عبدالله هياجنه
الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 08:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعيش الإمبريالية الأمريكية طورا بنيويا مأزوما، تتقاطع فيه تناقضات الداخل مع تحولات الخارج، في مشهد يكشف عن تصدع المركز ذاته، لا عن أزماته العرضية فحسب. فما كان يقدم بوصفه نموذجا للقوة التاريخية والهيمنة الكونية، بات يتعرى أمام جدلية الواقع المادي والاجتماعي. فالأزمة لم تعد خللا سياسيا أو عسكريا فحسب، بل أزمة بنيوية تمس الأسس العميقة للنظام الرأسمالي الأمريكي، بما فيه من تركز مفرط للثروة، وتضخم في رأس المال المالي، وتفكك في البنية الإنتاجية والاجتماعية.
في هذا الإطار، يتجلى الصراع الطبقي بوصفه المحرك الخفي للأزمة؛ إذ تتقاطع تناقضات الداخل الأمريكي مع تناقضات النظام العالمي ذاته. فالمركز الذي راكم فائض القوة والهيمنة لعقود، يواجه اليوم قوى صاعدة تمارس مقاومة مادية ومعرفية، تعيد رسم خريطة النفوذ وتفكك احتكار المعنى الذي فرضه الخطاب الإمبريالي. وهكذا يصبح انكشاف المركز ليس نتيجة حرب أو أزمة منفردة، بل حصيلة حركة جدلية شاملة بين الهيمنة وتآكلها، بين القوة ومحدوديتها، وبين المركز والهوامش التي لم تعد صامتة.
من هنا، فإن "الأزمة البنيوية للإمبريالية الأمريكية" ليست حدثا طارئا في التاريخ، بل تعبير عن تحول عميق في منطق النظام الرأسمالي العالمي ذاته، وعن مرحلة جديدة من جدلية الهيمنة وتصدع المركز، حيث تتلاقى مقاومات الشعوب وصراعات الطبقات لتفتح أفقا جديدا لإعادة تعريف القوة والتاريخ معا.
الولايات المتحدة، منذ عقود، وتحديدا بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، تجلت في الفكرة الفوكويامية عن "نهاية التاريخ"، فصورت ذاتها بوصفها مركز العالم المطلق ونهاية كل جدل تاريخي. لوبياتها المالية والصناعية، المسنودة بجهاز الدولة والمجمع الصناعي العسكري، شيدت صورة متماسكة عن مركز لا ينهار.
غير أن هذا المركز، في عمقه البنيوي، يتصدع على وقع تناقضاته الداخلية: نخبة البرجوازية المركزية تلاحق الربح والسيطرة، بينما تدفع الطبقات الشعبية والفئات العاملة إلى هوامش الاقتصاد والسياسة، فتشتعل نزعات مقاومة تكشف هشاشة الهيمنة ورقابتها المتوهمة. هناك، حيث تلتقي أوهام القوة بحدود الواقع، تتجلى الأزمة كجوهر يتآكل من داخله.
ولو نظرنا إلى البنية الاقتصادية، لظهر أن الأزمة الإمبريالية ليست تصدعا سياسيا أو ضعفا في السلطة فحسب، بل أزمة جوهرية في النسيج الإنتاجي ذاته. فالنظام الرأسمالي الأمريكي، الذي طالما اعتبر نموذجا عالميا، وجد نفسه يترنح على حافة مفارقات تاريخية: تفكيك صناعاته الأساسية، تراجع قدرته الإنتاجية، وتضخم قطاعاته المالية المترهلة التي ابتلعت الاقتصاد الحقيقي، لتظهر الفجوة بين رأس المال المالي والأساس المادي للاقتصاد.
هذا الانفصال ليس ظرفيا، بل نتاج تراكمات هيكلية، حيث يواجه المركز تضخما هائلا في الثروات المتركزة ضمن لوبياته المالية، فيما تتآكل الطبقة الوسطى وتتعرض الفئات العاملة لضغوط استنزافية، فتتصاعد داخل المجتمع نزعات مقاومة تعري الوهم الهيمني في عمقه البنيوي.
في هذا السياق، يحاول الدولار الأمريكي أن يعيد إنتاج ذاته كأداة مزدوجة: رمز للهيمنة ورافعة مالية، لكنه في الوقت نفسه يعكس التناقض بين القوة المعلنة والواقع الاقتصادي المتآكل. فالقوة المادية تتقلص، بينما أدوات السيطرة النقدية تواجه حدودها، فتتعرض السيادة الاقتصادية المركزية لضغوط متزايدة من الأسواق العالمية والاقتصادات الصاعدة، مما يجعل الهيمنة أقل قدرة على الاستمرارية المطلقة.
