جهاد حمدان
أكاديمي وباحث وناشط سياسي
(Jihad Hamdan)
الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 09:47
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
الأحمر سيّد الألوان، قلب الطيف النابض بالحياة. فيه يلتقي الضوء بالعتمة، والنار بالندى، والنبض بالسكينة. لون يتسع للحب، والغضب، والحلم، الثورة.
الأحمر القاني، القرمزي، الكرزي، النبيذي، الوردي المحمّر: كلّها ظلالٌ لجوهرٍ واحدٍ لا يُرى كاملًا إلا حين يتعدّد. وهذا التعدّد في طيف الأحمر ليس مجرّد تنوّعٍ بصري، بل درسٌ فلسفيٌّ يطبع الوجود نفسه: فلا حياة بلا اختلاف، ولا وحدة بلا ظلال، ولا جوهر بلا حركةٍ دائمةٍ بين البوح والصمت. لكنّ الأحمر، في لحظةٍ من تاريخه، انحنى على نفسه وضاق بطيفه، وصار ينظر إلى تعدديته من علٍ، نظرةَ استعلاءٍ واستكبار، تنطوي أحيانًا على إشاحة الوجه عنها، وتفضي أحيانًا أخرى إلى نبذها ومحاصرتها.
وقد تجلّت تلك اللحظة في عالم الفكر والفلسفة والسياسة حين جعل الحزب الشيوعي السوفياتي من نفسه مركزًا وحيدا للعقل الأممي،
وصارت اجتهاداته السياسية والفكرية تُنسخ حرفيًا في سائر الأحزاب الشيوعية، ينقلها الرفاق وتتداولها القيادات والقواعد بوصفها نصوصًا مقدّسة لا تحتمل المراجعة إلا من منتجيها، وإنّ لم يقل أحدٌ علنا إنّها كذلك. فخبت حرارة الفكرة خلف جدران الطاعة،
وتحوّل اللون من طيفٍ من الاجتهادات إلى لون ظلّي واحدٍ يقرر وينهى، يُعطي ويحرم.
ومن هيمنة الطيف الفاقع على بقية الأطياف وُلد الانقسام: انشقّ الأحمر إلى طيفين قطبين منذ عام 1960 ووصل التوتر إلى حد الاشتباكات المسلحة عام 1969. اتحادٍ سوفياتيٍّ يزهو بإنجازاته الفكرية والعلمية والعسكرية، وصينٍ بزغت شمسها واختارت أن تُعظِّم طيفها، مدفوعةً بانتصارها وتضحياتها وثِقَلِ سكّانها وفرادَة تراثها.
لم يكن الانقسام مجرّد خلافٍ سياسيٍّ أو صراع نفوذ، بل تجلّى فكريا وفلسفيا أيضا. حدث هذا حين رفض اللون ظلاله، وحين نسي أنّ تعدّده هو سرّ بقائه.
وفي غياب أممية شيوعية تتابع شؤونها ضمن منظومة ديمقراطية، لم تتفكّر أحزاب أطياف اللون الأحمر خارج القطبين في ما كان يعتمل داخل كلٍّ منهما. ومنْ دار منها في فلك أيٍّ من القطبين ظلّ معه، يستمع ويطيع، ويمدح ويشتم. ولأنّ القيادة والنفوذ دالا للحزب الشيوعي السوفياتي، فمن الحكمة التساؤل: هل ظلّ طيفه ثابتًا منذ انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى عام 1917 بقيادة لينين وحتى اغتصاب غورباتشوف الحكم (بالانتخاب!) في 11 آذار 1985، وانتهاجه سياسة الإصلاح "الغلاسنوست" و"البيريسترويكا" وسط تأييد داخلي كاسح وتهليل أممي "لا يتسامح مع التشكيك"، إلى أنْ استقال يوم 25 كانون الأول 1991، وانهار الاتحاد السوفياتي وسط تصفيق أمريكا وحلفائها وإعلانها النصر على الشيوعية. لقد انتصر الأبيض اصطلاحًا (الأسود حقًّا) بأطيافه على الأحمر بأطيافه، ولم يرَ الإمبرياليون بقيادة أمريكا حينها في القطب الصيني (الأحمر الأصفر) تهديدًا جدّيًا، فلم يستعجلوا المعركة المكشوفة معه.
