لماذا ممداني: هل هو تغيير بنيوي في أمريكا؟

عبدالله هياجنه

الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 21:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

تاريخ السياسة الأمريكية في القرن الواحد والعشرين لم يعد مجرد سرد للأحداث الانتخابية، بل هو قراءة جدلية للصراع الطبقي، للهيمنة الاقتصادية، وللوعي الجماعي الذي يتشكل في قلب المدن الكبرى. ففوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك في 4 تشرين الثاني 2025 ليس حادثًا انتخابيًا عابرًا، بل لحظة رمزية تعكس تفاعلات أعمق داخل البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأمريكية. إنه سؤال يتجاوز الشخصية الفردية ليغوص في صلب الأزمة البنيوية للرأسمالية الأمريكية، وفي تحول وعي الجماعات الحضرية، وفي إعادة تعريف الشرعية السياسية نفسها.
أولًا: البنية الطبقية للرأسمالية الأمريكية
تجسد الرأسمالية الأمريكية اليوم تناقضاتها العميقة على مستويات متعددة. فالنظام الذي لطالما اعتُبر نموذجًا عالميًا للقوة الاقتصادية، يعاني من تراكمات هيكلية تضغط على المجتمع من الداخل: تركز الثروة في أيدي نخبة مالية صغيرة، تضخم رأس المال المالي على حساب الاقتصاد الإنتاجي، واستنزاف الطبقة الوسطى، وهامشية واسعة للفئات العاملة.
هذه التراكمات لم تعد مجرد أرقام إحصائية، بل هي محرك للأزمات الاجتماعية والسياسية: إذ يتشكل الصراع الطبقي الجديد من داخله، وينعكس مباشرة على الحياة اليومية، من السكن إلى العمل، ومن التعليم إلى الصحة. بهذا المعنى، الأزمة ليست ظرفية أو مؤقتة، بل هي جوهرية وبنيوية، تمس العمق المادي للسلطة والرأسمالية معًا.
ثانيًا: المدن الكبرى كمختبر للتحول السياسي
نيويورك ليست مجرد مدينة؛ إنها مختبر اجتماعي وسياسي مركّز: أكثر من ثلث سكانها من المهاجرين، والفجوة بين الأغنياء والفقراء متسعة بشكل غير مسبوق. في هذا الفضاء تتقاطع كل التناقضات الطبقية والإثنية والدينية.
في سياق هذا التناقض، ظهرت الكتلة التقدمية الحضرية: شباب جامعي، فئات عاملة غير مستقرة، أقليات عرقية ودينية، ونشطاء سياسيون يتطلعون إلى تمثيل أخلاقي وجوهري للعدالة الاجتماعية. هذه الكتلة لم تعد تبحث عن مجرد المشاركة في الانتخابات، بل عن إعادة تعريف الشرعية السياسية نفسها، بعيدًا عن سردية الهيمنة التقليدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري.
ثالثًا: أزمة الشرعية والنظام الحزبي
الحزبان الرئيسيان لم يعودا يعكسان الصراع الأيديولوجي الحقيقي في المجتمع الأمريكي، بل الانقسام داخل الطبقة الرأسمالية نفسها. الجمهوريون يمثلون البرجوازية الصناعية والعسكرية المحافظة، بينما الديمقراطيون يمثلون الرأسمالية المالية–التكنولوجية. أما الطبقات الشعبية والوسطى، فقد فقدت التمثيل السياسي الفعلي، ما خلق فراغًا في المدن الكبرى، خصوصًا في نيويورك، حيث الكتلة التقدمية الحضرية شكلت قوة جديدة قادرة على تعبئة الوعي الجماعي ضد النظام التقليدي.
هذا الفراغ في الشرعية أدى إلى ميل الرأي العام نحو قيادة تدمج بين الوعي الأخلاقي والطبقي، وهو ما جسّده انتخاب ممداني: شخصية تمثل المقاومة الرمزية ضد المنظومة الإمبريالية المحلية والدولية، وتطرح نموذجًا للسياسة التي لا تنفصل عن العدالة العالمية كما حدث في سياق المأساة المستمرة في غزة.
