أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - الحسن الهلالي - في الحاجة إلى جبهة وطنية موسعة للدفاع عن الجامعة المغربية وإسقاط مشروع القانون 59.24















المزيد.....


في الحاجة إلى جبهة وطنية موسعة للدفاع عن الجامعة المغربية وإسقاط مشروع القانون 59.24


الحسن الهلالي

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 00:53
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


0- كان مطلب إصلاح التعليم ووضع سياسة تعليمية وطنية، وما يزال، يتصدّر مطالب المصلحين والمثقفين والمنظمات النقابية والحركة التلاميذية والطلابية والقوى السياسية التقدمية والوطنية والهيئات الحقوقية في المغرب المعاصر. كما كان مطلب تعميم التعليم الجيّد والمجاني على جميع بنات وأبناء المغاربة من بين الأسباب الرئيسة للانتفاضات الشعبية التي عاشها مغرب ما بعد 1956، بدءًا بانتفاضة تلاميذ وطلاب الدار البيضاء في 23 مارس 1965 احتجاجا على القرار الحكومي القاضي بالحد من فُرَصِ الانتقال من الإعدادي إلى الثانوي، وصولا إلى حركة شباب جيل Z في سبتمبر 2025 الذي جعل مطلب إصلاح التعليم من بين مطالبه الرئيسة. وقد جرت، منذ مطلع القرن العشرين، محاولاتٌ عديدة لإصلاح التعليم كان دائمًا مآلها الإخفاق؛ ويعود السبب في ذلك إلى غياب الإرادة السياسية لوضع تصور وطني للمسألة التعليمية يشارك في بلورته جميع المعنيين والمتدخلين في العملية التربوية والتعليمية، تصور يستحضر أسئلة من قبيل: ما المعارف التي ينبغي أن يقدمها التعليم للمتعلّم في عصر الثقافة الرقمية والثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي والاعتماد على اقتصاد المعرفة باعتباره خيارًا بديلًا لتقدم المجتمعات؟ ما هو نموذج مواطن الغد الذي نريد تكوينه؟ أيُّ دور يمكن للتعليم والبحث العلمي أن يلعباه في إنتاج المعرفة العلمية وإشاعتها وإعداد المواطن المتشبع بالفكر العقلاني والحسّ النقدي، المواطن القادر على الإسهام في صنع القرار والتأثير في محيطه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي؟ وكيف يمكن للبحث العلمي أن يسهم في التنمية الوطنية وفي بناء اقتصاد وطني مستقل يحقّق الرفاه الاجتماعي للمواطنين والعدالة المجالية بين جهات المغرب، ويفك الارتباط بالغرب الامبريالي والصناديق والدوائر المالية العالمية؟ في هذا المنظور يفقد مشكل إصلاح التعليم طابعه البيداغوجي الصرف ليصبح مشكلا سياسيا ومشروعا مجتمعيا.
1- تعود أولى محاولات إصلاح التعليم العالي في المغرب المعاصر إلى بدايات القرن العشرين عندما احتكّ مثقفو وسلفيّو المغرب برواد النهضة في الشرق الإسلامي، واطّلعوا على ما عرفته جامعة الأزهر من إصلاح رفعها إلى مصافّ الكليات والجامعات العظيمة في العالم. ويعدّ محمد الحجوي من الأوائل الذين شغلهم موضوع إصلاح التعليم في مغرب الحماية الفرنسية؛ فشكّل، عندما عُيِّن في 1912 "نائب الصدارة العظمى في وزارة العلوم والمعارف"، لجنةً من علماء فاس أوكل إليها أمرَ إصلاح جامعة القرويين، ووضْعِ قانون أساسي "يكفل حياتها ورقيها". فتم التوصل إلى صياغة قانون أساسي توزّعت موادُّه المائة والاثنين (102) على كيفية تكوين نظام المجلس الأساسي وتحديد مهامه واختصاصاته، ووضع ضابط شهادة العَالِمِيَّة وامتحان طالبها، وتنقيح قائمة العلماء وطبقاتهم، وكيفية امتحان المدرسين، ونظام الدروس ومراقبتها والمواد والكتب المقررة وطرق التقييم، وضابط التقاعد، إلخ. غير أن هذه الرؤية الإصلاحية سيقاومها مَن يتعارض هذا النظام مع مصالحه، فظلَّ "المجلس صوريا لا حياة له ولا ظهور إلا في الحفلات الرسمية والمقامات التشريفية" (ينظر: الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، ج 4 ص: 31 وما بعدها).