غير أنّ فهم هذا الانهيار لا يكتمل من دون التوقّف عند التحوّلات العميقة التي عاشها الاتحاد السوفياتي نفسه. فهناك من يرى أنه منذ ثورة أكتوبر بقيادة لينين وحتى رحيل ستالين عام 1953، عاش الاتحاد مرحلته الثورية الأصيلة، حيث بنى البلاشفة مجتمعًا اشتراكيًا أنهى الاستغلال الطبقي ووفّر الرفاه المادي والثقافي لشعوبه، ورفع راية الشيوعية فوق برلين بعد سحق النازية، ونجح لاحقا في شل التفوق الذري الأمريكي، ومنع تكرار كارثة هيروشيما ونغازاكي عندما امتلك قوة الردع الذرية. في تلك الحقبة كانت السوفييتات، مجالس العمال والفلاحين، أرقى أشكال الديمقراطية الشعبية، وكانت الخطط الخمسية تسير بثبات نحو بناء مجتمعٍ لا طبقي. وهناك من تساءل نظريا، بعد انهيار التجربة الاشتراكية، عن جدوى حظر لينين ورفاقه الأحزاب الاشتراكية الأخرى في روسيا واعتبارها خارج طيف اللون الأحمر. فهل لو استمرت في العمل السلمي كمعارضة، وتُرك حسم شرعيتها من عدمه لصندوق الانتخاب كان سيسهم في إنقاذ التجربة الأولى للاشتراكية؟ التاريخ لا مكان فيه لكلمة "لو" إلا لاستخلاص العبر والدروس، وهذا هو جوهر أطروحة هذا المقال.
لكنّ هذا المسار المحمل بالأمل تبدّل بعد المؤتمر العشرين للحزب في شباط 1956 حيث تسلّلت التحريفية، فبدأ الانحراف عن المبادئ اللينينية. وتواصل التراجع حتى عهد غورباتشوف، الذي فتح الباب أمام الرأسمالية المقنّعة باسم الغلاسنوست والبيريسترويكا، فاسحا الطريق لتفكك الدولة السوفياتية، وإنهاء التجربة الاشتراكية.
واليوم، بعد عقودٍ من الانهيار، تُظهر بعض الاستطلاعات، ومنها ما أورده تقرير موسكو تايمز في آذار 2020 بأنَّ 75٪ من الروس يعتبرون الحقبة السوفياتية "أفضل زمن في تاريخ بلادهم". لكنّ هذا الحنين لا يُترجم بالضرورة إلى رغبةً في استعادة النظام القديم، بل إلى توقً لقيم العدالة والمساواة التي افتقدها كثيرون في زمن السوق والرأسمال. والآن بعد سنوات من الحرب ضد أوكرانيا التي احتوى حلف الأطلسي قيادتها فصارت تشكل تهديدا خطيرا للمصالح الروسية الاستراتيجية، هل سيعيد الروس ما قالوه لو إجري استطلاع مشابه؟
ومع غياب الاتحاد السوفياتي، مع ما حمله ذلك من خسارة فادحة لقوى السلم والتقدّم والاشتراكية، وللشعوب التي كانت ترى فيه سندًا ضدّ الاستعمار والهيمنة، وبزوغ فجر الصين بطيفها الذي تسميه الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وتحقيقها نجاحات باهرة في "المنافسة الاستراتيجية" مع الولايات المتحدة، انفتح الأفق مجددًا لعودة اللون إلى جوهره. ومما يشجع على هذا التقدير أنّ الحزب الشيوعي الصيني لا يسعى إلى وضع أطراف الطيف الأحمر الأخرى تحت عباءته السياسية والأيديولوجية. ولا أحد من الشيوعيين الآن يتحدث عن مركز ومدارات. فالأحمر لم يختفِ، بل بدأ رحلته لتجديد عباءته واستعادة تعدديته.
اللون الذي بنى أول دولة اشتراكية لم يكن إلا ظلًّا واحدًا. واليوم يرى الأحمر كماله في احتفاء بقية الأطياف بخصوصيتها ووحدتها، وإدراكها أنّ الاشتراكية ليست نسقًا مغلقًا ولا وصفة لا تتغير مكوناتها، بل فكرة حيّة تتجدد كلّما لامست الواقع وتفاعلت معه.
لقد انتهى زمن المنتج الواحد للأفكار الذي يستهلكها الرفاق الكسالى حول العالم، وانتهى زمن الحزب الرفيق الأكبر الذي على بقية أطياف اللون تبنّي مواقفه من مختلف القضايا، صغيرها وكبيرها، من دون إعمال النقد المهموس والمسموع والتمسك بحق الاختلاف وممارسته.
اليوم، أمام هذا الواقع الجديد، هل نحلم بانبعاث مفكرين تحت الراية الحمراء ينكبّون على الفكرة، يمحّصونها ويقلبونها ويمزجونها بتراب بيئتهم، فتظهر هنا في القرمزيّ، وهناك في الأحمر القاني، وفي موضعٍ ثالثٍ في نبيذيٍّ يباهي بأصالته؟
ذلك هو وعد اللون حين يتحرّر من صرامته، وحين تعود إليه روحه الأولى: أنْ يكون طيفًا من الفكر والحياة، في إطار الوحدة والاختلاف. وحين يدرك الأحمر أنّ في ظلاله خلاصه، وفي تعدّده عظمته، سيعود كما كان يوم وُلد: رايةً لا يحدّ من سموّها سماء، ولا من اتساعها فضاء.
#جهاد_حمدان_Jihad_Hamdan (هاشتاغ)
Jihad_Hamdan#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