تتزامن هذه الضغوط الاقتصادية مع الأبعاد الجيوسياسية – العسكرية للأزمة، حيث تتحرك الولايات المتحدة ضمن شبكة معقدة من الحروب بالوكالة والتحالفات المؤقتة، لكنها تجد نفسها أمام توازنات جديدة تتحدى مركزها. القوى الصاعدة تفرض سقوفا جديدة للنفوذ، والمجال العسكري لم يعد أداة مطلقة لتثبيت الهيمنة، بل صار عنصرا في لعبة معقدة من التفاعلات والردود الاستراتيجية. هنا تتكشف جدلية القوة: الهيمنة المعلنة تتقاطع مع محدودية الإمكان الواقعي، ويغدو واضحا أن السيطرة المركزية ليست إلا نمطا هشا من الهيمنة المؤقتة، مشحونا بالتناقضات الداخلية والمتغيرات الخارجية التي قد تدفع المركز إلى إعادة صياغة ذاته أو الانحدار نحو مزيد من الانكسارات البنيوية.
في قلب هذا المركز، تتشابك القوى الطبقية بطريقة تكشف جوهر الهيمنة وأوجه هشاشتها. نخبة البرجوازية المركزية، التي تتحكم بالثروة والقرار، تمثل الوجه المعلن للقوة، لكنها محكومة بتناقضاتها: سعيها وراء الربح والسيطرة يصطدم بضرورات الاقتصاد الواقعي وباحتجاجات المجتمعات المستنزفة داخليا. أما الفئات الشعبية والطبقات العاملة، التي تواجه انكماشا في فرص العمل وانخفاضا في مستوى المعيشة، فتنتج وعيا مضادا للهيمنة، يتجلى في أشكال متعددة من المقاومة، تتراوح بين الاحتجاج الرمزي والتنظيمات المقاومة الأكثر تركيبا.
وقد شهد عام 2024 انفجارا احتجاجيا في الجامعات الأمريكية، حيث سجلت أكثر من 2600 مظاهرة في يوم واحد، في أكتوبر الجاري، ما كشف الصراع الطبقي داخل المركز الإمبريالي ذاته: الأجيال الجديدة لم تعد تقبل الطاعة العمياء للهيمنة، بل تطالب بإعادة تعريف الشرعية السياسية والعدالة الاجتماعية. فكل قرار أمريكي على المستوى الدولي يقابله صدى داخلي، يذكر بأن الهيمنة لا يمكن أن تفرض ما لم يقبل بها الداخل أولا.
الصين، من خلال صناعاتها المعقدة ومعرفتها الاستراتيجية بالمعادن النادرة، وروسيا، بقدراتها العسكرية وصواريخها الفرط صوتية، تظهران أن الهيمنة الأمريكية تواجه مقاومة مدعومة بقدرة فعلية على الصمود والابتكار. هذه الهوامش تعيد رسم النظام الدولي وفق مصالحها، لتكشف أن الهيمنة الأمريكية ليست مجرد صراع على القوة وحدها، بل صراعا طبقيا عالميا متشابكا، تتقاطع فيه المصالح الاقتصادية مع الصراعات الجيوسياسية، لتفضح هشاشة المركز أمام تحولات القوة المادية الفعلية.
لم يعد الإعلام والثقافة والفنون كافية لإنتاج شرط السيطرة. الشعوب، مدفوعة بوعيها المتزايد، تعيد صياغة المعنى السياسي والثقافي وفق مصالحها، فتغدو الهيمنة الأمريكية في مأزق مستمر. الصراع هنا جدلي مزدوج: داخلي بين الطبقات، وخارجي بين المركز والهوامش، حيث تتقاطع القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية لإعادة إنتاج النظام وفق منطق مقاوم.
من فيتنام إلى أفغانستان، ومن العراق إلى اليمن وإيران، لم تنتج الحروب الأمريكية سيطرة مستدامة، بل استنزفت الموارد البشرية والمادية، بينما طورت الشعوب المستهدفة أشكالا مبتكرة من المقاومة، من الطائرات المحلية إلى شبكات البرمجيات والمنصات الإعلامية البديلة. لقد تحول كل تدخل عسكري أمريكي إلى اختبار لحدود الهيمنة، كاشفا أن القوة العسكرية، بلا قبول داخلي وخارجي، ليست سوى وهم في ثوب القوة.
لقد أبرزت الحرب في أوكرانيا هشاشة المركز الأمريكي: استنزاف الموارد، تفوق القدرات الروسية، وعجز الناتو عن فرض السيطرة. هذه الوقائع تؤكد أن الهيمنة لم تعد قابلة لإعادة إنتاجها بالقوة وحدها، وأن الصراع بين المركز والهوامش جدلي ومتعدد الأبعاد: اقتصادي، سياسي، عسكري، وثقافي، في ظل تضاد داخلي متزامن يعزز الانهيار البنيوي.
الهيمنة الأمريكية ليست مجرد سيطرة على الموارد أو تفوق عسكري، بل عملية إعادة إنتاج للمعنى الرمزي والاجتماعي والثقافي عبر صراع طبقي مستمر. الصراع بين البرجوازية المركزية والطبقات الشعبية، وبين المركز والهوامش العالمية، يجعل كل محاولة لإعادة إنتاج السيطرة مغامرة محفوفة بالفشل التاريخي. فالانهيار البنيوي ليس احتمالا، بل ضرورة تاريخية ناتجة عن تناقضات القوة والطبقات في العالم المعاصر، حيث يغدو التاريخ ساحة جدلية بين الهيمنة والمقاومة، بين المركز والهوامش، بين القوة والإرادة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