كما كان همُّ إصلاح التعليم حاضرا عند أقطاب الحركة الوطنية؛ فخصّصت له كتلة العمل الوطني الفصل الخامس من برنامج الإصلاحات لعام 1934. واحتلت المسألة التعليمية الصدارة في مشاريع المثقفين المصلحين؛ فنشر علال الفاسي مثلا في عتبة النصف الثاني من القرن العشرين مقالات عديدة على صفحات جريدة "رسالة المغرب" دعا فيها إلى الاهتمام بالتربية والتعليم، وطالب بضرورة إصلاح لغة التعليم ومناهجه ومواده وتوحيد برامجه، وبمجانيته وإجباريته لكل البنين والبنات، ووقف عند ما تتطلبه مهنة التعليم من قواعد وأسرار وطرق، وما يُشترَط في المعلمين من صفات وتكوين للقيام بمهمتهم، ولم يغفل المطالبة بتكريمهم وتحسين وضعيتهم المادية.
2- ونميز في معركة إصلاح التعليم العالي في مغرب ما بعد 1956 بين مرحلتين أساسيتين: مرحلة مطالبة المنظمات النقابية والحركة التلاميذية والطلابية والقوى السياسية والنخبة المثقفة بالمشاركة الفعلية في صياغة مشروع وطني في مجال التعليم والتصدِّي لمشاريع الإصلاحات المخزنية التراجعية. ومرحلة التوافق والاستكانة والمطالبة بتوفير شروط إنجاح الإصلاح المبتور التي بدأت مع منتصف التسعينات من القرن العشرين.
1-2- شكّلت أفكار ومواقف أقطاب الحركة الوطنية في مجال إصلاح التربية والتعليم أرضية اعتمدت عليها "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم" في صياغة البديل الوطني في ميدان التعليم، فأقرّت في 1957 المبادئ الأربعة المعروفة: التعميم، والتوحيد، والتعريب والتكوين. غير أنّ هذه المبادئ لم يتم اعتمادها بوصفها مبادئ لتخطيط عام إلا مع المخطط الخماسي الأول 1960-1964 الذي أعدّته حكومة عبد الله إبراهيم في فترة عرف فيها المدُّ التحرري أوجَه عالميا وإقليميا ومحليا. وقد ربط هذا المخطط التعليم بالتنمية الشاملة: الصناعية والفلاحية والثقافية، ونظر إليه باعتباره قضية وطنية. ولما كانت برامجه تضرّ بمصالح البورجوازية الهجينة والأوساط الاستعمارية، نُظِّمت حملة قوية ضد الحكومة صاحبة المخطط، فأقالها محمد الخامس في 27 ماي 1960. وستتخلى الدولة تدريجيا وبطرق ملتوية في غالب الأحيان عن الاختيارات التي أقرّها المخطط الخماسي الأول، لتتبنّى في النهاية مخططًا ثلاثيا مضادًّا 1965-1967، تَمّ التراجع فيه عن المبادئ الأربعة وخاصة تعميم التعليم وتوحيده، وعن هدف "التحرير الاقتصادي" وإنشاء القاعدة الصناعية.
غير أنّه لم يكن من السهل التخلي دفعة واحدة عن هذه المبادئ في مرحلة كان من بين معاني "الاستقلال" عند عموم المغاربة تأسيس مدرسة وطنية بديلة توفِّر تعليمًا ديمقراطيا وموحّدا باللغة العربية لجميع بنات وأبناء المغاربة. لذلك، واجهت الجماهير الشعبية والقوى السياسية الوطنية والنخبة المثقفة بقوّة هذه السياسة التراجعية في مجال التعليم، وفرضت على الدولة استشارةَ النخبة السياسية المعارِضَة والنقابات التعليمية والحركة التلاميذية والطلابية قبل الإقدام على أيِّ مشروعِ تغييرٍ يهمّ السيّاسة التعليمية أو النظم التربوية القائمة. ذلك ما عشناه، مثلا، في 25 مارس 1965 حينما انتفض تلاميذ وطلاب الدار البيضاء احتجاجا على القرار الحكومي القاضي بالحد من فُرَصِ الانتقال من الإعدادي إلى الثانوي. وذلك ما جسَّدَتْه الأحزاب والنقابات والاتحاد الوطني لطلبة المغرب وجمعيات آباء وأولياء التلاميذ عندما أعلنت عن رفضها المطلق "لمذهب بنهيمة" التراجعي، الذي كان يهدف إلى التقليل من الإنفاق على التعليم عبر تضييق قاعدته من الأساس، وإلى عدم نشر الثقافة العليا التي يقدمها التعليم العالي رغم إقراره بأهميتها. ومن ذلك أيضا رفض مخرجات مناظرة "غابة المعمورة" ما بين 13 و30 أبريل 1964 حول التعريب والازدواجية. والمعارضة الشديدة لمَا أَعْلَنَ عنه الحسن الثاني بخصوص التراجع عن التعميم والتعريب في مناظرة إفران عام 1970.
وفي أواخر السبعينات وبدايات الثمانينات تفاقمت مشاكل التعليم العالي، واحتدّت أزمة النظام السياسي، وانتشر الفكر التقدمي التحرري في الجامعة وفي الأوساط الثقافية عامة. وشرع الدولة في تطبيق سياسة التقويم الهيكلي فقلصت من نفقات الخدمات الاجتماعية وعلى رأسها التعليم والصحة. وقد تزامن ذلك مع تحول نوعي في الفعل النضالي لأساتذة التعليم العالي، حيث أعلنت النقابة الوطنية للتعليم العالي استقلالها عن الاتحاد المغربي للشغل في مؤتمرها الأول المنعقد بفاس في 17 و18 مارس 1979 تحت شعار "من أجل جامعة ديمقراطية شعبية". وهو شعار يكثّف إشكالًا ما يزال مطروحًا إلى حدود الآن، وهو إشكال وظيفة الجامعة ودمقرطة تسييرها. وطالب بإصلاح حقيقي لنظام التعليم العالي، ولخّص قضاياه الجوهرية في "جمع شمل التعليم العالي"، و"مراجعة القوانين التنظيمية والتسييرية"، و"إقرار مخطط عام للاكتفاء الذاتي في مجال التدريس والتأطير" و"إقرار سياسة وطنية لإنماء البحث العلمي". واعتبر في بيانه الختامي أن أزمة التعليم العالي "جزء من أزمة عامة تتخبط فيها مختلف أسلاك التعليم الوطني، ونتاج طبيعي للسياسة الاقتصادية والاجتماعية المتبعة في بلادنا منذ الاستقلال والتي أدت إلى تفاحش الاستغلال وتعميق الفوارق الطبقية وتهميش القطاعات الاجتماعية". وبنفس النَّفَس والهمّ النضاليين انعقد المؤتمر الثاني في ماي 1981 تحت شعار "من أجل إصلاح للتعليم يستجيب للمطامح الديمقراطية للشعب المغربي، ولمتطلبات التحرّر الاقتصادي والاجتماعي"، والمؤتمر الوطني الثالث في نونبر 1983 بشعار "التعبئة من أجل تسيير ديمقراطي لمؤسسات التعليم العالي".
2-2- وعوض الانخراط في الحركيّة النضالية التي عرفتها القوى السياسية والحركة النقابية والحقوقية والثقافية والنسائية والإعلامية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، وتشكيل كتلة ضغط قويّة لحمل الدولة على مباشرة إصلاح حقيقي لمنظومة التعليم العالي وإرغامها على التراجع عن شروعها في خصخصة التعليم العالي، فضَّلَت قيادةُ النقابة الوطنية للتعليم العالي حلًّا توافقيا مختلَّ الموازين انخرط الجميع بموجبه في بلورة مشروع إصلاح مزعوم ينقذ التعليم من الإفلاس المحقّق. فلقد وصلت البلاد في نهاية التسعينات، بسبب السياسة التقشفية الناجمة عن سياسة التقويم الهيكلي، إلى وضعية كارثية اعترفت معها جميع المكونات المعنية بالتعليم بفشل المنظومة التعليمية. وتوهَّمت القيادةُ النقابيةُ ومكوّنُها المهيمِنُ أنّ من شأن خيارَ التوافق إصلاحُ هذه المنظومة ضمن سياسة عامة تدّعي إنقاذ البلاد مما سمي حينها بحالة الإفلاس الشامل. فتمّ التوافق بين النقابة الوطنية للتعليم العالي ووزارتي التربية الوطنية والأشغال العمومية وتكوين الأطر والتكوين المهني على إصدار أرضية لإصلاح التعليم العالي في يوليوز 1994. فأُحدِثت لجنة وطنية مكونة من ممثّلين عن هذه الهيئات الثلاث لإعداد مشروع الإصلاح البيداغوجي ومراجعة هياكل مؤسسات التعليم العالي وتنظيم البحث العلمي والدكتوراه الوطنية والنظام الأساسي الخاص بهيئة الأساتذة الباحثين. وفي مارس 1999 تمّ تشكيل اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين التي انبثق عن أشغالها "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، وصادق البرلمان على عدة قوانين ذات الصلة بإصلاح منظومة التعليم العالي من ضمنها القانون 01.00 المنظم للتعليم العالي. فتمّ في موسم 2003-2004 الشروع في تطبيق نظام إجازة-ماستر-دكتوراه المستنسخ من النظام الفرنسي بدون مراعاة حاجات البلاد وفي غياب البنيات التحتية والشروط المادية الضرورية والموارد البشرية اللازمة لإنجاحه، فأُحدِثت، بهاجس أمني محض، الكليات متعددة التخصصات للتخفيف من الاكتظاظ في الكليات ذات الاستقطاب المفتوح.
وقد تبيّن بعد مدة وجيزة من تطبيق هذا النظام أنّه لم يستطع إصلاح أعطاب منظومتنا التعليمية المتراكمة، ولم يحقّق الأهداف المرجوّة من التعليم العالي والبحث العلمي. فجاء المخطط الاستعجالي (2009-2012)، والرؤية الاستراتيجية 2015-2030، وقانون الإطار 51.17؛ فلم تعمل هذه الرتوشات والترقيعات سوى مزيد تعميق أزمة المنظومة. وعوض تقييم تجربة نظام الإجازة-الماستر-الدكتوراه وبلورة مشروع إصلاح وطني شامل ومتكامل لمنظومتنا التربوية والتعليمية، نظمت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي يومي 02 و03 أكتوبر 2018 لقاءً بيداغوجيا وطنيا بمراكش تحت شعار: "الجامعة المتجدّدة: الإجازة رهان التأهيل الأكاديمي والاندماج المهني". وقد حُدِّدَ موضوعُه في دراسة ومناقشة جميع السُبُل الممكنة من أجل ملاءمة التكوينات مع حاجيات سوق الشغل وتيسير اندماج الخريجين في المحيط الاجتماعي والاقتصادي. والواقع أنّ هذا الطرح مغلوطٌ ومضلِّلٌ؛ فليس من مهام الجامعة ولا من أدوارها تكوين الطلاب تكوينا مهْنيا، ثم إنّ المحيط الاقتصادي هو الذي ينبغي أن يُؤَهَّل ليستوعب الخريجين. وبالرغم من أنّه لم يرد الحديث على لسان أيّ واحدٍ من المشاركين في هذا اللقاء عن مشروع البكالوريوس، وتأكيد التقرير القطاعي للهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي في 2018 على "أنّه لم يعد من المطلوب إعادة النظر في نظام الإجازة-الماستر-الدكتوراه، بل يتعيّن تدعيمُه والعودة إلى فلسفته وضمان استمراريته لإتمام الإصلاح"، ستشرع الوزارة الوصية على قطاع التعليم العالي بشكل انفرادي في إعداد مشروع الباكالوريوس وتسابق الزمنَ، فتنظّم في 08 فبراير 2020 في قصر المؤتمرات أبي رقراق الولجة بمدينة سلا لقاءً بيداغوجيا وطنيا حول كيفية تنزيله، واجهته النقابة الوطنية للتعليم العالي بوقفة احتجاجية ناجحة، وَعَد على إثرها الوزيرُ الوصي على القطاع بتنظيم مناظرة وطنية لتقييم تجربة نظام إجازة-ماستر-دكتوراه. لكن الوزيرَ الأستاذ سعيد أمزازي لم يَفِ بوعده، فنزّلت وزارته بشكل أحادي في 2021-2022 هذا المشروع رغم رفض جلّ الأساتذة والنقابة الوطنية للتعليم العالي الانخراط في هذا الإصلاح المبتور ورغم عدم اعتماده رسميًّا من قبل الحكومة. وسيتراجع الوزير عبد اللطيف ميراوي، بجرّة قلم وبدون محاسبة المسؤولين عن تبذير المال العام وضياع الجهد والاستهتار بمستقبل آلاف الطلبة، عن مشروع سلفه سعيد أمزازي.
ومع ما اعتُبِر صحوة نضالية في 29 ماي 2022، وضعت اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي المنعقدة بكلية العلوم بالجديدة خطّة نضالية تصاعدية تبتدئ بخوض إضراب وطني أيام 07، 08 و09 يونيو 2022، مع الإبقاء على اجتماعها مفتوحًا من أجل اتخاذ الخطوات النضالية اللازمة بما فيها مقاطعة الدخول الجامعي 2022-2023. وبعد مخاض طويل وجلسات حوار مكثّفة، تمت يوم الخميس 20 أكتوبر تحت إشراف رئيس الحكومة مراسيم توقيع الاتفاق بين النقابة الوطنية للتعليم العالي ووزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار والوزير المنتدب المكلف بالميزانية لتأهيل وتجويد منظومة التعليم العالي. وقد تضمّن هذا الاتفاقُ ثلاثةَ محاور رئيسة، "مرتبطة بتعزيز آليات الحكامة على ‏مستوى مؤسسات التعليم العالي وذلك بمراجعة القانون 00-01 المنظم للتعليم العالي، وتحفيز الأساتذة الباحثين بالتعليم العالي وتثمين ‏مجهوداتهم، وتفعيل مخطط تسريع تحوّل منظومة التعليم العالي والبحث العلمي ‏والابتكار"، و"إطلاق أجرأة الإصلاح البيداغوجي الشامل مع بداية ‏الموسم الجامعي 2023-2024". واضح، إذن، أنّ بنود هذا الاتفاق المشترك تدور حول الإصلاح الشمولي: الإصلاح البيداغوجي والنظام الأساسي والقانون المنظّم للتعليم العالي.