رابعًا: أثر المجزرة في غزة على وعي الجماهير
الإبادة الجماعية في غزة (2024–2025) لم تكن مجرد مأساة إنسانية، بل حدث تاريخي أُرسِل مباشرة إلى شاشات العالم. بثت المجزرة يوميًا على القنوات الفضائية، لتخلق حالة وعي عالمي متزامن حول حدود القوة الأمريكية، وضرورة مساءلة الهيمنة، وارتباط السياسة المحلية بالقضايا الدولية.
هذا الحدث عزز الشعور الأخلاقي لدى الناخب الأمريكي، خصوصًا في المدن الكبرى: لم تعد القضية مجرد سياسة داخلية، بل قضية عدالة عالمية مرتبطة بالوعي الطبقي والحضري. فممداني لم يكن مجرد مرشح بل رمز لموقف أخلاقي متصل بالوعي العالمي، يعكس رفض الرأسمالية المهيمنة ورفض الهيمنة العسكرية غير الأخلاقية.
خامسًا: فوز ممداني كتعبير عن التحول البنيوي
فوز ممداني هو انعكاس سياسي مباشر للأزمة البنيوية:
1. اقتصاديًا: تجلّى الرفض الشعبي للهيمنة المالية والفجوة الطبقية.
2. اجتماعيًا: صعود الوعي الطبقي الحضرّي في المدن الكبرى.
3. أخلاقيًا: تصاعد المطالب بالعدالة العالمية والمحلية، وتحدي الهيمنة العسكرية والاقتصادية.
بهذا الشكل، الانتخابات لم تعد مجرد صراع على المناصب، بل معركة على إعادة إنتاج السلطة والشرعية: من الهيمنة القائمة على المال والقوة إلى الهيمنة القائمة على الأخلاق والوعي الجماعي.
سادسًا: قراءة مستقبلية
أ) السيناريو الإيجابي
نجاح ممداني في تنفيذ إصلاحات حقيقية في نيويورك — من قيود على الإيجارات إلى سياسات ضريبية عادلة — يمكن أن يحوّل المدينة إلى نموذج عالمي للتجربة التقدمية، ما يشجع مدنًا أخرى على تبني سياسات مماثلة.
ب) السيناريو المحتمل
قد تواجه الإدارة تحديات فيدرالية أو قضائية تحدّ من قدراتها التنفيذية، مع استمرار الزخم الشعبي المحلي الذي يضغط على المدينة لتوسيع الإصلاحات تدريجيًا.
ج) السيناريو الصعب
تحرك اليمين والقطاع المالي لمقاومة السياسات التقدمية، ما يؤدي إلى صراع محتدم بين قوى المدينة والفيدرالي، ويجعل الإنجازات محدودة ويزيد التوتر الاجتماعي والسياسي، لكنه يرسخ أيضًا وعيًا جماهيريًا جديدًا بالفاعلية الشعبية.
سابعًا: الاستنتاج الجدلي
فوز ممداني ليس مجرد حادث سياسي محلي، بل نتاج جدلي لانكشاف المركز الأمريكي على تناقضاته البنيوية والطبقية والأخلاقية. إنه إعلان رمزي على أن مرحلة “الهيمنة الليبرالية” بدأت أفولها، وأن المدن الكبرى أصبحت مختبرات لإعادة تعريف الشرعية السياسية والعدالة الاجتماعية، بما يتجاوز حدود الدولة الفيدرالية.
حين تتصدع البنية الاقتصادية، تتزلزل البنية الأيديولوجية، وحين ينهار المعنى، ينهض الفعل السياسي الجديد.
زهران ممداني ليس حالة فردية، بل تجسيد لحركة تاريخية أوسع، تعكس تفاعل القوى الطبقية، الأخلاقية، والحضرية في قلب الإمبراطورية الأمريكية.
في النهاية، السؤال الذي يطرحه فوز ممداني ليس فقط “لماذا انتخبته نيويورك؟”، بل “كيف ستعيد الولايات المتحدة تعريف السلطة والشرعية والعدالة في ظل أزمة بنيوية مستمرة؟”. إن فوز ممداني هو دعوة مفتوحة للبحث والملاحظة: لم يعد الشعب الأمريكي صامتًا، ولم تعد المدن الكبرى مجرد مراكز اقتصادية، بل مسرح لتجربة التحول البنيوي العالمي.

#عبدالله_هياجنه (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل