيقى العراقية وظيفتها الأولى: أن تبعث السكينة في الروح، وتفتح للنفس أبواب الرجاء.
لكن، حتى ذلك الحين، سيظل الغناء العراقي كما كان منذ سبعة آلاف عام:...................ذاكرة شعبٍ يكتب تاريخه بالنغم، ويقاوم بالفنّ موتَه الأبدي



#صباح_راهي_العبود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشهد من بغداد فجر القرن العشرين
- الذكاء الاصطناعي ...... مليارات من الريبوتات في خدمة البشر!! ...
- ما فعلته السنون لا يلغيه قرار....... الحزن والبكاء في الغناء ...
- وقفة على ضفاف الغناء المنسي
- وقفة على ضفاف الطرب العراقي المنسي ( 1920 - 19509).
- وقفة على ضفاف الطرب العراقي المنسي ( 1920 - 1950 ).
- وداعاً ياريل .... وداعاً أم شامات
- أنيس زكي حسن .... كاتب ومترجم كبير عاش في الكوفة وانطلق ابدا ...
- في ذكرى اغتيال ثورة 14 تموز الخالدة
- حرب الفايروسات الألكترونية ...... فوز بدون نزال
- سلاح أمريكا لتدمير العراق وإخضاعه ....... نظرية الصدمة
- منتفضون ... سلاحهم علم ,وهمرهم تكتك.
- سيف الدين ولائي شاعر الأغنية العراقية الذهبية
- عشية أربعينية شيخ الملحنين عبد الحسين السماوي
- نشوء مدينة الكوفة الحديثة وتطورها
- وداعاً ستيفن هوكنك .. لقد أنجزت وأنت المعاق ,ما عجز عنه كثير ...
- الغناء الممنوع ....
- الريم التي أخرجت الشعر والفن السعودي إلى كل العرب
- من الماضي.... الحمامات العمومية في مدينة الكوفة .
- النوستالجيا والحنين لزمن صدام


المزيد.....




- تحسين مستوى اللغة السويدية في رعاية كبار السن
- رش النقود على الفنانين في الأعراس.. عادة موريتانية تحظر بموج ...
- كيف نتحدث عن ليلة 13 نوفمبر 2015 في السينما الفرنسية؟
- ميريل ستريب تلتقي مجددًا بآن هاثاواي.. إطلاق الإعلان التشويق ...
- رويترز: أغلب المستمعين لا يميزون الموسيقى المولدة بالذكاء ال ...
- طلاق كريم محمود عبدالعزيز يشغل الوسط الفني.. وفنانون يتدخلون ...
- المتحف الوطني بدمشق يواصل نشاطه عقب فقدان قطع أثرية.. والسلط ...
- وزارة الثقافة السورية تصدر تعميما بمواصفات 6 تماثيل مسروقة م ...
- هنادي مهنّا وأحمد خالد صالح ينفيان شائعة طلاقهما بظهورهما مع ...
- السعودية تُطلق -أكاديمية آفاق- لتعزيز الشراكة بين التعليم وا ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح راهي العبود - “الأغنية العراقية: من نوح ديموزي إلى لحن الوطن الجريح”