والواقع أنّ الأساتذة، بصفتهم مجالسَ شعب ومجالسَ مؤسساتٍ وجامعات ومجالسَ مختبرات ولجنةً إداريةً، لم يناقشوا مشروع القانون المنظم للتعليم العالي، بل ولم يطّلعوا عليه عبر القنوات الرسمية، ولم يشاركوا في الإصلاح البيداغوجي. لقد غُيِّب، عن قصد، نقاش الإصلاح البيداغوجي والقانون المنظّم للتعليم العالي، وتمّ إلْهَاءُ الأساتذة بالنظام الأساسي وبمقدار الزيادات الهزيلة ونظام الترقي. وقد شرعت الوزارة الوصيّة، بموجب هذا الاتفاق، في مأسسة التعاقد في التعليم العالي وترسيم رداءة التكوين عبر وضع إطار قانوني في النظام الأساسي لتعاقد الطلبة الدكاترة واستغلالهم في التأطير والتدريس للتغلب على الخصاص المهول في الموارد البشرية، عوض خلق المناصب المالية اللازمة، وتوفير الشروط الضرورية للطلبة الدكاترة من منحة وأحياء جامعية ومختبرات مجهزة لإنجاز أطارحهم في ظروف ملائمة. أمّا بخصوص الإصلاح البيداغوجي، فقد أصدرت أغلب شُعَب مؤسسات التعليم العالي وجلّ المكاتب المحلية والجهوية وبعض مجالس التنسيق بلاغات وبيانات نبّهت إلى التراجعات التي يحملها مشروع الأستاذ ميراوي وعبّرت عن رفضها المطلق له. غير أنّها لم تجد، للأسف الشديد، أيَّ مساندة من المكتب الوطني الذي يُفترَض فيه تنسيق هذه الحركية وتوحيدها. يضرب هذا المشروع في الصميم هويةَ التكوينات والتخصصات ويفرغها من محتواها، ويزيد من تأزيم التعليم العالي المترهّل أصلًا؛ ومن أمثلة ذلك حذف الكثير من المواد والوحدات الأساسية في جميع المسالك والتخصّصات، وتقليص الغلاف الزمني لوحدات أساسية أخرى عبر دمج مادتين في مادة واحدة؛ ترسيم تعليم اللغات والمهارات عن بعد تمهيدًا لجعله بديلًا عن التعليم الحضوري، إلخ؛ ابتداع منحة التميّز للطلبة الدكاترة مقابل تدريس مادتين بغلاف زمني محدّد في تسعين (90) ساعة مدّعيةً دعم الطلبة الباحثين وتشجيعهم، وهي في الواقع وسيلةٌ للتخلّص من تحمّل مسؤولية الإنفاق على التعليم العالي وحطٌّ من جودة التكوين، فكيف يُعقَل أن يقوم طالبٌ في السنة الأولى من سلك الدكتوراه بمهمة التدريس؟؟
ثم جاء الوزير عز الدين الميداوي، فأكّد في بلاغ مشترك مع المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم العالي في 12 ماي 2025 "مواصلة أجرأة الاتفاقات السابقة، خاصّة ما ورد في اتفاق 20 أكتوبر 2022"، واتفق مع المكتب الوطني على فتح نقاش موسّع حول مشروع القانون المنظم للتعليم العالي "يُتَوَّجُ، حسب البلاغ، بندوة أو يوم دراسي قبل عرضه على المسار التشريعي". غير أنّه لم يف، مثل سابقيه الوزراء الذين تعاقبوا على التعليم العالي، بهذه الوعود ولم يلتزم بالمقاربة التشاركية؛ فأصدر في 04 غشت 2025، في خرق سافر للمقاربة التشاركية التي أصبحت شعارًا للاستهلاك والإلهاء ليس إلّا، إصلاحًا بيداغوجيًّا جزئيًّا. وشرع في 28 غشت في عرض مشروع القانون المنظم للتعليم العالي المشؤوم 59.24 على المسطرة التشريعية. وهو قانون ينطلق من الاختيارات التنموية والسياسات العمومية المسؤولة عن إفلاس منظومة التعليم العالي، ويناقض أهم مطالب النقابة الوطنية للتعليم العالي التاريخية والمتمثّلة في دمقرطة تسيير التعليم العالي، وتوحيد الجامعة المغربية، ومجانية التعليم العالي وتجويده، وتشجيع البحث العلمي وتوفير شروط إنجازه لتكون فعلًا الجامعة قاطرة للتنمية الوطنية؛ إنّه قانون يهدف إلى تأبيد البيروقراطية، ودعم التعليم العالي الخصوصي وتشجيعه، وترسيم التكوين المؤدَّى عنه، ومأسسة التعليم عن بعد، وتكريس بلقنة التعليم العالي، وتقليص تمثيلية الأساتذة في مجالس الجامعات وتحويلها إلى هياكل شكلية، وإخضاع تسيير الجامعات لسلطة الداخلية عبر خلق ما يسمى "مجلس الأمناء"، وترسيم منتدى رؤساء الجامعات وشبكات رؤساء المؤسسات الجامعية، وضرب استقلالية الجامعة.
لقد عجّلت هذه القرارات التراجعية باجتماع اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي بتاريخ 14 شتنبر 2025، فطالبت بتجميد مشروع القانون 59.24 من مسطرة المصادقة وإعادته إلى طاولة الحوار، وأكّدت تمسُّكَها بمقاطعة أي تعديل بيداغوجي ما لم يشارك الأساتذة عبر هياكلهم التمثيلية في بلورته، وأعلنت عن خوض برنامج نضالي تصعيدي يبدأ بإضراب إنذاري عن العمل لمدة 24 ساعة يوم 17 شتنبر 2025، تعقبه أشكال احتجاجية تصعيدية، وفوّضت للمكتب الوطني صلاحية تدبيره وتوسيعه وفق تطورات الملف، وقرّرت الإبقاء على اجتماعها مفتوحًا. ثم باشر المكتب الوطني سلسلة من اللقاءات والحوارات مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، فتبيّن أنّها غير مجدية خاصّة عندما نُشرت دفاتر الضوابط البيداغوجية في الجريدة الرسمية وأُحيل مشروع القانون المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي على البرلمان؛ فقرّر المكتب الوطني "الدعوة إلى خوض إضراب وطني لمدّة 48 ساعة يومي 07 و08 أكتوبر 2025، ومباشرةَ الاتصال بمختلف الهيئات السياسية والنقابية والحقوقية والمدنية وكل مكونات الجامعة قصد تأسيس جبهة وطنية للدفاع عن التعليم العالي والجامعة العمومية". كما خاض موظفو التعليم العالي والأحياء الجامعية سلسلة من الإضرابات لحمل الوزارة على التراجع عن هذا القانون المشؤوم. ويبدو من خلال سلوك الوزارة أنّها مصمّمة على فرض منظورها التراجعي غير الشعبي وغير الديمقراطي لإصلاح منظومة التعليم العالي.
3- نستخلص من هذه التجارب أنّ إصلاح التعليم في المغرب لن ينجحَ ما لم يتزامن مع إصلاح الدولة وبناء نظام سياسي ديمقراطي؛ لأنّ مشكل التعليم في المغرب في جوهره مشكلٌ سياسي ملازم لطبيعة النظام السياسي القائم. إنّ معركة إصلاح التعليم جزء لا يتجزأ من معركة بناء مغرب الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمجالية والمساواة الفعلية. وإصلاح التعليم العالي والبحث العلمي، إذا أريد له أن يحقّق الأهداف المرجوّة منه، يحتاج إلى تقويم يأخذ بملاحظات واقتراحات كل المعنيين والمتدخلين في العملية التربوية والتعليمية من أساتذة وطلبة ومثقفين وفاعلين حقوقيين وسياسيين واجتماعيين وجمعويين وغيرهم. إنّ من شأن إشراك هؤلاء جميعًا والعمل بآرائهم ومقترحاتهم وتوصياتهم أنْ يسهم فعلًا في وضع نظام تعليمي وطني ديمقراطي حداثي؛ نظام يحقّق آمال المغاربة في الحرية والديمقراطية والكرامة والعيش الكريم.
لقد اتضح بما لا يدع مجالًا للشكّ أنّ خيار التوافق لن يفضي إلّا إلى مزيد تأجيل فرض إصلاح التعليم العالي ودعم البحث العلمي وتشجيعه. إنّ التقييم الموضوعي لأداء النقابات التعليمية والإطارات المعنية بالتربية والتكوين والقوى السياسية يقتضي استحضار السياق المغربي العام في العقود الثلاثة الأخيرة؛ فلقد عرف المغرب في بداية التسعينات مدًّا نضاليًّا مناسبًا، فأخلفت النقابات والقوى السياسية الموعد. ثم عرف منذ 2009 حركية نضالية اجتماعية غير مسبوقة تمثّلت في ظهور تنسيقيات مواجهة غلاء الأسعار وتدهور الخدمات الاجتماعية، وعرفت هذه الحركية أوجَها مع حركة 20 فبراير في 2011، وعوض الانخراط في هذا الحراك الشعبي لفرض الإصلاح المنشود والإسهام في سنّ سياسة تعليمية وتربوية وطنية بديلة فضّلت القيادات النقابية والقوى السياسية المسماة وطنية والمثقفون السِلْم الاجتماعي وتحييد نساء ورجال التعليم عن الصراع الاجتماعي العام، ففوَّتت عليهم مرة أخرى فرصة إصلاح ما يمكن إصلاحه من نظُمنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتعليمية التربوية والثقافية.
ونعتقد أنّه بالنظر إلى هذا الهجوم غير المسبوق على التعليم العالي والمدرسة المغربية، وبالنظر إلى ما يعتمل في المجتمع مع حراك شباب جيل Z الذي يضع إصلاح المدرسة والتعليم ضمن مطالبه الرئيسة، وبالنظر إلى دور التعليم والتكوين والبحث العلمي في تقدّم المجتمعات ورُقُيّها، وأهمية خيار الاستثمار في العنصر البشري، لا بديل للقوى المناضلة وحرائر وأحرار هذا الوطن عن التعبئة والعمل على خلق جبهة وطنية موسّعة للدفاع عن الجامعة العمومية ومن أجل إسقاط القانون 59.24 الذي سيدقّ آخر مسمار في نعش الجامعة المغربية. فشعبنا يسْتَحق تعليما عموميا ديمقراطيا حداثيا جيدا ومجانيا، ويستَحِقُّ بحثا علميا يأخذ بعين الاعتبار مواردنا الطبيعية ويسهم في تحقيق الإقلاع الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، ويحقق آمال المغاربة في الحرية والديمقراطية والكرامة والعيش الكريم.



#الحسن_الهلالي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إصلاحُ الوزير ميراوي البيداغوجيّ تعميقٌ لأزمة الجامعة المغرب ...
- ملاحظات حول نتائج الحوار مع الحكومة المغربية وأداء النقابة ا ...
- السياسة التعليمية بالمغرب على عهد الحماية الفرنسية: الأسس وا ...
- السياسة التعليمية بالمغرب في عهد الحماية الفرنسية: الأسس وال ...
- قراءة في مشاريع إصلاح التعليم العالي بالمغرب


المزيد.....




- اجتماعات القاهرة للفصائل الفلسطينية: بحث إدارة غزة بعد الحرب ...
- كريستيانو رونالدو: المليار دولار كان هدفي منذ زمن ولم يفاجئن ...
- نيجيريا ترد على تهديدات ترامب: دستورنا يمنع أي اضطهاد ديني
- الهيروغليفية: لغة تبعث من جديد؟
- الرئيس إيمانويل ماكرون يعلن الإفراج عن الفرنسيَين سيسيل كولر ...
- ما الذي يعنيه قرار ترامب استئناف اختبار الأسلحة النووية الأم ...
- سيارته الرياضية علقت بالهواء.. نجاة تسعيني ألماني من الموت ف ...
- جنيفر لورانس تنتقد إقحام النجوم في السياسة وتستعد لعمل مع سك ...
- الاتحاد الأوروبي في مفاوضات اللحظات الأخيرة لضبط أهدافه المن ...
- إصابة لبناني بغارة إسرائيلية وعون: استمرار الاحتلال يعرقل خط ...


المزيد.....

- أساليب التعليم والتربية الحديثة / حسن صالح الشنكالي
- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - الحسن الهلالي - في الحاجة إلى جبهة وطنية موسعة للدفاع عن الجامعة المغربية وإسقاط مشروع القانون 59.24